منهج ابن عدي

 

قال الذهبي في ترجمة ابن عدي: «وجرَّح وعدَّلَ وصحَّح وعلَّلَ، وتقدَّم في هذه الصناعة على لحنٍ فِيهِ، يظهَرُ في تأليفِهِ». قال الشيخ خلف سلامة: «من محاسن النقد عند ابن عدي هو جمعه واستقراؤه ما لعله يستنكر من حديث الراوي المتكلم فيه، ثم النظر في تلك الأحاديث وطرقها، وبيان من الذي حقه أن يكون الحمل عليه فيها إن وجد فيها ما يستنكره. ولكن ابن عدي في مواضع كثيرة من كتابه "الكامل" كثير الدفاع عن المضعفين وجماعة من الضعفاء بل وبعض المتهمين. ويظهر لي أن أكثر نظره عند اعتباره أحاديث الراوي وسبرها، إنما كان يتوجه إلى متونها دون أسانيدها. ثم هو فوق ذلك، قليل الاستنكار للمنكر من الأحاديث، بطيء جداً عن ادعاء النكارة فيها ووصفها بها. وهو لا يكاد يلتفت إلى الإغراب في السند أو النكارة الواقعة فيه، بل هو كثير الدفاع عن الأحاديث التي فيها غرابة بينة أو يسير من النكارة. أي يكثر منه أن يدافع عن الأحاديث التي لا تفحش نكارتها أو التي لا تكون نكارتها بينة واضحة. وهذا –كما هو بيّن– من أسباب التساهل في الأحكام على الرواة وتقوية بعض الضعفاء. ولا سيما أن عدم النكارة في حديث الراوي، يلزم منها عند ابن عدي قوته –في كثير من الأحيان– ولو وجد في ذلك الراوي تجريحاً صريحاً. وهكذا انتهى ابن عدي رحمه الله تعالى إلى تقويته طائفة كبيرة من المختلف فيهم، والدفاع عن جملة من المتهمين أو المجاهيل. هذا وقد تبين لي من متابعة كلمات ابن عدي في الرواة المتروكين والضعفاء في كتابه "الكامل"، أنه يريد بالنكارة، وبمشتقاتها من الكلمات أو مثيلاتها من العبارات، معنى هو أشد وأسوأ معانيها عند الجمهور».

 

وقال الحويني في "النافلة" (2|145): «وزعم (أحد المعاصرين) أن ابن عدي مشهور بالإفراط في الجرح! مع أن ابن عدي معروف بأنه وسط. وجانب التسامح عنده أظهر جداً من جانب الجرح». وقال مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل" (1|42): «إن ابن عدي يعد من المعتدلين، وإن كان فيه من التساهل في بعض المواضع». وقال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16|156): «وهو منصف في الرجال بحسب اجتهاده».

 

قول ابن عديٍ عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» ليست على بابها دائماً، بل هي كلمةٌ معناها واسعٌ عنده. فأحياناً يستعملها مع تضعيفه للراوي الذي قالها عنه. قال المعلمي في "الفوائد المجموعة" (ص51): «هذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: أرجو أنه لا يتعمد الكذب». وقال (ص430): «وقوله "هو عندي من أهل الصدق" يعني: أنه لم يكن يتعمد الكذب». وقد استعملها أيضاً في حقِّ من هو من الحفَّاظ الثقات.  فقد قال عن الحكم بن عتيبة وسماك بن حرب (2|844): «ليس بهما بأس». ومن المعلوم أنَّ الحكم من الثقات الأثبات. ولذلك لا يلزم من قول ابن عدي في "الكامل" عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» تعديلاً له منه.

 

وظن البعض أن قول ابن عدي عن الراوي "لا بأس به" أنه توثيق، حتى قال السيوطي عن أحد المتروكين: "ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه لا بأس به". وهذا غلط. وقد تعقبه المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص459): «ليس هذا بتوثيق. وابن عدي يذكر منكرات الراوي ثم يقول "أرجو أنه لا بأس به"، يعني بالبأس: تعمد الكذب». وقال كذلك (ص35): «وهذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: "أرجو أنه لا يتعمد الكذب". وهذا (الموضع الذي عليه هذا التعليق) منها، لأنه قالها (أي كلمة "أرجو أنه لا بأس به") بعد أن ساق أحاديث يوسف (بن المنكدر)، وعامتها لم يتابع عليها». وقال هناك أيضاً (ص501): «لفظ ابن عدي "هو من أهل الصدق" يعني لم يكن يتعمد الكذب».

