حكم نكاح الدبر

ملاحظة هامة: هذا البحث المنشور هو جزء من بحث طويل، لكن بسبب استفادة الرافضة منه، رأيت أن أحذف منه مقاطع، مع التنبيه لمواضع الحذف.

الأحاديث المرفوعة

قال الحافظ: «جميع الأحاديث المرفوعة في هذا الباب –وعِدتها نحو عشرين حديثاَ– كلها ضعيفة لا يصح منها شيء. والموقوف منها هو الصحيح». وقال ابن حجر: «ذهب جماعة من أئمة الحديث –كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري– إلى أنه لا يثبت فيه شيء». وقال الشافعي: «لم يصح عن رسول الله r في تحريمه ولا في تحليله شيء». (حذف).

وقد أشار ابن حجر في تلخيص الحبير (3|180) إلى ضعف كل هذه الأحاديث. ولكن هناك رغبة شديدة بتصحيحه عند الكثيرين. فنقول لهم: حتى لو صح، فهو لا يدل على المطلوب، أي في الزوج. وهذا يقال في أكثر هذه الأحاديث التي يحاولون تصحيحها. والثابت أن إتيان الزوجة في دبرها، لم تشرّع له عقوبة، ولا عُرف عن رسول الله r أنه عاقب أحداً عليه.

تفسير الآية

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (سورة البقرة 2: 222-223).

اختلف المفسرون في معنى ]فأتوهن من حيث أمركم الله[. فقد ثبت عن ابن عباس t وتلميذه عكرمة قوله بما معناه: «أُمِروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه، أي من حيث جاء الدم». ورُوي عن غيرهما أن معناه: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه، وذلك الوجه هو الطهر دون الحيض. قال إمام المفسرين الطبري: «وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قبل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى فنهي عن خلافه وضده، وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: {فأتوهن من حيث أمركم الله} فأتوهن من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن، لوجب أن يكون قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن. وفي إجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يطلق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئا حرمه في حال الطهر ولا حرم من ذلك في حال الطهر شيئا أحله في حال الحيض، ما يعلم به فساد هذا القول»، ثم أطال في الانتصار لهذا التفسير.

أما الحرث فهو إلقاء البذر في الأرض، وأما الزرع فهو عملية إنبات هذا البذر، وهو من اختصاص الله سبحانه وتعالى كما قال: ]أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟[. والمقصود بالحرث هنا هو موضعه وهو فرج المرأة. قال القرطبي في تفسيره (3|93): «فرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترث»، فعلينا الحرث أي الإلقاء فيها وعلى الله الإنبات.

واختلف في معنى "أنى". فقيل كيف، وقيل حيث، وقيل متى، وبحسب هذا الاختلاف جاء الاختلاف في تأويل الآية. فإن "أين" إنما هي حرف استفهام عن الأماكن. و "متى" هي حرف استفهام عن الوقت. وإذا فسرناها بمعنى "أين" لكان معنى ذلك إجازة وطء الدبر. وإن فسرناها بمعنى "متى" لكان معنى ذلك إجازة وطء الحائض! وكل ذلك باطلٌ لا حجة لهم فيه، لأن أنى في لغة العرب التي نزل بها القرآن إنما هي بمعنى "من أين" لا بمعنى "أين". فإذ ذلك كذلك فإنما معناه من أين شئتم. قال الله عز وجل في سورة آل عمران: ]يا مريم أنى لك هذا[ أي بمعنى من أين لك هذا. وكذلك فسرها النحوي سيبويه بـ " كيف" و "من أين" باجتماعهما.وقال القرطبي «معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة». قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني (2|124): «فيصير المعنى من أي مكان، لا في أي مكان. فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان. فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها».

سبب نزول الآية

أخرج البخاري عن جابر t قال: «كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول. فنزلت نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم». وأخرجه مسلم بفظ آخر: «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول. فنزلت نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم».

