لا شك عند أهل العلم في أهمية صحيح الإمام البخاري، حيث أنه أصح كتاب للحديث الشريف. وقد قال ابن خلدون في المقدمة: "كان مشايخنا يقولون: شرح صحيح البخاري دَيْنٌ على هذه الأُمّة". وقد قام بشرح هذا الكتاب عدد من أهل العلم. وممن شرح هذا الكتاب الحافظ عبدالرحمن بن رجب الدمشقي الحنبلي الشهير بابن رجب. وذلك في كتابه المسمى "فتح الباري في شرح صحيح البخاري". وهو أفضل شروح صحيح البخاري على الإطلاق. ولكن هذا الشرح لم يكمله المصنف، وإنما وصل فيه إلى كتاب الجنائز ثم توفي رحمه الله. وقد طبع شرحه هذا طبعتين: الأولى بتحقيق دار الحرمين في عشر مجلدات. والثانية بتحقيق طارق عوض الله.
وقد شرح صحيح البخاري من بعده الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي، بكتاب حمل نفس الاسم السابق. وقد صرح بالنقل منه في ثلاثة مواضع. ولكنه لم يطلع على كل ما كتبه ابن رجب بدليل أن ابن رجب وصل معلقات لم يقف عليها ابن حجر. وكتاب ابن رجب أفضل بكثير من كتاب ابن حجر:
1- سواء كان فيما يتعلق بسلامة العقيدة. فابن رجب معروف أنه على عقيدة السلف وعلى طريقة أصحاب الحديث، بخلاف الحافظ ابن حجر -عفا الله عنا وعنه- قد أخطأ في بعض القضايا المتعلقة بالاعتقاد. ونسأل الله أن يغفر له فيما وقع فيه، وهو مجتهد فيما وقع فيه. لكن بيان الخطأ لا بد منه.
2- أو كان فيما يتعلق بشرح الأحاديث سواء من جهة المتن أو من جهة الإسناد. حيث نجد ابن رجب أكثر تحريراً للمسائل الفقهية من ابن حجر، بينما يميل ابن حجر للإيجاز. ويتميز ابن رجب بتحرير مذهب الحنابلة في المسائل الفقهية ويبين خطأ نسبة عدد من المسائل إلى الإمام أحمد.
3- أو ما يتعلق بالصناعة الحديثية، وهي الأهم، حيث أنه أكثر اهتماماً بتخريج أحاديث الباب بتوسع. ففي حين أن التخريج عند ابن حجر مادة فرعية يأتي بها عرضاً، فهي عند ابن رجب مادة أساسية يطيل فيها غالباً. وقد تميز ابن رجب في بيان علل الأحاديث. حيث أنه أشد اتباعاً لمنهج المتقدمين من ابن حجر. بل إن ابن حجر متأثر بوضوح بمنهج المتأخرين.
4- وأغلب ما وصله ابن رجب ولم يقف عليه ابن حجر هو في الآثار والموقوفات. والسبب يرجع إلى أن ابن رجب كان حنبلياً. فهو مهتم بكتب الحنابلة. وكتب الحنابلة ككتاب الشافي وكتاب النجاد وكتب الأثرم وغيرهم، تهتم بإيراد أسانيد الموقوفات أكثر من كتب فقهاء الشافعية أو المالكية أو الحنفية.
5- يعتمد ابن حجر في شرحه في الغالب على آراء الفقهاء المتأخرين، لأن كتابه أكثره مأخوذ من شرح ابن دقيق العيد. بينما يعتمد ابن رجب على أقوال الفقهاء المتقدمين أكثر من المتأخرين. بل أحياناً تجد له شروحاً، لو لم تكن في كتابه لظننتَها لعالم من القرن الرابع الهجري. وكلاهما يهتم بذكر أقوال الفقهاء المختلفة وأدلتهم.
قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله- عن هذا الكتاب: «وشَرَحَ (يعني ابن رجب) قطعة من (صحيح) البخاري إلى كتاب الجنائز. وهي من عجائب الدهر. ولو كمل كان من العجائب».