المحدثون الحنفية


الشائع أن الأحناف أصحاب رأي. وربما هم اليوم أبعد الناس عن الحديث وأكثرهم رداً له. ولكن في العصور الأولى كان منهم الكثير من المحدثين. ولا شك أن أغلب المحدثين هم من الشافعية فالحنابلة فالمالكية فالأحناف. وأئمة الشأن (بعد استقرار المذاهب) أغلبهم من الشافعية. فإن شككت في هذا فخذ كتاب "تذكرة الحفاظ" وعد عدد الشافعية منهم.
والشافعية المشتغلين بالحديث على قسمين: هناك فقهاء المحدثين كابن خزيمة، وهناك محدثي الفقهاء كالنووي. صحيح أن الحفاظ في الشافعية أكثر، واهتمام الشافعية بالحديث أكثر، وصحيح أن أصحاب الرأي أقل الناس اشتغالاً بالحديث، ولكن هذا لا ينفي وجود حفاظ ممن كان يرى رأي أبي حنيفة.
أبو يوسف: كان أكثر أصحاب أبي حنيفة حفظاً للحديث ومن أشدهم تعلقاً بالآثار. وهو أول من كتب عنه أحمد بن حنبل الحديث.
محمد بن الحسن: اشتهر بملازمته لمالك ورواية الموطأ عنه. وقد وثقه الدارقطني وغيره في روايته للموطأ.
الطحاوي: كان شافعياً ثم بسبب نزاع شخصي مع من تولى المذهب الشافعي من بعد الإمام، فإنه صار حنفياً متعصباً. وهو العمدة في الدفاع عن الأحناف فقهاً وحديثاً. أثنى عليه حفاظ الأندلس، كابن عبد البر وغيره، وسأله النسائي عن حديث. وقد قال البيهقي: «كم من حديث صححه لأجل مذهبه». وهذه المقولة تنطبق على البيهقي كذلك، وهما سواء في التعصب المذهبي.
يحيى بن معين (الإمام المشهور): وكان متعصباً لرأي أبي حنيفة حتى أنه انتقص الشافعي، كما نقل عنه الحاكم!  وجاء عن ابن معين أنه سئل: ترى أن ينظر الرجل في رأي الشافعي، أو رأي أبي حنيفة؟ قال: «ما أرى لأحد أن ينظر في رأي الشافعي. ينظر في رأي أبي حنيفة أحب إلي».  قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11|88) تعليقاً على تلك المقولة: «كان أبو زكريا رحمه الله (ابن معين) حنفياً في الفروع. فلهذا قال هذا. وفيه انحراف يسير عن الشافعي».  والإمام الذهبي بعد أن دافع عن الإمام الشافعي من طعن الإمام ابن معين به، قال في كتابه "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب" (1|30): «ابن معين كان من الحنفيّةِ الغُلاة في مذهبه، وإن كان مُحَدِّثاً».

وقد جاء في تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (4|461): «قال يحيى: قال ابن وهب عن مالك بن أنس في المرأة يكون وليها ضعيفا أو يكون غائبا أو لا يكون لها ولي فتولي أمرها رجلا فيزوجها، قال: "جائز". وقال ابن وهب: "لا إلا بولي". قلت ليحيى: "هذا يوافق قول أبي حنيفة؟". قال: "نعم"، يعني قول مالك». فهذا يدل على أن ابن معين كان عارفاً بمذهب أبي حنيفة حتى كانوا يسألونه عن ذلك. وقال الدوري في تاريخ ابن معين (4|283): سمعت يحيى يقول: «لا نكذب الله ربما سمعنا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فأخذنا به».
وكان سيد الحفاظ الإمام يحيى بن سعيد القطان البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل، يأخذ بأكثر أقوال أبي حنيفة. قال أحمد بن علي بن سعيد القاضي (ثقة حافظ): سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: «لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، و قد أخذنا بأكثر أقواله». قال يحيى بن معين: «و كان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، و يختار قوله (أي قول أبي حنيفة) من أقوالهم، و يتّبع رأيه من بين أصحابه». وفي تاريخ ابن معين (3|517): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: «لا نكذب الله. ربما رأينا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فقلنا به».

وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، يفتي برأي الإمام أبي حنيفة. ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (1|307): (قال حسين بن حبان) قال يحيى بن معين عن وكيع: «ما رأيت أفضل منه، يقوم الليل ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة. وكان يحيى القطان يفتي بقول أبي حنيفة أيضاً». وقال يحيى بن مَعِين: ما رأيتُ أحداً أُقدِّمه على وكيع، وكان يُفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثَه كلَّه، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً. قلت: فهو حنفي إذاً. ولم يقل أحد بأن كل حنفي عليه أن لا يخالف أبا حنيفة في أي مسألة. فقد جاء عند الترمذي (3|249): سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعاً يقول –حين روى هذا الحديث– قال: «لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة».

وهناك آخرون مثل: معلى بن منصور، بكار بن قتيبة، ابن أبي عمران (وهو من كبار الحفاظ وإن لم يكن مشهوراً). وهؤلاء شيوخ الطحاوي. وهناك أحمد بن عيسى البرتي صاحب مسند أبي هريرة، وهو من كبار الحفاظ. وهناك حماد بن شاكر الراوي عن البخاري، وإبراهيم بن معقل النسفي راوي صحيح مسلم. ومن بعدهم: ابن قانع والكلاباذي (وقد رضي فهمه الدارقطني) وهذه الطبقة. ومن بعدهم حفاظ الموصل، مثل أبي يعلى الموصلي صاحب المسند الكبير، قال عنه الذهبي: أخذ الفقه عن أصحاب أبي يوسف. وبعد هؤلاء يأتي ابن التركماني الذي رد على البيهقي. ويأتي من بعده تلميذه الحافظ الزيلعي، وهو أعلم المحدثين الأحناف. وهناك مغلطاي والعيني وكثير من محدثي الهند.
وللكوثري الهالك رسالة في ذكر محدثي الحنفية، إلا أنه أدخل فيه من ليس من الحنفية، وهي مطبوعة مع نصب الراية. والأحناف كثيراً ما ينسبون الرجل إلى مذهب إمامهم بمجرد رواية الرجل عن أبي حنيفة. وهذا من العجب! وإلا كان كل من روى عن مالك هو مالكي. فهذا وكيع كوفي روى عن مالك. والوليد بن مسلم وهو شامي على مذهب الأوزاعي.

ومن تأمل مذهب المتأخرين الأحناف لعلم أنهم أبعد الناس عن علم الحديث، والله أعلم. على أن هذا الحكم لا ينبغي أن يكون عاماً. ففي الهند من الحنفية أعلام في الحديث، وهم سيف حاد على التقليد. ولا ننسى أن علم الحديث بقي قروناً عند علماء الهند من الحنفية، وقد قاموا به خير قيام، في الوقت الذي كانت فيه بلادنا مغرقة في التقليد والتعصب. ومن أراد التوسع، فعليه بمراجعة كتاب "جهود علماء الهند في خدمة السنة النبوية" لعبد الرحمن الفريوائي.
ولو ذهبنا نعدد أعيان هذا العصر من علماء الهند المحدثين المنتسبين إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، لضاق المقام عن مجرد ذكر أسمائهم في طبقة شيوخنا وشيوخهم رحمهم الله ونفع بعلومهم. ومن الفوائد التي أحب أن أذكرها هنا حتى ينسب الفضل إلى أهله، أن التفريق بين منهجي المتقدمين والمتأخرين من المحدثين، والتنبه إلى طريقة حفاظ الحديث في التعليل بالنكارة والشذوذ، قد تلقاها بعض شيوخنا عن شيوخهم في الهند، كالحافظ محمد يونس الجونفوري وغيره، بشكل جلي وواضح في زمن مبكر، لم يكن يسمع فيه بهذه الأمور -على حد علمي المحدود- في محافلنا العلمية. والشيخ حمزة المليباري (الذي نقلها إلينا) إنما هو من باكستان.