أخرج البخاري (كما في الفتح 8|190) وإسحاق ابن راهُوْيَه في مسنده وتفسيره وابن جرير الطبري في تفسيره (2|391) عن نافع قال: قرأت ذات يوم {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}. قال: ابن عمر أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عمر {فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال: في الدبر.

وأخرج النسائي وابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (ثقة) عن أبي بكر بن أبي أويس (عبد الحميد بن عبد الله، ثقة) عن سليمان بن بلال (ثقة) عن زيد بن أسلم (ثقة) عن ابن عمر t: أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً، فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}.

وأخرج الدارقطني ودعلج كلاهما في غرائب مالك من طريق أبي مصعب واسحق بن محمد القروي كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «يا نافع أمسك على المصحف». فقرأ حتى بلغ {نساؤكم حرث لكم...} الآية. فقال: «يا نافع أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟». قلت: «لا». قال: «نزلت في رجل من الأنصار، أصاب امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فسأل النبي r، فأنزل الله الآية». قال الدارقطني: «هذا ثابت عن مالك». وقال ابن عبد البر: «الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة».

فعندنا إذا سببين للنزول، الأول يرويه جابر t والثاني يرويه ابن عمر t. ولفظ البخاري لحديث جابر يحتمل الوجهين، أي نكاح الدبر أو نكاح الفرج من جهة الدبر. وأما لفظ مسلم فصريحٌ بأن الآية خاصة بنكاح الفرج من جهة الدبر. وأما رواية عمر فهي صريحة في جواز إتيان النساء في أدبارهن. على أن الجمع بين الروايتين ممكن، فإن جابراً كان يتحدث عما كان يقوله اليهود، وابن عمر يتحدث عن حادثةٍ معينة حدثت لرجل من الأنصار، لم يسمِّه طبعاً للسبب الواضح. وإلا فإن إصراره على هذا التفسير وكثرة تحديثه للمقربين منه بذلك، هو دليل تيقنه مما يعرف، والمثبت مقدَّمٌ على النافي.

فنحن نثبت ما قاله ابن عمر t في سبب النزول، وقول الصحابي في سبب النزول حجة قاطعة بحكم الحديث المرفوع. لكن قد يخطئ بالاستنتاج (أي في الأمر الفقهي)، إذ يبدو –والله أعلم– أن النتيجة أتت بالتحريم وليس بالإجازة كما فهمه رضي الله عنه. فقد فهم مما حدث –كما أخرج البخاري– أن الآية رخصة في إتيان النساء في أدبارهن. ولكن لو تأملنا القصة كما أخرجها الدارقطني، وكما أخرجها النسائي وابن جرير، لوجدنا أن الآية نزلت بعدما أتى الأنصاري امرأته في دبرها، فتأسف، فسأل رسول الله r عن ذلك فنزلت الآية. ففهم ابن عمر t أن معنى الآية الجواز لقوله تعالى ]أنى شئتم[. والذي يبدو لي أنه ليس فيها جواز، بل لعله إرشاد للرجل أن يؤتي امرأته من موضع الحرث (وهو الفرج) من أي جهة كانت، ولم تتكلم عن الدبر. فدل ذلك على تحريمه، أو كراهته في أقل تقدير.

ويستدل البعض لهذا بما أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار: حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج أن محمد بن المنكدر حدثه، عن جابر بن عبد الله t: أن اليهود قالوا للمسلمين: «من أتى امرأته وهي مدبرة، جاء ولدها أحول». فأنزل الله عز وجل {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فقال رسول الله r: «مقبلة ومدبرة، ما كان في الفرج». قال الطحاوي: «ففي توقيف النبي r إياهم في ذلك على الفرج، إعلامٌ منه إياهم أن الدبر بخلاف ذلك». أقول: «ولو صحت هذه الزيادة لأخرجها البخاري ومسلم وأصحاب السنن، إذ أن الإسناد صحيح على شرط الشيخين. ولكن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن جريج ولا تصح مرفوعة.

فقد أخرج أبو عوانة في مسنده (3|84): حدثنا أبو عمر الإمام ثنا مخلد عن ابن جريج ح وحدثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب قال حدثني مالك وابن جريج وسفيان الثوري أن ابن المنكدر حدثهم عن جابر بن عبد الله: «إن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول. فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم». قال ابن جريج في حديثه: «مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في القبل». أقول: ولذلك أخرج البخاري ومسلم قول جابر t دون زيادة ابن جريجٍ لأنها مدرجة من كلامه، ولا تصح مرفوعة. وهناك زيادةٌ مدرجة أخرى من طريق الزهري أنه قال: «إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير إن ذلك في صمام واحد»، وهي من كلام الزهري لا من كلام جابر. وعلى أية حال فقد أصحاب الزهري وابن جريج المعنى الذي دلت عليه الآية كما سنرى في تفسيرها.

وأخرج ابن جرير الطبري وأبو داود (2|249) والطبراني (11|77) والحاكم (2|213) والبيهقي في سننه (7|195)، كلهم من طريق محمد بن إسحاق (مدلّس حسن الحديث) عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر –والله يغفر له– أوهم إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود، وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك استر ما تكون المرأة. فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً (أي ينزعون عنهن الثياب) ويتلذذون منهن مقبلات مدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم (أي من المهاجرين، بعكس قصة ابن عمر) امرأة من الأنصار. فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه. وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف واحد فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني. فسرى أمرهما فبلغ رسول الله r، فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}. يقول: مقبلات ومدبرات بعد أن يكون في الفرج، وإنما كانت من قبل دبرها في قبلها. زاد الطبراني قال ابن عباس: «قال ابن عمر: في دبرها. فأوهم ابن عمر، والله يغفر له. وإنما كان الحديث على هذا».

أقول: هذا إسنادٌ ضعيفٌ –ليس بالحسن– بسبب عنعنة محمد بن إسحاق. وما زعمه البيهقي من أن عبد الرحمن بن محمد المحاربي رواه عن ابن إسحاق بالتحديث فلا يصح. فإن المحاربي هذا مدلّسٌ وقد عنعن. وقد رواه الطبراني عنه بالعنعنة أيضاً عن ابن إسحاق وليس بالتحديث! أما المتن الذي أخرجه الحاكم (2|307) فليس فيه ذكر ابن عمر أصلاً. ولذلك ذكر البيهقي الإسناد ولم يذكر المتن، لأنه يعلم أنه حجة عليه وليس له.

وقد روى أبو يعلى وابن مردويه في تفسيره، وابن جرير الطبري (2|395) والطحاوي (3|40) من طرق، عن هشام بن سعد (حسن الحديث)، عن زيد بن أسلم (ثقة)، عن عطاء بن يسار (ثقة)، عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا أصاب امرأة في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: أثفرها. فأنزل الله عز وجل {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}». مع اختلاف يسيرٍ في اللفظ دون المعنى.

أقول: هذا حديث حسن من رواية هشام بن سعد، وهو أحسن حالاً من محمد بن إسحاق صاحب الحديث الذي وهّم به ابن عباس ابن عمر. ونحن لا نحتج أصلاً بالحديث الحسن ولا بالضعيف، فلا نقبل لا هذا ولا ذاك. ولكن من كان يقبل بالحديث الحسن فيلزمه الاحتجاج بهذا الحديث من بابٍ أولى من الحديث الأول، لأنه ليس فيه مدلّس كما حال الأول. قال ابن حجر: «وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور. وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس، وبلغه حديث ابن عمر فوهَّمّه فيه».

وهذا التوهيم يُشَكُّ في صدوره من ابن عباس. إذ هو يعلم أنه ليس من حقه النفي ما لم يعلم يقيناً بالواقعة، والأمر مشكوك فيه بالنسبة لابن عباس لصغر سنه. فقد مات رسول الله r وابن عباس عمره ثلاث عشرة سنوات كما في الإصابة (4|141)، فكان عمره أصغر عند نزول الآية. وهذا عمرٌ لا يساعد على حضور الواقعة، فلا بد من وجود واسطة لشهود الحدث وهو لم يذكر تلك الواسطة. لكن معنى الآية في اللغة يشهد لابن عباس t.

