منهج مالك

 

مالك بن أنس: إمام ثقة ثبت من كبار الحفاظ في المدينة. قال البُخاريّ عن عليّ بن المَديني: «له نحو ألف حديث». وقد جمع كثيراً من حديثه في كتابه "المُوَطَّأ"، وبعضه تجده في كتاب "غرائب مالك" للدارقطني (وإن كان أكثر أحاديث هذا الكتاب لا يصح إسنادها لمالك). وعامة الحديث الصحيح في الموطأ قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وفيه أحاديث جيدة لكنها ليست على شرط الصحيحين. وفيه أحاديث ضعيفة غالباً بسبب انقطاع سندها أو بسبب جهالة رواتها. وكان مالك يعلم الضعف التي فيها، لكن كان منهجه أن الحديث المشتهر بين أهل المدينة يُحتج به وإن كان منقطعاً. ففي سنن الدارقطني (4|40): قال مالك: «شهرةُ الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده». وهذا أمرٌ لم يوافقه عليه أحدٌ من أهل الحديث.

 

يذكر ابن حزم في كتاب "مراتب الديانة": «أحصيتُ ما في الموطأ فوجدت من المسند خمسمئة ونيّف. وفيه ثلاثمئة ونيف مرسلاً. وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسُه العمل بها. وفيه أحاديث ضعيفة وهّنها جمهور العلماء». أي أن مالك قد خالف حوالي تسعة في المئة مما رواه في الموطأ. لكن ما خالفه من الحديث الصحيح أكثر من ذلك، إلا أنه قد كتم أكثر تلك الأحاديث. ويًنقل عن مالك أنه قال: «سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة، ما حدّثت بها قط، ولا أحدّث بها». فقيل له: لم؟ فقال: «ليس عليها العمل»!

 

كان مالك ممن اعتنى بنقد الرجال خاصة أهل بلده، وهو معتدل مع بعض التشدد. قال ابن عيينة: «ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم». وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (3|10) في بعض الرواة: «قد اعتمده مالك مع شدة نقده». وقد شاع أن كل ما في الموطأ ثقات، وهو غلط، وإنما قيل أن ما روى عنه مالك (بغير واسطة) فهو ثقة، وهو غلط كذلك. فقد روى عن جماعة من الضعفاء مثل:

عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري
عبد الله بن لهيعة
عاصم بن عبيد الله
شريك بن أبي نمر
عطاء الخراساني
داود بن الحصين الأموي
عمرو بن أبي عمرو
وهذا الأخير – واسمه ميسرة – مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي، ضعفه ابن معين رغم أنه من شيوخ مالك. وضعف آخر أربعة ليس بشديد. وقيل إذا قال مالك "عن الثقة" فهو ابن لهيعة. وابن لهيعة ضعيف الحفظ سواء قبل احتراق كتبه أم بعدها. وهو فوق ذلك شيعي مدلّس ضعيف العقل.

 

قال القاضي إسماعيل: «إنما يعتبر بمالك في أهل بلده، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم». وقال الشيخ محمد خلف سلامة: «والقول بتوثيق جميع شيوخ مالك بلا استثناء، مذهب ضعيف أو لا يخلو من تساهل. والحق الذي يوافق ما صرح به غير واحد من المحققين: هو توثيق المدنيين من شيوخ مالك، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك. بخلاف غير المدنيين من شيوخه، فلا تعد رواية مالك عنهم كافية في توثيقهم».

 

ومن أمثلة الأحاديث المنقطعة في الموطأ:

 

عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r كان يقول: «إذا نشأتْ بَحْريةً ثم تشاءمتْ، فتلك عينٌ غُدَيقةٌ». قال ابن عبد البر في "التجريد" (ص254): «لا يُحفظ عن النبي r من وجهٍ يصح من جهة الإسناد. ولا يُعرف هذا الحديث بهذا اللفظ في غير الموطأ، إلا ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى (متروك) ولفظه: إذا نشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها. ولم يسنده أيضاً. وهو منقطع عنده مع ضعفه». معنى الحديث: إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر ثم أخذت نحو الشمال، فستمطر ماءً كثيراً. ومعناه باطل كما ترى.

 

وحديث «أما إني لا أَنسى، ولكن أُنَسَّى لأشرِّعَ». قال الألباني في السلسلة الضعيفة (#101): «باطل لا أصل له. و قد أورده بهذا اللفظ الغزالي في "الإحياء" (4|38) مجزوما بنسبته إليه r، فقال العراقي في "تخريجه": ذكره مالك بلاغاً بغير إسناد، و قال ابن عبد البر: لا يوجد في "الموطأ" إلا مرسلاً لا إسناد له. و كذا قال حمزة الكناني: إنه لم يرد من غير طريق مالك. و قال أبو طاهر الأنماطي: و قد طال بحثي عنه و سؤالي عنه للأئمة و الحفاظ فلم أظفر به و لا سمعت عن أحد أنه ظفر به. قال: و ادعى بعض طلبة الحديث أنه وقع له مسندا. قلت: فالعجب من ابن عبد البر كيف يورد الحديث في "التمهيد" جازما بنسبته إلى النبي r في غير موضع منه، فانظر (1|100 و 5|108 و 10|184)! قلت: الحديث في "الموطأ" (1|161) عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r قال: "إني لأنسى أو أنسى لأسن". فقول المعلق على "زاد المعاد" (1|286) "وإسناده منقطع" ليس بصحيح بداهةً لأنه كما ترى بلاغ لا إسناد له. و لذلك قال الحافظ فيما نقل الزرقاني في "شرح الموطأ" (1|205): لا أصل له. و ظاهر الحديث أنه r لا ينسى بباعث البشرية وإنما ينسيه الله ليشرع. و على هذا فهو مخالف لما ثبت في "الصحيحين" و غيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني". و لا ينافي هذا أن يترتب على نسيانه r حكم و فوائد من البيان و التعليم. و القصد أنه لا يجوز نفي النسيان الذي هو من طبيعة البشر عنه r لهذا الحديث الباطل لمعارضته لهذا الحديث الصحيح».