ملخص لكتاب

الانصاف فيما جاء بالأخذ من اللحية وتغيير الشيب بالسواد من الخلاف

للشيخ دبيان محمد الدبيان
 

أحرر رأي أولاً حتى يتبين للقارئ الكريم:
أرى أن من ترك لحيته بمقدار القبضة، فقد أعفى لحيته، وامتثل الأمر الشرعي بإعفاء اللحية.
وأنه يباح للإنسان أن يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة.
وليس الأخذ واجباً وإن قيل به، ولا مستحباً وإنما هو مباح فقط.
وأنه يحرم أخذ ما دون القبضة وإن قيل بجوازه.
وأن القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً لا يجوز؛ لأنه قول لم يقل به أحد فيما أعلم، وفوق كل ذي علم عليم.
وعندما أقول لم يقل به أحد أقصد من السلف؛ لا من المعاصرين؛ لأن المعاصر إنما هو متبع لا مبتدع، ومن حرم هذا من المعاصرين فإني أطلب أن يذكر لي إمامه في هذه المسألة.
ولا أحتاج أن يقول لي أحد: إن إمامي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام الجميع، وهذا القائل في الحقيقة جعل إمامه فهمه لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جعل يلوم من جعل إمامه فهم السلف لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد احتج علينا الإخوة بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم " أعفوا اللحي ، أرخوا اللحى"
ثانياً: فعل ابن عمر لا حجة فيه في كونه يأخذ ما زاد على القبضة، ففعله مخالف للسنة، وقد أنكر عليه الصحابة وخالفوه.
ثالثاً: لم يثبت عن الصحابة غير ابن عمر أنه كان يأخذ من لحيته في النسك.
رابعاً: لم يثبت الأخذ خارج النسك.
هذه أدلة الإخوة باختصار، وسوف يتبين الجواب عليها من خلال الحديث عن أدلة القائلين بجواز أخذ ما زاد على القبضة.
الدليل الأول:
فهم السلف أن كلمة " أعفوا اللحى " المقصود منه تكثير اللحية، ولو أخذ منها ما زاد على القبضة، كقوله تعالى: } حتى عفوا { أي حتى كثروا.
ومنه عفا القوم: إذا كثروا، وعفى النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف: إذا كثر وطال.
وفي الأثر: إذا دخل صفر وعفا الوبر: أي كثر وبر الإبل.
وفي الأثر أيضاً: لا أَعْفَى من قتل بعد أخذ الدية: أي لا كثر ماله، ولا استغنى.
قال ابن الأثير في النهاية (3/266): ومنه الأمر بإعفاء اللحى: أن يوفر شعرها، ولا يقص كالشوارب، من عفا الشيء إذا كثر وزاد. اهـ
فجعل ابن الأثير أعفوا بمعنى التكثير، وليس بمعنى الترك، ونهى عن قصها كالشارب، وليس عن الأخذ منها مطلقاً حتى ولو زادت عن القبضة.
ولا أعلم أن أحداً من السلف فهم من قوله صلى الله عليه وسلم " أعفوا اللحى " بمعنى الترك المطلق، بل فهموا أن أعفوا بمعنى التكثير كما سيأتي عنهم إن شاء الله تعالى.
فمن وقف على أن السلف فهموا أن الإعفاء بمعنى الترك فليثبته لنا وله الشكر، ولم أقف عليه بحدود علمي.
وليس النقاش أن أعفوا تأتي في اللغة بمعنى الترك، فهذا أمر مسلم فيه، فإن أعفوا له معان كثيرة منها الترك ، ومنها التكثير ومنها معان أخرى لم أذكرها وهي في كتب أهل اللغة، فإذا قصد بالأمر الشرعي أحد معانيه اللغوية، وفهم السلف هذا الفهم فلا يحتج علينا باللغة، لأننا نقول:
هل كان السلف لا يعرفون اللغة اللعربية عندما أجازوا أخذ ما زاد على القبضة.
وهل كان تفسير الإعفاء بالتكثير معنى منتحلاً ومزوراً، أو هو موجود في كتب اللغة أيضاً. فمن قال: إن الإعفاء يعني الترك فليأت به من كلام أهل الفقه، ومن فهم السلف.
الدليل الثاني:
ثبت عن ابن عمر أنه كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، وهو في البخاري
والسؤال: فعل ابن عمر هذا إما أن يكون موافقاً للسنة، أو مخالفاً لها.
فإن كان موافقاً لها فذاك.
وإن كان مخالفاً لها، وكان الأخذ من اللحية فعل يظهر لجميع الصحابة، خاصة أنه يتعلق باللحية، ومكان اللحية في الوجه فلا يمكن أن يخفى فعله على الصحابة رضوان الله عليهم، فليس كالقول ريما يسمع في مكان، ولا يسمع في مجلس آخر.
فيقال: إما أن يكون الصحابة قد أنكروا على ابن عمر مخالفته للسنة، أو لم ينكروا عليه.
فإن قلت: قد أنكر الصحابة على ابن عمر مخالفته لسنة الرسول r، فأين النقل عنهم، أين قولهم لابن عمر: لا يحل لك هذا الفعل، وأين قولهم لابن عمر: إن هذا مخالف للسنة، أليس كل خير في الناس فللصحابة رضوان الله عليهم فيه صفة الكمال، فهم نصحة لله ولرسوله، وهم خير من طبق أمر الرسول r: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " وكانوا من أشجع الناس في هذا الأمر عاهدوا رسول الله صلى الله عليه على أن لا يخافوا في الله لومة لائم، فلماذا لا يأتينا إخواننا بنقل عنهم يثبت لنا فيه نصح الصحابة لابن عمر، ويثبتوا لنا فيه أنهم قد خالفوه وبالتالي نكون في راحة من أمرنا، ونسلم لهم دعواهم