الآثار المبيحة

(حذف بأكمله)

الآثار المحرمة

وأخرج النسائي والطحاوي وابن جرير والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس. أنه قيل له: يا أبا عبد الله إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد أو العلج على أبي. فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال لنافع. فقيل له: فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر له الدبر. فقال ابن عمر: أف أف، وهل يفعل ذلك أحدٌ من المسلمين؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة أخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. قال الدارقطني: «هذا محفوظ عن مالك صحيح». قال ابن كثير: «هذا إسنادٌ صحيح». وأخرج طرف القصة الدارمي أيضاً بإسنادٍ صحيح.

وليس في هذه القصة ما يثبت عدم صحة مذهب ابن عمر t. فإن الحارث بن يعقوب وأبو الحباب الّذان رويا قصة تأفأف ابن عمر، قد رويا عنه إباحة إتيان النساء من أدبارهن، وهما ثقتان. فلا مجال للطعن في الرواة أصلاً. وليس في تأفأف ابن عمر تحريمٌ أصلاً. فإنه كان يفتي بإتيان النساء في أدبارهن، ولم يكن الناس يوافقونه. ويبدو أيضاً أنه لم يكن يفت بذلك إلا للمقربين منه أمثال ولده ومولاه. فمن هنا استغرب أن يعلم أن كثيراً من المسلمين يفعلون ذلك. وهذا واضحٌ لمن تأمل الرواية بغير تعصب. وأما تكذيبهم لنافع –مع ما هو عليه من قوة الحفظ– فبعيد. ولم يتفرد نافع بذلك بل سبق وقلنا أن الرواية متواترة لا ينقضها خبر الآحاد على التسليم بمعارضته.

وأخرج وابن أبي حاتم بإسنادٍ جيدٍ، وكذلك ابن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى (ثقة فقيه)، قال: أخبرنا ابن وهب (ثقة فقيه)، قال: ثنا أبو صخر (حميد بن زياد المدني، جيد الحديث)، عن أبي معاوية البجلي وهو عمار الدهني (ثقة)، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس، أتاه رجل فوقف على رأسه، فقال: يا أبا العباس -أو يا أبا الفضل- ألا تشفيني عن آية المحيض؟ فقال: بلى! فقرأ: {ويسألونك عن المحيض} حتى بلغ آخر الآية. فقال ابن عباس: «من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي». فقال له الرجل: «يا أبا الفضل. كيف بالآية التي تتبعها {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}؟». فقال: «إي ويحك. وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخاً. إذا اشتغل من هاهنا جئت من هاهنا! ولكن أنى شئتم من الليل والنهار».

وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس {فأتوا حرثكم أنى شئتم} يعني بالحرث الفرج. يقول: «تأتيه كيف شئت مستقبلة، ومستدبرة، وعلى أي ذلك أردت بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره، وهو قوله {من حيث أمركم الله}». وهذا إسناده فيه ضعف يسير لأنه من صحيفة علي بن أبي طلحة، وقد سبق الكلام عنها.

وأخرج ابن جرير بإسنادٍ ضعيفٍ من طريق داود بن الحصين (قال علي بن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر، وقريبا منه قال أبو داود)، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكره أن تؤتى المرأة في دبرها ويقول: إنما الحرث من القبل الذي يكون منه النسل والحيض. وينهى عن إتيان المرأة في دبرها ويقول: إنما نزلت هذه الآية: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقول: من أي وجه شئتم.

وأخرج النسائي والطبراني وابن مردويه عن كعب بن علقمة (مجهول) عن سالم أبي النضر بن أبي أمية (ثقة ثبت يرسل). أنه قال لنافع مولى ابن عمر: أنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى أن يؤتى النساء في أدبارهن؟ قال: كذبوا علي، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا. قال: إنّا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذت بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}.

