الطحاوي (ت321)
قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (3|809): «وكان أولاً شافِعياً، يقرأ على المزني (صاحب الشافعي). فقال له يوماً: "والله لا جاء منك شيء". فغضِبَ من ذلك، وانتقل إلى ابن أبي عمران (قاضي مصر الحنفي). فلما صنّف مختصره، قال: "رحم الله أبا إبراهيم، لو كان حيّاَ لكفّر عن يمينه"». وقد أعاد ابن حجر هذه القصة في لسان الميزان (1|275)، لكن مع تطويلٍ ولمزٍ وغمز في الطحاوي، كعادته في تراجم علماء الأحناف. فيما يغض النظر عن أخطاء أبناء مذهبه –الشافعية– وإن عظمت.
قال مسلمة بن قاسم الأندلسي في كتاب "الصلة" عن الطحاوي: «كان ثِقَةً، جليل القدر، فقيه البدن، عالماً باختلاف العلماء، بصيراً بالتصنيف. وكان يذهب مذهب أبي حنيفة. وكان شديد العصبية فيه». وقال عنه أبو بكر محمد بن معاوية بن الأحمر القرشي: «وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، لا يرى حقاً في خِلافه». قلت: رحم الله الطحاوي، فلو أراد أن يكون إماماً مجتهداً لفعل، فقد جمع بين علمي الفقه والحديث. وما يجتمع ذلك إلا للقليل. ولكن حملته عصبيته على خاله المزني إلى التعصب لمذهب أبي حنيفة. ولو أنه تعصب لسنة رسول الله r لكان ذلك خيرٌ له عند ربه.
قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1|353) –بعد أن ذكر كلاماً للطحاوي في حديث "مس الذكر"، فتعقّبه– قال: «أردت أن أُبيّن خطئه في هذا. وسَكَتّ عن كثيرٍ من أمثال ذلك. فبيّنَ في كلامه أن علم الحديث لم يكن من صناعته. وإنما أخذ الكلمة بعد الكلمة من أهله، ثم لم يُحكِمها»، وهذا عندي فيه مبالغة. ويتهمه أيضاً (1|219) بـ«تضعيف أخبار صحيحة عند أهل العلم بالحديث حين خالفها رأيه، وتصحيح أخبار ضعيفة عندهم حين وافقها رأيه... وتسوية الأخبار على مذهبه، وتضعيف -ما لا حيلة له فيه- بما لا يضعف به، والاحتجاج بما هو ضعيف عند غيره». كما يذكر أنه «يحتج في كتابه بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على ضعفه في الرواية».
قلت: هذا حق لكن لم يكن البيهقي بأحسن منه، بل هو نظيره عند الشافعية. فكان الطحاوي لو وجد حديثاً يستدل به الشافعية، بالغ في رده وفي تبيين عِلَله، مع سكوته على الأحاديث التي تؤيد الأحناف. وكان البيهقي يفعل العكس. وكم من حديثٍ موضوعٍ سكت عنه البيهقي لأنه يؤيد مذهب الشافعية. هذا مع معرفة كلاهما بالفقه والحديث واللغة وعلوم الدين. قال ابن الجوزي في "التحقيق" (1|23): «و ألوم عندي ممن قد لُمتَهُ من الفقهاء جماعة من كبار المحدثين، عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصَنّفوا في ذلك. فإذا جاء حديثٌ ضعيفٌ يخالف مذهبهم، بَيّنوا وجه الطعن فيه. وإن كان موافقاً لمذهبهم، سكتوا عن الطعن فيه. وهذا يُنبئ عن قِلة دينٍ وغَلبةِ هوى».
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (8|195): «الطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم. ولهذا روى في "شرح معاني الآثار" الأحاديث المختلفة. وإنما يرجّح ما يرجحه منها -في الغالب- من جهة القياس الذي رآه حجة، ويكون أكثرها مجروحاً من جهة الإسناد لا يثبت. ولا يتعرض لذلك، فإنه لم تكن معرفته بالإسناد، كمعرفة أهل العلم به. وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالماً». وقال الحافظ ابن رجب في "شرح العلل" (1|332 همام): «الطحاوي من أكثر الناس دعوى لترك العمل بأحاديث كثيرة. وعامة هذه الأحاديث قد ذكرناها في مواضعها من الكتاب».
فترك العمل بالحديث قد يكون بالقول بنسخه بدون دليل واضح، كما فعل الطحاوي في شرح معاني الآثار (1|493) في مسألة الصلاة على الجنازة في المسجد. فقد ذهب إلى نسخ حديث عائشة (الذي أخرجه مسلم في صحيحه #973) بحديث أبي هريرة (مع ضعفه). قال الطحاوي: «فصار حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة رضي الله عنها لأنه ناسخ له»! وهو أمر لا يصح لا دراية ولا رواية.
