أحكام أهل الذمة في الدولة الإسلامية

قال ابن حزم في "المحلى" في شرح كلمة {صاغرون}: «الصَّغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم، وأن لا يُظهروا شيئاً من كفرهم، ولا مما يحرم في دين الإسلام. قال عز وجل: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}». قال الشافعي في الأم (4|223): «فكان الصغار والله تعالى أعلم أن يجرى عليهم حكم الاسلام»، وقال (4|297): «ولو حاصرنا أهل مدينة من أهل الكتاب، فعرضوا علينا أن يعطونا الجزية، لم يكن لنا قتالهم إذا أعطوناها وأن يجرى عليهم حكمنا. وإن قالوا نعطيكموها ولا يجرى علينا حكمكم، لم يلزمنا أن نقبلها منهم، لأن الله عز وجل قال {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فلم أسمع مخالفا في أن الصغار أن يعلو حكم الاسلام على حكم الشرك ويجري عليهم». قال محمد بن الحسن (كما في شرح السير الكبير 5|152): «ولأن المقصود من عقد الذمة مع أهل الحرب ليس هو المال، بل التزام الحربي أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات».

وبذلك يظهر أن المنهزمين فكريا الذين يزعمون أن دفع ضريبة تطبق على جميع المواطنين بدون شروط الذمة يغني عن دفع الجزية، لم يفهموا المقصود منها، لأن المطلوب منها هو الصغار الذي هو الخضوع لحكم الإسلام.

قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص11): «قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} إلى قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون. ولا يجوز الإمساك عن قتالهم، إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية». حتى قال: «وإذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين، كان القتال مأمورا به. وكل من أُمِرنا بقتاله من الكفار، فإنه يُقتلُ إذا قدِرنا عليه. وأيضا فإنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية، لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها. ولو عُقِدَ لهم، كان عقدا فاسدا، فيبقون على الإباحة». وقال «ولا يقال فيهم: "فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان" ... فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا، مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة، دعوى كاذبة. فلا يُلتفتُ إليها».

وقال ابن حزم في الإحكام (3|157): «وأما الصغار عليهم، فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم. فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط. ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا بكنى المسلمين أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتاب ذي القواعد». وقال بالمحلى (12|420): «وأما الذمي - إذا أضر بمسلم، فلقول الله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فإنما حرمت دماء أهل الكتاب بالتزام الصغار، فإذا فارقوا الصغار فقد برئت ذمتهم، وسقط تحريم دمائهم، وعادت حلالا كما كانت، لأن الله تعالى أباح دماءهم أبدا إلا بالصغار، فإذا لم يكن الصغار فدماؤهم لم تحرم، وهم إذا أضروا بمسلم فلم يصغر وهم وقد أصغروه، فدماؤهم حلال».

قال الإمام الشافعي في كتابه "الأم" (4|210) في شروط مصالحة أهل الذمة وكتابتها: «على أن ليس لكم أن تظهروا في شيء من أمصار المسلمين الصليب، ولا تعلنوا بالشرك، ولا تبنوا كنيسة، ولا موضع مجتمع لصلاتكم، ولا تضربوا بناقوس، ولا تظهروا قولكم بالشرك في عيسى ابن مريم، ولا في غيره لأحد من المسلمين». وينظر مراتب الإجماع (ص115).

وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: «ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مصرٍ مصره المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا. وليس لهم أن يُظهروا الخمر في أمصار المسلمين». وفي رواية حنبل: «وإذا كانت الكنائس صلحاً، تُركوا على ما صالحوا عليه. فأما العنوة فلا. وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن، ولا يضربوا ناقوسا، ولا يرفعوا صليبا، ولا يظهروا خنزيرا، ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم يمنعون من ذلك ولا يتركون». ذكر ذلك ابن القيم ولم أجده في كتاب الخلال. وقال ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (6|276): «ويمنعون وجوباً من إظهار خمر وخنزير. فإن فعلا، أتلفناهما، وإلا فلا. نص عليه (يعني أحمد) -وسبق أول الغصب-، و (يُمنعون من) إظهار عيد وصليب وضرب ناقوس ورفع صوت بكتاب أو على ميت. وقال شيخنا (ابن تيمية): "ومثله إظهار أكل في رمضان". ونص أحمد: "لا يضربون بناقوس"، ومراده والله أعلم: إظهاره. قال في الروضة وغيرها: "ويمنع من التعرض للذمة فيما لم يظهروا"».

وقال أبو بكر الكاساني الحنفي في "بدايع الصنايع" (7|114): «لا يُمكّنون من إظهار صليبهم في عيدهم، لأنه إظهار شعائر الكفر، فلا يمكنون من ذلك في أمصار المسلمين. ولو فعلوا ذلك في كنائسهم، لا يُتعرض لهم. وكذا لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرض لذلك، لأن إظهار الشعائر لم يتحقق. فإن ضربوا به خارجاً منها، لم يمكنوا منه لما فيه من إظهار الشعائر».

قال الحطاب المالكي في "التاج والإكليل" (4|602): «قال ابن حبيب: يمنع الذميون الساكنون مع المسلمين إظهار الخمر والخنزير، وتكسر إن ظهرنا عليها، ويؤدب السكران منهم. وإن أظهروا صلبهم في أعيادهم واستسقائهم، كُسِرَت وأُدّبوا».