قلت هذه قصة واهية ضعيفة لا أساس لها. وكعب بن علقمة مجهول الحال لا يُعرف. ومثل هذا القصة لا تصلح لمعارضة ما أخرجه البخاري في صحيحه، بل وما تواتر عن ابن عمر t. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. منها عن أبي بن كعب عند الحسن بن عرفة بإسناد ضعيف. وعن ابن مسعود عند ابن عدي بإسناد واه. وعن عقبة بن عامر عند أحمد بإسناد فيه ابن لهيعة. وعن عمر عند النسائي والبزار بإسناد فيه زمعة بن صالح وهو ضعيف.

بيان القياس

روى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (ثقة بلا خلاف) وأخاه عبد الرحمان قالا: قال الشافعي كلاما كلم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها، قال: سألني محمد بن الحسن، فقلت له: إن كنت تريد المكابرة، وتصحيح الروايات وإن لم تصح، فأنت أعلم، وإن تكلمت بالمناصفة، كلمتك. قال: على المناصفة. قلت: فبأي شيء حرمته؟ قال: بقول الله عز وجل: {فأتوهن من حيث أمركم الله}. وقال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} والحرث لا يكون إلا في الفرج، قلت: أفيكون ذلك محرما لما سواه؟ قال: نعم، قلت: فما تقول: لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها، أو تحت إبطها، أو أخذت ذكره بيدها، أفي ذلك حرث؟ قال: لا. قلت: أفيحرم ذلك؟ قال: لا. قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال: فإن الله قال: {والذين هم لفروجهم حافظون} الآية. قال: فقلت له: إن هذا مما يحتجون به للجواز، إن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته، وما ملكت يمينه، فقلت: أنت تتحفظ من زوجته ومما ملكت يمينه!

قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم، فأما في الجديد فالمشهور أنه حرمه. أقول: وكذلك قال الربيع أن الشافعي حرمه في ستة كتب. وقال ابن حجر: «ويحتمل أن يكون ألزم محمداً بطريق المناظرة وإن كان لا يقول بذلك، وإنما انتصر لأصحابه المدنيين». أقول: هذا يعني –على تسليمه– أن الشافعي يجادل بالباطل تعصباً لمذهب قومه، وهذا للأسف يفعله الكثير من الفقهاء. والشافعي كان بارعاً في المناظرة، كثيراً ما يلزم خصومه بأمور باطلة. ولكن حسن الظن فيه أنه كان يعتقد بها، وإلا فإن قوله « لم يصح عن رسول الله r في تحريمه ولا في تحليله شيء»، رغم أنه يُصحِّح في ذلك حديثاً رواه عن عمه، يكون كذباً على رسول الله r. وحاشاه الله من ذلك. بل نجزم بذلك لقوله كما في سير الأعلام (10|29): «ما ناظرت أحداً على الغلبة، إلا على الحق عندي». لكن لربما أراد بعض فقهاء الشافعية المتأخرين فتوى بجواز الكذب على خصومهم، فأرادوا نسبة ذلك إليه. وقد تكلم أبو حامد الغزالي عن هذا بما هو خارج عن موضوعنا.

ثم إن ما ذهب إليه الشافعي قد أجاب عليه الآلوسي في روح المعاني (2|125) فقال أن هذا «مدفوعٌ بأن الإمناء –فيما عدا الضمامين– لا يعد في العرف جماعاً ووطئاً. والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث، لا الاستمناء. فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الإعكان لم تعلم من الآية، إلا أن يعد ذلك إيتاءً وجماعاً، وأنى به؟ ولا أظنك في مريةٍ من هذا». أقول: ومع ذلك فليس في الآية وحدها دلالة تحريم صريحة. وإنما التحريم يكون بالقياس، وسيأتي.

واحتج بعض المبيحين بقول الله تعالى لقوم لوط: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} أي من أزواجكم مثل ذلك، إن كنتم تشتهون. وهذا استنتاج ضعيف كما هو ظاهر، إذ يمكن عكسه! ولم يثبت مثل هذا التفسير عن أحد من الصحابة.

وأخرج الخطيب والطحاوي وكذلك ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن ابن عبد الحكم (ثقة بلا خلاف)، و كذلك الحاكم في مناقب الشافعي عن الأصم (ثقة ثبت) كلاهما عن الشافعي أنه قال: «لم يصح عن رسول الله r في تحريمه ولا في تحليله شيء، والقياس أنه حلال».

قلت بل إن القياس يدل عليه، وقياس الشافعي هذا ليس بشيء. فإن الله قد حرم الله الوطء في الفرج أثناء الحيض لأجل الأذى. وهذا الأذى هو إما لنجاسة دم الحيض، وإما للضرر الذي يصيب الرجل والمرأة من ذلك كما ثبت علمياً. فإن دم الحيض قد يدخل بعد القذف إلى الرجل فيسبب له التهاباتٍ وأمراض. فإن كان إتيان الفرج وقت الحيض حراماً بنص القرآن لأجل النجاسة العارضة، فما الظن بالدبر الذي هو موضع النجس والأذى اللازم؟ هذا مع الذريعة القريبة جداً الحاملة على الانتقال من ذلك إلى أدبار المرد، وممارسة اللواط؟ لا شك أنه أولى بالتحريم. ولذلك سماه عبد الله بن عمرو بن العاص t باللوطية الصغرى. وكفى مناديا على خساسته أنه لا يرضى أحد أن ينسب إليه ولا لإمامه تجويز ذلك.

فإن قال أحدهم، فماذا لو أن الرجل استعمل واقياً بحيث يحجب عنه النجاسة؟ قلنا أما في الحائض فهو محرم بلا أدنى شك. فإن المرأة تتضرر من الجماع في هذا الوقت لأسباب عضوية، حيث لا يكون جهازها التناسلي بحالة تسمح بالجماع سواء من القبل أو من الدبر. أما في الدبر فقد ذكرت بعض الدراسات الطبية، أن الإتيان في الدبر يسبب ارتخاء في عضلات الدبر، وتوسيعاً له. وهذا يؤدي إلى عدم التحكم الكامل بهذا المكان، مما يصل إلى خروج النجاسة غير الإرادي، وما يستتبعه ذلك من قذارات وعدم طهارة. والسبب أن الدبر لم يُخلق أصلاً للعملية الجنسية. لذلك يقول الدكتور محمد البار في كتاب "الأمراض الجنسية" (ص371): «وفي الحالات التي يتم فيه الجماع عن طريق الشرج (في الذكور والإناث)، فإن القناة الشرجية تلتهب التهاباً شديداً مع وجود إفرازات قيحية دموية يصحبها نزيف في بعض الأحيان. وقد تتحول هذه الالتهابات المزمنة إلى سرطان! (لعل في هذا مبالغة والله أعلم) ويكون غشاء القناة الشرجية محتقناً متقرحاً مليئاً بالبثور الصديدية الدموية. وتظهر الخراريج، كما تحدث بواسير بين المستقيم والمهبل أو القناة الشرجية والمهبل». وعلى النقيض، فإن دراسات طبية أخرى ترى أن (حذف).

 فإذا كانت الدراسات الطبية الأولى هي الصحيحة، يكون نكاح الدبر محرماً، حتى مع الواقي، وإلا فحكمه الكراهة. وأما إدخال الإصبع فقط (مع الواقي)، فإذا كان جزءاً مما نسميه بالملاعبة أو التمهيد للجماع بحيث إنها تحصل على متعتها بعد ذلك عن الطريق الطبيعي، فهذا قد لا يعتبر –من الناحية الطبية البحتة– شذوذاَ، ويعتبر نوعاَ من السلوك الجنسي الممهد للعملية الجنسية العادية. ولكننا نقول أنه أمرٌ قذرٌ، ولو كان حلالاً.

بيان الراجح

والذي يترجح لنا في نهاية هذه البحث بطلان كل الأحاديث المرفوعة التي تحرم نكاح الدبر. وثبوت بعض الأقوال الموقوفة على بعض الصحابة. وكذلك ثبوت الإباحة عن عدد من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد بينا أن معنى الآية في اللغة وكذلك القياس في الشرع يدلان على أن الكراهة هو القول الصحيح، وعلى ذلك اتفق غالب العلماء المتأخرون. هذا والله أعلم بالصواب.