البيهقي (384-458هـ)
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (5|510): «البيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم». قلت: قبّح الله هذه العادة الذميمة. وقال كذلك (في تلخيص كتاب الاستغاثة ص78 ط. الغرباء) في الرد على البكري: «والبيهقي... من أقلهم استدلالاً بالموضوع. لكن يروي في الجهة التي ينصرها من المراسيل والآثار ما يصلح للاعتضاد، ولا يصلح للاعتماد. ويترك في الجهة التي يضعفها ما هو أقوى من ذلك الإسناد».
وقال شيخ الإسلام كذلك في
مجموع الفتاوى (24|154): «وإن كان البيهقي روى هذا، فهذا مما أُنكِرَ عليه. ورآه
أهل العلم: لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه، كما يستوفي الآثار التي له. وأنه يحتج
بآثار لو احتج بها مخالفوه، لأظهر ضعفها وقدح فيها. وإنما أوقعه في هذا -مع علمه
ودينه- ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي موافقة لقول واحد من العلماء
دون آخر. فمن سلك هذه السبيل، دحضت حججه، وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق. كما
يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأوّلها -في كثير من المواضع- بتأويلات يَـبـيـنُ فسادها،
لتوافق القول الذي ينصره. كما يفعله صاحب "شرح الآثار" أبو جعفر (الطحاوي)، مع أنه
يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي. لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها
وسقيمها، أكثر من الطحاوي». ولذلك انتقده الزيلعي في "نصب الراية" (1|19) ورماه
بالتحامل.
وكان البيهقي متأثراً بمذهب الأشاعرة. قال المعلمي في التنكيل (1|345): «وإني والله ما آسى على ابن فورك، وإنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك وغيره رعباً، فاستسلم لهم وانقاد وراءهم». وأما عن مرتبة البيهقي في معرفة الحديث، فبالرغم من معرفته بمنهج المتقدمين، لكنه متأثر كذلك بمنهج المتأخرين. لذلك يقول المعلمي (1|477): «ابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي».
وذكر الذهبي في "السير" (18|165) و "تذكرة الحفاظ" (3|1132)، وكذا الحافظ ابن عبد الهادي في "طبقات علماء الحديث" (3|329): أن البيهقي لم يكن عنده السنن الثلاث: الترمذي والنسائي وابن ماجة. وقال زاهد الكوثري في حاشية كتابه "إحقاق الحق": «مع أن البيهقي لم يكن عنده من الأصول الستة غير: الصحيحين وسنن أبي داود، ولا كان عنده مسند أحمد. ومن يكون حاله هكذا في الحديث، لا يكون بالمنزلة التي يعتقدها أهل مذهبه له». لكن وقع للبيهقي عدد من الكتب القيمة والموسوعات الكبيرة (مثل مستدرك الحاكم)، فلعل هذا يغني بعض الشيء، والله أعلم. وأما كتب الشافعي فقد كانت له معرفة كاملة بها.
وقال أحمد الغُمَاري في كتابه "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير"
(ص6): «المؤلّف (أي السيوطي) يعتمد كثيراً على قول البيهقي: إنه لا يُخرج في كتبه
حديثاً يعلم أنه موضوع. وليس كذلك، بل يخرج الموضوعات بكثرة». وقال في (ص48) عند
حديث "الدنيا سبعة آلاف، أنا في آخرها ألفاً" الذي أورده السيوطي عن البيهقي في
"الدلائل" (واستدل به السيوطي على أنه آخر المجددين!): «قال الحفاظ: موضوع. ولو كان
المؤلفُ (السيوطيّ) في عصرنا، لاستحى أن يذكره. وكذلك البيهقي الذي زعم أنه لا يخرج
حديثاً يعلم أنه موضوع». وقال في (ص73) عند حديث
"العرب للعرب أكفاء، والموالي للموالي، إلا حائكاً أو حجاماً" الذي رواه السيوطي عن
البيهقي في "السُّنن": «عجباً للبيهقي الذي يُخرج هذا الباطل في "سننه"، ويزعم أنه
لا يخرج في كتبه حديثاً يعلم أنه موضوع! مع أنه لا يَشكّ في وضعه طالبُ حديث!». وقد نبه في كتابه المذكور إلى
طائفة من الأحاديث التي رواها البيهقي في كتبه وهي موضوعة، تجدها في: (ص9، 26، 35،
77، 79، 102).