 

قال الألباني في ضعيفته (3|112): «إن قول ابن عدي "أرجو أنه لا بأس به" ليس نصاً في التوثيق. ولئن سلم، فهو في أدنى درجة في مراتب التعديل أو أول مرتبة من مراتب التجريح، مثل قوله "ما أعلم به بأساً، كما في "التدريب" (ص234)». وقال ابن عدي عن ابن قيراط: «منكر الحديث عن ثابت وغيره، ولا يتابع، وأحاديثه أفراد. وأرجو أنه لا بأس به. وهو خير من بشار بن قيراط». فعلق على ذلك الألباني في صحيحته (4|577): «ابن قيراط كذبه أبو زرعة وضعفه غيره. فكأن ابن عدي يعني بقوله أنه "لا بأس به": من جهة صدقه. أي أنه لا يتعمد الكذب. وإلا لو كان يعني من جهة حفظه أيضاً، لم يلتق مع أول كلامه "منكر الحديث...". وقال ابن حبان: "ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه". قلت: فمثله إلى الضعف، بل إلى الضعف الشديد أقرب منه إلى الصدق والحفظ. والله أعلم».

 

قال ابن القطان الفاسي في كتابه "الوهم والإيهام" (4|324): «فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر الرجل (موسى بن هلال) بهذا الحديث، ثم قال: "ولموسى غير هذا..." وهذا من أبي أحمد قولٌ صدر عن تصفُّح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرةٍ لأحواله. فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته». قال الشيخ عبد الله السعد (ص47): «وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن القطَّان. وهذا بناءً على أنَّ قول ابن عديٍّ "أرجو أنه لا بأس به" تقوية له. ولكن الصحيح: أنَّ هذه الصيغة من ابن عديٍّ لا تفيد ذلك عنده. فقد أطلقها على رواةٍ ضعَّفهم هو وغيره». ثم ساق خمسة أمثلة على ذلك، منها المثال الخامس (ص51):
وكذلك قالها في أناس ضعفاء، بل وفيهم من اتهم. فقد قال عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس (2|811): «ولحبيب بن حسان غير ما ذكرت من الحديث،. فأما أحاديثه وروايته فقد سبرته، ولا أرى به بأساً،. وأما رداءة دينه –كما حُكيَ عن يحيى القطان، وكما ذكر عمرو بن علي عن الأفطس– فهم أعلم. وما يذكرونه والذي قالوا محتمل. وأما في باب الرواية فلم أرَ في رواياته بأساً». كذا قال، وقد نقل هو في ترجمته قول ابن المثنى: «ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عن سفيان عن حبيب شيئاً قط». ونقل عن أحمد قوله: «متروك»، وعن البخاري: «منكر الحديث»، وعن يحيى –وهو ابن معين–: «ليس حديثه بشيء»، وأيضاً: «ليس بثقة. وكان له جاريتان نصرانيتان، وكان يذهب معهما إلى البيعة!»، وعن عبد الله بن سلمة الأفطس قوله عنه: «تزوج امرأة نصرانية كان عشقها، فتنصَّر»، وعن يحيى: «كان رديئاً»، وعن السعدي: «ساقط»، وعن النسائي: «متروك الحديث». وقال ابن حبان (1|264): «منكر الحديث جداً، وقد كان عشق امرأة نصرانية، وقد قيل إنه تنصر وتزوج بها. فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح». قال الشيخ (ص52): «تبيَّن مما تقدَّم أن هذا الراوي ضعيف جداً، بل بعضهم شكَّك في إسلامه. فالذي يبدو أنَّ كلام ابن عديٍّ ليس على ظاهره، والله تعالى أعلم».