بيان اعتدال النسائي وبعده عن التشدد
النسائي يعد من المتشددين في التوثيق والتعديل من جهة استعماله بعض العبارات في درجة أرفع مما هي عليه في اصطلاح المتأخرين. مثل عبارة: "ليس به بأس" فإن أكثر الذين وصفهم بها هم ثقات مطلقاً، بل إنه قال في جماعة كبيرة منهم في موضع آخر: "ثقة". وقد ظهر تشدده في إطلاقه عبارة: "ليس بالقوي" وشبهها على جماعة كبيرة من الصدوقين والمقبولين، ما أنه أطلق كثيراً بعض عبارات الجرح الأخرى في رجال هم أخف ضعفاً أو أرفع رتبة مما حكم عليهم به.
ولا يمنع اشتهار النسائي بالتشدد في الجرح والتليين أن يتساهل أحياناً في الحكم على بعض الرجال، فقد قال في رشيد الهجري: "ليس بالقوي" مع أنه هالك. وينظر ترجمة جارية بن هرم، والحكم بن عبد الله بن مسلمة الخراساني، وداود بن المحبر، وغيرهم. والله أعلم.
فهو إذاً يستعمل عبارات ليس فيها توثيق قوي، في رجال يحتج بهم. ويطلق في صدوقين خفيفي الضبط، ألفاظ يستعملها غيره في المتروكين. لكن لو فهمنا مصطلحاته الحديثية، لوجدنا أنه معتدل في أحكامه. وقد اشتهر بين أهل العلم أن النسائي ينسب إلى التشدد، وهو غير صحيح على إطلاقه كما تبيّن. وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (1|66): أن النسائي متساهل في جانب توثيق المجاهيل من القدماء. وقال كذلك: «ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل، كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد». وإن كان في مقام آخر من الكتاب نفسه (1|463) وصفه بالتشدد، يعني مع الرواة المشهورين. والحقيقة أن من سبر أحكام النسائي، لوجده يكثر من توثيق كبار التابعين ممن لم يرو عنهم إلا واحد، رغم تأخر زمانه عنهم. مثال على ذلك سعد بن سمرة بن جندب الفزازي.
واحتج من يرى تشدد النسائي بقول أبي طالب أحمد بن نصر بن طالب البغدادي الحافظ: «من يصبر على ما يصبر على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النسائي؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدث بها. وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة». قلت: قال المزي في تهذيب الكمال: «روى النسائي أحاديث كثيرة من رواية ابن وهب و غيره يقول فيها: عن عمرو بن الحارث، و ذكر آخر: و هو فلان، و ذكر آخر، و نحو ذلك. و جاء كثير من ذلك مبيناً في رواية غيره أنه ابن لهيعة». أقول: هذا مع قول النسائي عن ابن لهيعة: "ليس بثقة"، وهي لفظة تفيد جرح العدالة. فهذه حجة لنا في أن النسائي غير متشدد.
واحتج هؤلاء أيضاً بأن النسائي قد ليّن بعض من أخرج لهم البخاري ومسلم. قال محمد بن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة" (ص104): «سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة فوثقه، فقلت: إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعفه، فقال: يا بُني إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم». وشرح الذهبي هذا بأن النسائي قد لين رجالاً احتج بهم الشيخان. لكن ابن كثير اعترض على هذا الحكم بقوله في "اختصار علوم الحديث" (ص25): «وقول الحافظ أبي علي بن السكن وكذا الخطيب البغدادي في كتاب "السنن" للنسائي: "إنه صحيح"، فيه نظر. و "إن له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلِم"، غير مُسَلَّم. فإنه فيه رجالاً مجهولين إما عيناً أو حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة كما نبهنا عليه في "الأحكام الكبير"». وقال ابن الصلاح في "المقدمة" (ص39): «حكى أبو عبد الله الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يُخرج عن كل من لم يُجمع على تركه». وهذا كذلك يدل على تساهل من النسائي، ولذلك فقد غلط من قال بأن كل من أخرج له النسائي في سننه فإنه قد احتج به. ففي سننه رواة مجاهيل ورواة جرحهم بنفسه فضلاً عن غيره.
