أبو الحسن الدّارَقَطْني (385هـ) من كبار حفاظ الحديث. ورغم تأخر زمانه، إلا أنه محسوب على متقدمي المحدّثين: لسلوكه طريقتهم، و لأن اعتماده في علم العلل على كتبهم في العلل، مثل "علل ابن المديني" وغيرها. فأما كتابه في "العلل" الذي أملاه على تلميذه من حافظته، فهو من أجود كتب العلل وأكبرها وأسهلها وضوحاً. إلا أن الإشكال في كتابه "السنن"، الذي يظن بعض الفقهاء أنها من جنس "سنن" الترمذي أو "سنن" النسائي، فينقلون منها دون تحقيق، كأنما ينقلون من الصحيحين!
والحق أن سنن الدارقطني أشبه بكتب العلل، وإن كانت تختلف عنها كذلك في الإسلوب، وهذا الظاهر من اسم الكتاب «المُجْتَنَا من السُّنن المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلَّم، والتَّنْبيه على الصحيحِ منها والسَّقيم، واختلاف النَّاقلين لها في ألفاظها». قال شيخ الإسلام في الرد على البكري (1|78): «الدارقطني صَنّفَ سُننه ليذكر فيها غرائب السُّنَن. وهو في الغالب يبيّن ما رواه، وهو من أعلم الناس بذلك». قال هذا شيخ الإسلام رداً على البكري الجاهل الذي ظن أن الدراقطني يحتج بكل الأحاديث في سننه! وقال في الفتاوى الكبرى (5|299): «أبو الحسن (الدراقطني) –مع إتمام إمامته في الحديث– فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها. فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله».
فإن أنت اعتبرت سنن الدارقطني مثل باقي كتب السنن، فهي أكثرهم على الإطلاق احتواءً للأحاديث الضعيفة والغريبة والموضوعة. قال الذهبي : «سنن الدارقطني بيت المنكرات». ووصف هذا الكتاب الزيلعي بأنه «مجمع الأحاديث المعلولة، ومنبع الأحاديث الغريبة». وكذلك وصفه ابن رجب. قال الإمام ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": «بل إنما رواه مثل الدارقطني الذي يجمع في كتابه غرائب السنن، ويكثر فيه من رواية الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة».
وإذا أنت اعتبرتها من كتب العلل، فأسلوبها من أصعب الأساليب في كتابة العلل. فالملاحظ على الدارقطني في كتاب السنن ما يلي:
بعض تلك الأحاديث يبين الدارقطني عللها بكلمات موجزة مختصَرة، مثل: "هذا مرسل" و "فلان مجهول" وشيء من هذا.
وأحياناً يبين العلة باصطلاح له هو "حديث حسن". وهو لا يطلقه عادة إلا على الحديث المعلول. بل تراه يقول: "رواته ثقات وإسناده حسن"، وهو يريد الإشارة لعلة كانقطاع في السند أو خطأ من أحد الرواة الثقات.
وأحياناً لا يذكر العلة، لكنه يذكر الروايات التي تبين العلة، حيث يكتفي بذلك وكأن كتابه خاص بالمتبحرين بعلم العلل، الذين سيفهمون مقصوده بسرعة.
وأحياناً يذكر رواية ضعيفة، ليس لبيان ضعفها، لكن لأن بعض ألفاظها تشرح الغموض في الرواية الصحيحة، التي قد يذكرها وقد لا يذكرها.
وأحياناً يذكر رواية ضعيفة، ولا يذكر ما يدل على ضعفها، مما يدل على أنه قصد جمع هذه الروايات المستغربة في الفقه.
وأخيرا هناك شيء مهم جدا وهو أن كثيرا من أحكامه في كتاب السنن لا تصح نسبتها له، مثل التصحيحات ومثل بعض الأحكام على الرواة مما يأتي على الهامش. قال ابن رجب في فتح الباري (6|414): «وما ينقل عنه في سننه من تصحيح أحاديث في هذا الباب، فلا توجد في جميع النسخ، بل في بعضها، ولعله من زيادة بعض الرواة». وكذلك التبويبات في كتابه ليست له.
ومن الأمور التي أنكرها العلماء على الحافظ الدراقطني، كثرة توثيقه للمجاهيل. بل قد عده الحافظ الذهبي في كتابه "الموقظة" ممن يتساهل أحياناً في التوثيق، والظاهر أنه يقصد توثيق المجاهيل. قال العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة" عن قصة أنكرها: «سند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجل يقال له "عبد الوهاب بن موسى" لا يكاد يُعرف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكِرَ في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم. بل قال الذهبي في الميزان: "لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب". وفي مقدمة صحيح مسلم "الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبل منه". وهذا الرجل لم يُمعن في المشاركة فضلاً عن أن يكون ذلك على الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيد به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني. ومن ثم –والله أعلم– وثّق الدارقطني عبد الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك».