الذهبي كان في متوسط عمره عندما ألف كتاب تلخيص المستدرك. وهذا استنتجته من عدة
أمور:
1) التلخيص عادة يكون في أوائل الطلب، لا في أواخره.
2) تلخيص المستدرك ذكره الذهبي في غالب كتبه، مما يجعلنا نجزم بأنه من قديم تصنيفه.
3) بعض عباراته في التلخيص فيها بعد الشدة مقارنة مع عباراته في الميزان والسير وغير ذلك.
4) فاتته عدة أحاديث وهِم بها الحاكم وقد أخرجها الشيخان. ولم ينبه الذهبي إلا على قليل منها.
5) تصحيحه لأحاديث قد ضعفها فيما بعد أو في مواضع أخرى. ومثل هذا التناقض أستبعده على الذهبي الذي نعرفه في آخر عمره.
6) كتاب التلخيص قال عنه الذهبي في السير: وبكلّ حالٍ فهو -أي مستدرك الحاكم- كتابٌ مفيدٌ قد اختصرته، ويعوز عملاً وتحريراً.
وإجمالاً فالأمرين الأول والثاني هما السببين الأساسيين لترجيحي بذلك. وهناك الكثير من الكتب التي كتبها مؤلفوها في شبابهم فكانت دون مستواهم الذي نجده في كتبهم المشهورة الأخرى.
قال
الذهبي في ميزان الاعتدال (7\465): «فصل في النسوة المجهولات. وما علمت في النساء
من اتُّهِمت، ولا من تركوها». قال السيوطي في تدريب الراوي (1\321): «من ضَعُف
منهنّ إنما هو للجهالة». وظن بعض طلبة العلم أن مقولة الذهبي تشمل كل النساء.
وهذا ليس على إطلاقه، بل قوله هذا هو خاص بمن يذكرهن في هذا الفصل فحسب. وقد صيّر
كثيرٌ من طلاب العلم هذا القول حكماً عاماً في كل راوية لم يأت فيها توثيق، أو لم
يحكم عليها أحد بجهالة. فنفوا عنهن أن يكن قد مُسِسْنَ بأيِّ ضربٍ من ضروب
التجريح!
1- فماذا عن حكامة بنت عثمان؟ أليست متهمة متروكة؟ فقد روت عن أبيها أحاديث
موضوعة، وهو قد وُثّق. فقد قال ابن حبان في الثقات (7\194): «عثمان بن دينار، أخو
مالك بن دينار. يروى عن مالك بن دينار. روت عنه ابنته حكامة بنت عثمان بن دينار.
وحكامة لا شيء». وقال العقيلي في ضعفاءه (3\200): «عثمان بن دينار أخو مالك بن
دينار، تروي عنه حكامة –ابنته– أحاديث بواطيل ليس لها أصل». وسرد بعض تلك
الأحاديث ثم قال: «أحاديث حكامة تشبه حديث القصاص: ليس لها أصول». وقال الذهبي في
"المغني في الضعفاء" (2\425): «عثمان بن زائدة، عن نافع: صدوق. لكن له حديثٌ
منكَرٌ خولِفَ فيه، ذكره العقيلي. رواه عنه متروك (أي ابنته) فالآفة من صاحبه (أي
منها)». وأيد ذلك قال ابن حجر في لسان الميزان (2\331). فمقولة الذهبي ليست على
إطلاقها.
2- أم عمر بنت أبي الغصن: قال ابن معين (رواية ابن محرز 1\58، ومن طريقه الخطيب
في تاريخه 14\433): «ليست بشيء».
3- كريمة بنت سيرين، أخت محمد بن سيرين: قال ابن معين (كما في لسان الميزان
6\71): «يحيى وكريمة ابنا سيرين: ضعيفا الحديث».
4- هند الأنصارية: قال الذهبي في السير (3\465): «كانت شيعية».
5- زينب: ترجم لها الحافظ ابن حجر في اللسان (3\365)، وقال: «الكذابة».
6- رابعة: قال أبو داود (رواية الآجري 1\416، ونقله الذهبي في الميزان 2\62):
«كان (رياح بن عمرو القيسي) رجُل سوء، هو وأبو حبيب، وحيان الجريري. ورابعة
رابعتهم في الزندقة».
كثر في هذا العصر استعمال بعض الأفاضل اصطلاح: "صححه الحاكم، ووافقه الذهبي"، فيما أورده الإمام الذهبي في كتابه: "تلخيص المستدرك" من كلام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري. معتبرين أن مجرد سكوت الذهبي على كلام الحاكم، هو موافقة منه له. وهذا غلط في غاية البعد عن الصواب للأسباب التالية:
1. موضوع كتاب "تلخيص المستدرك" ما هو إلا تلخيص للأحاديث –إسناداً ومتناً– مع تلخيص أقوال الحاكم في أقواله على مروياته فحسب، إضافة إلى بعض التعقبات التي يوردها الذهبي على هذه الأقوال. هذا لا خلاف فيه عند أحد.
2. الإمام الذهبي لَمْ يحقق المستدرك، بَلْ اختصره كَمَا اختصر عدداً من الكتب. وَكَانَ من صنيع هَذَا الإمام العظيم أنْ يعلّقَ أحياناً عَلَى بَعْض الأحاديث، لا أنّه يريد تحقيقها والحكم عَلَيْهَا وتتبعها جميعهاً.
3. لم يذكر الذهبي أبداً –ولا أحد من تلامذته– أن ما سكت عليه فهو مقر للحاكم. ولا ذكر أن كتابه استدراك وتعقّب.
4. إذا اتفقنا أن شرط الذهبي تلخيص، فكونه يتعقب هو أمرٌ زائدٌ على شرطه لم يلتزمه. بل إن استدراكه قليل جداً، فلا نجعل من تعقبه في بعض المواضع لازم آخر –وهو الموافقة–.
5. الذهبي ضعّف كثيراً من الأحاديث التي في المستدرك في كتبه الأخرى كالميزان وغيره، مع أنه سكت عليها في اختصاره للمستدرك. هل يعني هذا أنه اضطرب؟ طبعا لا، لأنه في المستدرك يلخص لا يعقب ويوافق. وإلا للزم من هذا أن كل مؤلِّف شَرَح أو عَلَّقَ على كتابٍ أخر فتعقّب في موضعٍ على حديث، أنه موافقٌ فيما ترك.
6. مجرّد اختصاره لمقولة الحاكم عقب الأحاديث "صحيح على شرط البخاري ومسلم" أو "على شرط البخاري" أو "شرط مسلم"، لا يعني أنه مؤيد، بل هو ناقل. وإلا فالذهبي ينتقد جزءً كبيراً جداً من المستدرك كما في ترجمة الحاكم من تاريخه، ومن ذلك قوله في السير: «في المستدرك شيء كثير على شرطهما. وشيء كثير على شرط أحدهما. ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل. فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة. وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد. وذلك نحو ربعه. وباقي الكتاب مناكير وعجائب. وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها، كنت قد أفردت منها جزءاً». فكيف يوافقه؟
7. قال الذهبي عن كتابه "تلخيص المستدرك" في ترجمته للحاكم في "سير أعلام النبلاء" (17|176): «وبكل حال فهو –أي المستدرك– كتاب مفيد قد اختصرته. ويعوز عملاً وتحريراً». فلو أنه وافق الحاكم على جميع ما سكت عليه لما قال ذلك.
8. كتاب تلخيص المستدرك ألفه الذهبي في شبابه. فهو ليس في مستوى كتبه الأخرى. وقد سبق بيان ذلك.
9. لم يكن شائعاً بين أهل العلم المتقدمين من بعد عصر الذهبي مثل هذه المسألة في قوله "صححه الحاكم ووافقه الذهبي". وأول من تساهل وأطلق هذه العبارة هو المناوي صاحب "فيض القدير". وتجوز فيها أيضاً جماعة كصديق حسن خان والصنعاني. ثم شهرها ونشرها الشيخ أحمد شاكر، ثم طفحت بها كتب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ شعيب الأرنؤوط، حتى عمت عند أغلب الباحثين. ولو كانت هذه المقولة صحيحة لاستخدمها الحافظ ابن الملقن و العراقي والهيثمي و ابن حجر العسقلاني والبقاعي والسخاوي والسيوطي وهم من الذين أكثروا التخريج.
وقد جمعت بعض أقوال الزيلعي صاحب "نصب الراية" –وهو تلميذ الذهبي– وكيف تصرفه في المسالة هذه. قال في (3|3): «وأخرجه الحاكم في المستدرك في تفسير آل عمران وسكت عنه، ولم يتعقبه الذهبي في مختصره بالانقطاع». وقال في (3|80): «ووهم الحاكم في المستدرك فرواه وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يعقبه الذهبي في ذلك». وقال (3|38): «ورواه الحاكم في المستدرك وقال "حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، ولم يعقبه الذهبي في مختصره». فعبارة الزيلعي عبارة دقيقة فهم فيها كلام شيخه الذهبي وقصده في التصنيف.
وللزيلعي نقولات عديدة عن مختصر المستدرك نقل فيها تعقب الذهبي على الحاكم. وعلى سبيل المثال (3|459،464،38،39،63،73،80،153،311،340،347) و(1|275، 261،134) وغيرها. ويستغرب من فهم بعض المعاصرين لمعنى آخر غير الذي يفهمه تلاميذ الذهبي.
فعلى هذا فلا تقل: "صحّحه الحاكم وأقره الذهبي"، بل تقول: "صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي"
ومن المرويات التي تؤيد من سبق:
1- قال الحاكم في المستدرك (1|545): «هذا حديث صحيح الإسنادـ فإن رواته كلهم مدنيون ثقات». اختصر الذهبي هذه المقولة في التلخيص إلى: «صحيح رواته ثقات». ثم ترجم في الميزان (1|136) لأحمد بن محمد بن داود الصنعاني وقال: «أتى بخبر لا يحتمل». ثم أورد حديثه هذا، ثم قال: «قال الحاكم: "صحيح الإسناد". قلت: "كلاّ". قال: "فرواته كلهم مدنيون". قلت: "كلا". قال: "ثقات". قلت: "أنا أتهم به أحمد".
2- قال الحاكم (2|545): «صحيح الإسناد ولم يخرجاه». فاختصر الذهبي كلام الحاكم في التلخيص بقوله: «صحيح». ثم أورد هذا الحديث في الميزان لما ترجم لعمر بن إبراهيم العبدي بقوله: «صححه الحاكم، وهو حديث منكر كما ترى».
3- قال الحاكم (1|473): «صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، ولم يخرجاه». وكذا نقل الذهبي قول الحاكم في التلخيص، دون جملة: «ولم يخرجاه». ثم أورد الذهبي في الميزان (3|185) هذه الرواية بهذا الإسناد وقال: «فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط. بل المعروف حديث عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً».
4- قال الحاكم (1|169): «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ». اختصر الذهبي كلام الحاكم في التلخيص بقوله: «على شرط م». ثم أورد في السير (4|491) هذه الرواية من طريق ثور، ثم قال: «إسناده قوي، وخرجه الحاكم فقال: على شرط مسلم، فأخطأ: فإن الشيخين ما احتجا براشد، ولا ثور من شرط مسلم».
5- قال الحاكم (1|28): «صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر». اختصر الذهبي كلام الحاكم في المختصر بقوله: «احتج م بكلثوم». ثم لما ترجم الذهبي لكلثوم بن جبر في الميزان (3|413) أورد هذا الحديث في مناكيره.
6- قال الحاكم (1|492): «هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التل... صدوق في الكوفيين». اختصر الذهبي كلام الحاكم هذا بكلمة: «صحيح» فقط! ثم لما ترجم الذهبي للتل في الميزان (3|513) قال: «ومن مناكيره...»، ثم أورد له هذا الحديث، ثم قال: «أخرجه الحاكم وصححه، فيه انقطاع».
7- صحح الحاكم في مستدركه (2|200، 235، 327، 386) مرويات كثيرة من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، وجعلها على شرط الشيخين، ولم يعقب عليه الذهبي بشيء. ثم قال الذهبي في السير (5|248) لما ترجم لسماك بن حرب: «تجنب البخاري إخراج حديثه، وقد علق له البخاري استشهادًا به. فسماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس نسخة عدة أحاديث، فلا هي على شرط مسلم، لإعراضه عن عكرمة، ولا هي على شرط البخاري، لإعراضه عن سماك. ولا ينبغي أن تعد صحيحة، لأن سماكًا إنما تُكلم فيه من أجلها».
ومن عجائب أحد المعاصرين (وهو الشيخ أبو إسحاق الحويني) أنه بنى على هذه المسألة كتابا أسماه "إتحاف الناقم بأوهام الذهبي مع الحاكم". ولعله انتبه لهذا مؤخراً، وهو حسن الظن به.