عموماً هناك دراسة جيدة حول
هذا الأمر، وهي رسالة في خمسة مجلدات لقاسم علي سعد بعنوان "منهج الإمام أبي عبدالرحمن في الجرح والتعديل وجمع أقواله في الرجال". وقد نقلت الكثير من نتائجها
بحروفها في هذا البحث. وقد قام الشيخ قاسم سعد بجمع واستقراء كلام الإمام النسائي
في الجرح والتعديل ومقارنتها بكلام العلماء. وقد ذكر كل قسم بمفرده، فمن وثقهم
النسائي بمفردهم، ومن جرحهم ولينهم بمفردهم، ومن جهلهم بمفردهم. وقال في الخاتمة
(5|2321): «فالنسائي -رحمه الله- من النقاد المتبصرين المتوسعين الذين ختم بهم عهد
المتقدمين، بل حاز قصب السبق في أهل عصره. وامتاز على أترابه وأقرانه، بالاستقلال
والاتساع والدقة. ومازال أئمة النقد من المتأخرين يتوقفون عند قوله استحساناً له
واختياراً . ونفَسُهُ في الجرح والتعديل هو نفس المتثبـِّتين المتحرّين من
المتقدمين، مع مرونة حسنة. وهو في الجرح أشد منه في التعديل. ولو روعيت الاصطلاحات
الخاصة به والعامة عند المتقدمين، لكان أقرب إلى الاعتدال -في التوثيق والتعديل- من
التشدد». والمقصود أن ظاهر استعماله لاصطلاحات الجرح والتعديل أنه متشدد. لكن لو
روعيت الاصطلاحات الخاصة به، لوجدناه أقرب للاعتدال من التشدد. وهو عين ما ذكرناه
أعلاه.
اصطلاحات النسائي الحديثية
وأكثر عبارات التوثيق والتعديل استعمالاً عند النسائي هي كلمة: ثقة، ثم "ليس به بأس"، ثم "لا بأس به". وقد وضعت العبارتين الأخيرتين في درجة أعلى من درجة: "صدوق" لأن أكثر الذين قال فيهم النسائي: "ليس به بأس" و "لا بأس به" هم ثقات مطلقاً. بل إنه قال في جماعة كبيرة منهم في موضع أخر ثقة. ورغم هذا فإني لا أجرؤ على وضع هاتين العبارتين في وصف كلمة ثقة. وقد قدمت كلمتي: "لا بأس به صدوق" و"صدوق لا بأس به" على "ليس به بأس" و"لا بأس به" لأن كل الذين قال فيهم النسائي العبارتين الأوليين أو إحداهما، قد حكم عليهم في موضع أخر بكلمة: "ثقة".
وإطلاق كلمة: صالح في الأصل ينصرف إلى الصلاح في الدين لكن النسائي، وجماعة آخرين قصدوا بها الحكم على الرواية. وقد أشار إلى ذاك الأصل ابن حجر فقال في "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2|680): «من عاداتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك فقالوا: صالح الحديث. فإذا أطلقوا الصلاح فإنما يريدون به في الديانة. وقد كان النسائي قليل الاعتناء بوصف الحفاظ، والفقهاء، والعباد، والزهاد، بما عرفوا به من حفظ وفقه، وعبادة، وزهد عند كلامه فيهم جرحاً وتعديلاً. كذلك لم يعتن حالة حكمه على الرجال بذكر ما نسبوا إليه من بدع.
فأما كلمة "ليس بالقوي" وما شابهها فإن النسائي يستعملها غالباً في الصدوقين ومن دونهم من أهل العدالة. ورغم كثرة استعمال النسائي لتلك العبارة في الصدوقين والمقبولين، فإنه يريد بها التليين كما يفيد قوله: "ليس بجرح مفسد". ولأنه حكم بها على رجال كثيرين في كتابه المختص بالضعفاء. وهذا ليس مصطلحاً خاصاً بالنسائي، بل هو ما عليه أهل الشأن. قال الذهبي في الموقظة (ص83): «وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: "ليس بالقوي". يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت». قال الذهبي أيضاً: «والبخاري قد يطلق على الشيخ: ليس بالقوي. ويريد أنه ضعيف». وقد تقدم في ترجمة سعد بن طريف وغيره أن البخاري وأبا أحمد الحاكم استعملا كلمة: "ليس بالقوي عندهم" في جماعة من المتروكين. والأمر نفسه بالنسبة لكلمة "ضعيف" أو "ضعيف الحديث"، فقد يراد منها مجرد التليين، لكنها تستعمل أيضاً مع الرواة المتروكين. فإذا وصف إمامٌ لأحد الرواة بأنه كذاب، فلا يناقض هذا وصف إمام ثان له بأنه ضعيف.
توثيقه للمجاهيل
أكثر عبارات التجهيل استعمالاً عند النسائي هي: لا نعلم أحداً روى عنه غير فلان، نحوها، ثم لا أعرفه، ثم ليس بالمشهور، وكذلك مجهول، ثم ليس بمعروف، وكذلك ليس بذاك المشهور، وكذلك ليس بمشهور، وكذلك لا أدري ما هو. وخلاصة القول: إن من اقتصر النسائي على ذكرهم فيمن لم يرو عنه إلا واحد، ومن أفرد فيهم إحدى العبارات التالية: "ليس بالمشهور" و: "ليس بمشهور" و: "ليس بذاك المشهور"، وعامة من أطلق فيهم عبارة: "مجهول"، وغالب الذين قال فيهم: "لا أعرفه"، هم مجهولو العين عنده. ويبدو أنه يستعمل العبارات التالية: "لا أدري ما هو" و: "لا علم له به" و: "ليس لي به علم" في مجهولي الحال.
وليست رواية الرجل الواحد عن رجل مستلزمة لجهالة عينه عند النسائي، لأنه لا يتحرج عن توثيق من لم يرو عنه إلا واحد إذا تبينت له ثقته من خلال سبر حديثه، مثل رافع بن إسحاق المدني. والله أعلم.
وقد ذكر الذهبي في "الموقظة" أن النسائي وابن حبان يوثقان المجاهيل. قال: «وقولهم: "مجهول"، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه. فإن جُهِلَ عينُه وحالُه، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به. وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات، فأقوى لحاله، ويَحتَجُّ بمثلِه جماعةٌ كالَّنسائي وابنِ حِباَّن». وقال الذهبي في "الميزان" (4|583) في بعض التابعين: «لا يُعرف، لكن احتج به النسائي على قاعدته». وقال الزيلعي في "نصب الراية" (1|333): «والنسائي وابن حبان وغيرهما يحتجون بمثل هؤلاء، مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو واحد منهم حديثاً ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات». وقال المعلمي في "التنكيل" (2|164) في كلام له في بعض الرواة: «وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري. على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في "القواعد"». وهذا يدل على تساهله في توثيق المجاهيل، وإن لم يصل لمستوى ابن حبان، لكنه قارب.
وحتى الألباني على تساهله، يقر بأن النسائي من المتساهلين في توثيق المجاهيل. سأل أبو الحسن: «نلاحظ من صنيع الحافظ ابن حجر أنه إذا انفرد النسائي –وأحيانا ابن معين– بالتوثيق فإنه يقول: "وثقه النسائي" ويهرب من العهدة، أو يقول فيه "صدوق". ونادراً ما يعتمد توثيقه. وإذا خالف النسائي أحد، فإن الحافظ يجنح للمخالف، سواءاً تعلق الأمر بتوثيق أو تجريح. وكذا يصنع الحافظ مع الدراقطني ومطين وابن عبد البر. فهل هذا لتساهله كما قال الشيخ المعلمي، بأن ابن معين والنسائي ربما وثقا بعض المجاهيل؟». فأجاب الألباني: «النسائي كالعجلي تقريباً في التساهل. فهو يوثق بعض المجاهيل، ولكنه لا يكثر من ذلك. فإذا انفرد النسائي بالتوثيق، فإننا إلى الرواة وصفاً وعدداً وكذلك من أخرج لهذا الراوي محل البحث ممن عرف بالانتقاء أو التشدد. وكذا ننظر في علو الطبقة ونزولها، وغير ذلك من القرائن».
منهجه في السنن
قال الحافظ ابن رجب
في "شرح علل الترمذي" عن سنن النسائي: «تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث، بدأ بما
هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له». وهذا تجده في السنن الكبرى أكثر من
الصغرى. وهذه الملاحظة من الحافظ هي في غاية الأهمية، لأن منهج النسائي في الترتيب
هو بعكس منهج مسلم. لذلك قال المعلمي في "الأنوار الكاشفة": «عادة مسلم أن يرتب
روايات الحديث بحسب قوتها: يُقدّم الأصح فالأصح».
وللفائدة: زوائد النسائي على الصحيحين لسيد بن كسروي حسن، تبلغ 3227 وزوائد النسائي
على الصحيحين وعلى الترمذي وأبي داود حوالي 2400 حديثاً. وهو
أصح السنن وأكبرها.
تشيع النسائي
و النّسائي هو أحمد بن شعيب: فارسي ولد في فارس ببلدة نساء. وقد قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (14|133): «فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي كمعاوية وعمرو». وعلى أية حال فتشيع النسائي كان خفيفاً لا يترتب عليه تبديع، وليس فيها طعن في العدالة. بل قد انتسب إليه بعض أهل السنة.
وقد أنكر أهل السنة على النسائي أنه كتب كتاباً في فضائل علي t دون أن يذكر الشيخين. وقد اعتذر عن ذلك بأنه كتبه للنواصب فقط! والغريب أنه كتب فيه الكثير من الأحاديث الضعيفة. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (7|178): «النسائي صنف "خصائص علي" وذكر فيه عدَّة أحاديث ضعيفة». ثم إنه اضطرّ –تحت وطأة ضغوط أهل السنة– إلى تصنيف "فضائل الصحابة"، لكنه لم يذكر فيه الأحاديث في فضل معاوية t. فقيل له ألا تخرج فضائل معاوية t؟ فقال: «أي شيء أخرج؟ حديث اللهم لا تشبع بطنه؟». فسكت السائل.
قلت: والعجيب أن النسائي قد فهم هذا الحديث على أنه مذمة مع أن النسائي معدود من الأكلة المشهورين. فلا أكاد أقرأ له ترجمة إلا ويذكرون بها ولعه بالنساء والطعام. فقد ذكر المِزِّي على سبيل المثال في تهذيب الكمال (1|337): «وكان يكثر الجماع مع صوم يوم وإفطار يوم. وكان له أربع زوجات يقسم لهن. ولا يخلو مع ذلك من جارية واثنتين يشتري الواحدة خامسيه ونحوها، ويقسم لها كما يقسم للحرائر. وكان قوته في كل يوم رطل خبز جيد يؤخذ له من سويقة العرافين لا يأكل غيره كان صائماً أو مفطرا. وكان يكثر أكل الديوك الكبار تشترى له وتُسَمّن ثم تذبح فيأكلها، ويذكر أن ذلك ينفعه في باب الجماع!!».
ثم إنه ذهب مرة إلى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله، فقال: «لا يرضى رأساً برأس حتى يفضل؟». فضربه أهلها تعزيراً له، ثم خرج منها وتوفي في الرملة. كل هذا يظهر أنه كان عنده تشيع، لكن ذلك محل شك عندي. فإن له أقوالاً أخرى يثبت فيها فضائل معاوية ويترضى عنه. قال الحافظ أبو القاسم: «وهذه الحكاية لا تدل على سوء اعتقاد أبي عبد الرحمن في معاوية بن أبي سفيان. وإنما تدل على الكف في ذكره بكل حال». ثم روى بإسناده: سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحب رسول الله r، فقال: «إنما الإسلام كدار لها باب. فباب الإسلام الصحابة. فمن آذى الصحابة، إنما أراد الإسلام. كمن نقر الباب، إنما يريد دخول الدار. فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة». فهو إذاًَ لم يرَ من الحكمة أن يحدث النواصب بفضائل معاوية t فيزيدهم تمسكاً ببدعتهم. وكذلك لا يصح تحديث الشيعة بفضائل علي t، ولا الخوارج بأحاديث الوعيد، ولا المرجئة بأحاديث النجاة.
وقد ظن بعض المعاصرين أن النسائي يضعّف هذه الأحاديث، وليس ذلك بسديد. فقد أخرج في "فضائل الصحابة" أحاديث أضعف من هذه الأحاديث التي أخرجناها في فضائل معاوية. فتأمل ذلك وتدبره يا رعاك الله.
هل مجتبى النسائي من تأليفه؟
كتاب النسائي هو
"السنن الكبرى"، وهو عدّة روايات استعمل منها المزّي في "التحفة" تسع روايات. وقد
طبع الكتاب في دار الكتب العلمية (الحرامية)، 1991، بتحقيق: الدكتور عبد الغفار
البنداري، وسيد كسروي، وهي طبعة ملفقة من عدّة روايات. وفيها من التصحيف والتحريف
والسقط ما لا يخفى على أدنى طالب علم. وكتاب "المجتبى" –الذي طبع قديماً وهو
المشهور المتداول، وإليه العزو عند الإطلاق– قيل أنه ليس من اختيار النسائي، بل هو
من اختيار تلميذه أبي بكر أحمد بن محمد بن السني. نصّ على هذا الذهبي في "تذكرة
الحفاظ" (3|940)، وفي "السِّير" (14|131). فيما اعتبر ابن الأثير في "جامع الأصول"
(1|196) أن المجتبى من اختيار النسائي، وأنّه أهدى السنن لأميرٍ فقال: «أصحيح
كلّه؟». قال: «لا». قال: «فاكتب لنا منه الصحيح»، فجرّد المجتبى. وقد ردَّ الذهبي
هذا في "السير " (14|131) فقال: «هذا لم يصحّ. بل المجتبى اختيار ابن السني».
قال الدكتور فاروق حمادة (69): «وأما الجانب الآخر فيرى أن المجتبى هو من صنع
النسائي نفسه من السنن الكبرى، وابن السني مجرد راوية له. ويقف في هذا الجانب فريقٌ
كبيرٌ جداً من الأعلام والمحدّثين. وهو المعروف المشهور بين الناس. وهو الرأي الذي
أصوّبه وأرتضيه، لدلائل عديدة. منها:
1- لم يقدم لنا الذهبي دليلاً على قوله هذا الذي جاءنا به، لا نقلاً ولا استنباطاً. وإن كان هو من الأعلام، لكنه خولف. والوهم لا يخلص منه إنسان.
2- وجود مثبتات على ذلك: ما نقله ابن خير الإشبيلي المتوفى سنة 575هـ بسنده عن أبي محمد بن يربوع قال: قال لي أبو علي الغساني رحمه الله: كتابي "الإيمان والصلح" ليسا من المصنف، إنما هما من المجتبى له -بالباء- في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي، اختصره من كتابه الكبير المصنَّف. وذلك أن أحد الأمراء سأله عن كتابه في السنن: أكله صحيح؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح مجرَّداً. فصنع المجتبى. فهو المجتبى من السنن. ترك كل حديث أورده في السنن، مما تكلم في إسناده بالتعليل. روى هذا الكتاب عن أبي عبد الرحمن: ابنه عبد الكريم بن أحمد، ووليد بن القاسم الصوفي. ورواه عن أبي موسى عبد الكريم من أهل الأندلس: أيوب بن الحسين قاضي الثغر، وغيره... انتهى. وهذا نصٍّ ظاهر في الموضوع.
3- كما أنني وجدت مجلدين من المجتبى قديمين جداً، كتبت عليها سماعات بين سنة 530هـ و561هـ، فيها نص ظاهر أنها من تأليف النسائي. وقد جاء في صدر أحدهما: الجزء الحادي والعشرون من السنن المأثورة عن رسول الله r. تأليف أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن بحر النسائي. رواية أبي بكر أحمد بن إسحاق بن السني عنه. رواية القاضي أبي نصر أحمد بن الحسن بن الكسار عنه. رواية الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد الدوني عنه. رواية أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري عنه. رواية الشيخ الإمام زين الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن نجاد الحنبلي الواعظ.
وفيها نص ظاهر على أنها من تأليف النسائي، وابن السني مجرد رواية لها. وإن كان أحد المجلدَين قد أكلت أكثره الأرضة، فالآخر لا يزال أكثره صالحاً واضحاً بخط مشرقي جيد يحمل رقم 5637 بالخزانة الملكية بالرباط. وعلى ظهر هذه النسخة كتب بخط قديم قدمها: "قال الطبني: أخبرني أبو إسحاق الحبال: سأل سائل أبا عبد الرحمن... بعض الأمراء عن كتابه السنن: أصحيح كله؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح مجرداً. فصنع المجتبي (بالباء) من السنن الكبرى، ترك كل حديث أورده في السنن ما تكلم في إسناده بالتعليل".
وأبو إسحاق الحبال الذي ينقل عنه الطبني، هو الحافظ المتفنن محدث مصر إبراهيم بن سعيد بن عبد الله التجيبي. كان من المتشددين في السماع والإجازة، يكتب السماع على الأصول...
وكذلك نجد أن ابن الأثير الذي جرد الأصول الخمسة وضم إليها الموطأ، جرّد المجتبى وليس السنن الكبرى. وساق إسناده بالمجتبى. وفيه بالنص الواضح على أن المجتبى من تأليف النسائي ذاته. يقول ابن الأثير انه قرأه سنة 586هـ على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي إمام مدينة السلام الذي قراه على أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن محمويه اليزيدي سنة 551 والذي قرأه على أبي محمد عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الصوفي الدوني سنة 500هـ في شهر صفر والذي قرأه على أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار بخانكاه دون سنة 433هـ والذي قرأه على ابن السني سنة 363هـ والذي قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله بكتاب السنن جميعه.
وهذا نص واضح قبل ما يزيد على قرن ونصف من الزمن. ونص أبي علي الغساني أسبق من هذا كذلك... كما أن ابن السني ذاته قد نص أنه سمع المجتبى من مصنفه بمصر في أكثر من موضع منه. انظر المطبوع 7|171 صدر كتاب الصيد والذبائح. وقد وجدت نسخاً مخطوطة ينص على سماعها من النسائي بمصر في صدر المجتبى. منها نسخة في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم 1877ك و2408ك». انتهى كلام الدكتور فاروق حمادة. ومن أراد المزيد فليرجع إلى بحث الدكتور فاروق في أول كتاب "عمل اليوم والليلة".
ومما يقوي القول بأن المجتبى من تصنيف النسائي:
1- أبو إسحاق الحبال مصري، وهو أعلم بالنسائي وبكتاب النسائي. وقوله أولى بالقبول من قول غيره. والخبر -وإن كان فيه انقطاع- فهو أولى بالاعتماد من تخمينٍ لا دليل عليه.
2- القول بأن ابن السني هو من صنف المجتبى، هذا يجعل ابن السني من كبار حفاظ الحديث. والذي يتلخص من ترجمته ومن كتابه "عمل اليوم والليلة" لا يفيد سوى أنه حافظ من حفاظ الحديث، ليس من جهابذة الفن. وإن اختيار هذه الأحاديث وتصنيف كتاب ككتاب المجتبى يحتاج إلى معرفة بالعلل والسنن. وابن السني لم يشتهر بذلك.
ولمعترض أن يقول: وهذا يصح لو أن كل ما في كتاب المجتبى صحيح، أو أنه لم يترك أحاديث صحيحة في السنن الكبرى ليست في الصغرى. وإلا فعمله ليس فيه عبقرية! وأي طالب علم في الجامعة يستطيع أن يلخص لك كتاب حديثي معلل بحذف الأحاديث التي تكلم عليها صاحب الكتاب، لكن هذا لا يضمن لك أن يترك بعض الأحاديث الصحيحة، وينقل بعض الأحاديث الضعيفة، لأنه ليس من أهل هذا الشأن. والله أعلم.
لكن من الممكن أن نجيب: أنه في الصغرى نفَس النسائي رحمه الله الجامع بين علمي الفقه والعلل. فتجده يقول بعد سرد بعض الأحاديث "ذكر الاختلاف على شعبة"، ويعلل تلك الروايات بنفَسٍ حديثي قوي.
وأهم الاعتراضات على نظرية كون النسائي صاحب السنن الصغرى:
1- توجد أحاديث نصّ النسائي على ضعفها في "المجتبى". فيدلّ ذلك على أنّه لم يجتبِ الأحاديث الصحيحة من الكبرى. ومن المستبعد بالاستقراء أن يكون كل ما في الصغرى صحيح. وفي الصغرى أحاديث أعلّها النسائي في الكبرى ببيان الاختلاف على بعض رواتها. مثل حديث كفارة إتيان الحائض. وأحياناً يورد الرواية ويبين انقطاعها وعلتها. فكيف تكون صحيحة؟
والجواب: أن هذا لا يعني أن الكتاب ليس من تأليف النسائي. فالحديث الذي أعله ليس على شرطه، وإنما ذكره لغرض ما. وهذا كتاب الجامع الصحيح للبخاري، يورده فيه أحاديث معلقة أو مرسلة ليبين علتها. فهل وجود حديث في صحيح البخاري -ويكون قد أعله خارج الصحيح- يجعل الكتاب ليس من تصنيف المؤلف؟ بل ينبغي دارسة منهج النسائي في سننه الصغرى، ولماذا أورد الأحاديث التي أعلها في موضع آخر.
2-
الحكايات التي ذكرها الدكتور فاروق (عما ذكره الغساني والتجيبي)، تبقى احتمالاً
لأنها منقطعة.
والجواب: أن هذه الحكايات المنقطعة، أولى من جزم الذهبي الذي ليس له مستند ولاشيء
منصوص، سوى احتمالات ظنية. والذهبي رغم أنه من أهل الاستقراء التام، إلا أنه يجزم
في مواطن كان ينبغي له أن يتثبت قبل أن يجزم. ومن ذلك نفيه أن يكون الإمام أحمد صنف
التفسير، وقد رد عليه بعض الحنابلة.
3- من الممكن القول بأن "المجتبى" هو رواية ابن السنّي للسنن الكبرى. وقد يقال: كم من كتاب لم يرويه إلا شخص واحد، وقد يكون سمعه عشرات ولكن الراوي واحد. أقول: نعم، لكن عدم وجود راو للمجتبى من غير طريق ابن السني يجعل احتمال كون ابن السني هو المؤلف، أمراً وارداً. أما ما ذكره ابن الكثير من سماع ابن السني للسنن من النسائي، فهذا أمر لم ننكره أصلاً. نعم، سمع السنن الكبرى، وسمع غيرها، ثم اجتبى من حديث شيخه بعضه.
4- لماذا هناك أحاديث ضعيفة في المجتبى (رغم أنه من المفروض أن يكون كله صحيح) مع علمنا أن النسائي متعنت في توثيق الرجال كما يزعمون؟
والجواب أن: الغالب أن الذي في السنن الصغرى أو المجتبى أنه صحيح على شرط النسائي. هذا الغالب. وأحياناً يخرج عن هذا الشرط لسبب أو لآخر. والإنسان نفسه قد يشترط شرطاً ويخالفه. ثم أغلب الأحاديث التي فيها ضعف، ينبه عليها النسائي. وشرط غيره لا يلزمه، فالنسائي له منهج خاص. وأما القول بأن هناك أحاديث أعلها النسائي في المجتبى، فالقول: الحكم للغالب. فالبخاري قد يذكر حديث فيه ضعف أو زيادة. فهل معنى ذلك أنه لم يشترط في كتابه الصحة؟ وكذا الأحاديث التي ذكرها النسائي، لعل بعضها ذكرها عرضاً. وهذه المسألة تحتاج مزيد بحث وتوسع. هذا مع الفارق الشاسع بين صحيح البخاري ومجتبى النسائي.
5- الإشكال أن أمير الرملة قد طلب من النسائي تجريد الصحيح من "السنن الكبرى"، لكن: هناك أحاديث في "الصغرى" ليست صحيحة. وهذه وإن كانت قليلة لكنها موجودة. فإن قال معترض أن مسلم أخرج في صحيحه أحاديث ضعيفة، فلنا أن نقول أن النسائي لم يلتزم بأمر أمير الرملة بتجريد الصحيح فحسب.
هذا الإشكال جوابه: كيف حكم على الحديث بالضعف؟ هل ضعفه النسائي وأورده في السنن؟ إن كان كذلك صح هذا الإشكال. وإلا فتضعيف غيره ليس بحجة عليه.
6-
هناك أحاديث صحيحة كثيرة، بل كتب بأكملها في "الكبرى" مثل كتاب "التفسير" و "خصائص
علي" و "الطب" و "فضائل الصحابة"، ليس منها شيء في "الصغرى".
والجواب أنه: اختلف في نسبة بعض هذه الكتب إلى السنن الكبرى. ولو ثبتت، فإن كتابه
السنن الصغرى اقتصر في ذلك على ما ورد في السنن والأحكام على أصل الكتاب. أي أن
النسائي قد جرد صحيح أحاديث الأحكام فحسب.
7- هناك كتب في "الصغرى" مثل كتاب "الإيمان وشرائعه" و "الصلح" ليست في "الكبرى". وهناك أحاديث في "الصغرى" ليست في "الكبرى". فلعل النسائي قد غفل عنها في "الكبرى"، فأضافها هنا؟
8-
توجد
ألفاظ وتراجم وأبواب في "الصغرى" لا وجود لها في "الكبرى".
والجواب: بل مجرد ثبوت وجود أحاديث في المجتبى ليست في الكبرى، تدل على أن
الكتاب للنسائي وليس لابن السني. وإلا كان الكتاب لابن السني، وليس للنسائي فيه
مدخل. أو يقال حينها: زيادات ابن السني على النسائي، كما قالوا في زيادات عبد الله.
ولابد أن يكون سندها واضحاً كما هي في مسند أحمد. وما سمعنا بأحد قال ذلك.
لكن يبقى مجتبى النسائي (السنن الصغرى) أفضل وأعلى طبقة من كثير من الكتب التي ادعت الصحة وفشلت فيها، مثل صحيح (!) ابن حبان، ومستدرك الحاكم، والمختارة، والمنتقى، والسلسلة الصحيحة، وأمثال ذلك. والله أعلم بالصواب.