إنني أطالب كل من يدعي بأن الصحابة قد أنكروا على ابن عمر مخالفته للسنة أطالبهم في توثيق هذه الدعوى من كتب السنة، وإلا كان هذا القول مجرد دعوى لا تغني من الحق شيئاً.
وإن قالوا: لم ينقل أنهم أنكروا عليه، ولم ينقل أنهم نصحوه بامتثال السنة:
كان هذا إما موافقة لهم على فعل ابن عمر، فيكون فعل ابن عمر ليس رأياً له وحده وهذا ما يليق بالصحابة رضوان الله عليهم،
أو يكون هذا تقصيراً منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون الإخوة أكثر غيرة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قدح في صحابة رسول الله r لا يليق بأهل السنة أن يظنوه بواحد من الصحابة فيكف يظن هذا بالصحابة كلهم.
فإن قيل: لعلهم رأوا أن المسألة اجتهادية، وأن الخلاف فيها سائغ.
قلنا: ألا يسع الإخوة ما وسع صحابة رسول الله r، ويرون أن الخلاف في المسألة سائغ، فهل يريدون أن أقول: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع صحابة محمد r. أليس إجماعهم على عدم الإنكار على ابن عمر يلزم المخالف أن يمتثل لما فعلوا، ولا ينكر على من رأى هذا الرأي.
وإن قال: لعلهم أنكروا عليه ولم ينقل.
قيل: لو أنكروا عليه لحفظ ونقل، كما حفظ فعل ابن عمر ونقل إلينا، بل الظن فيهم أن الإنكار لن يقتصر على براءة الذمة، فلن يكون إنكارهم مرة أو مرتين، بل سيراجعونه ويناظرونه حتى يتبين له الحق، وبهذا سوف يشتهر عنهم، فلما لم ينقل من ذلك شيء، دل على أن دعوى أن الصحابة خالفوا ابن عمر دعوى متوهمة، لا وجود لها إلا عند من اعتقد قبل أن يستدل
وقد نقل التابعون جملة من إنكار الصحابة رضي الله عنهم إذا رأوا ما يخالف السنة، وإليك بعض الأمثلة:
روى البخاري في صحيحه أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف، قال: فنهاه وقال: إن رسول الله r نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين. قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله r نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً.
ومنها ما رواه مسلم أيضاً من طريق سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها. قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن( ).
مع أن الحامل على هذا لم يكن معارضة السنة، وإنما هو شدة الغيرة، ومع ذلك سبه سباً ما سمع منه قط.
وروى البخاري ومسلم أيضاً عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله r، ومن هو في كتاب الله فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي، فانظري فذهبت فنظرت، فلم ترى من حاجتها شيئاً. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا.
فانظر إلى هذه المرأة حين بلغها أن ابن مسعود أنكر أمراً لم تعرفه، أتت إليه منكرة، وحين أخبرها، قال لها: لو كان أهلي يفعلون المنكر ما جامعتنا.
وروى مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فناداه، فقال: إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين -يريد رسول الله r - فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
وفي صحيح البخاري قال: لما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله r إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما مات عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله r إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله r قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى.
ولست بصدد بيان الجمع بين اعتراض عائشة وبين ما ورد من السنة، وإنما الشاهد منه أن الصحابة إذا رأوا ما يعتقدون أنه خلاف السنة أو خلاف القرآن اعترضوا عليه.
بل ربما امتحن بعضهم بعضاً فيما يشكون فيه:
فقد روى البخاري في صحيحه عن عروة قال: حج علينا عبد الله بن عمرو فسمعته يقول: سمعت النبي r يقول إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون فحدثت به عائشة زوج النبي r ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد فقالت: يا ابن أختي انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه فجئته فسألته فحدثني به كنحو ما حدثني فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت فقالت والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو.
ولعل ما حمل عائشة على التثبت أن عبد الله وقعة في يده صحيفة إسرائيلية، وكان الرسول قد أذن أن يحدث عن بني إسرائيل، ولا حرج. فكان يُخْشَى أن يكون غلط فدخل عليه منها.
ولو نقلت إنكار الصحابة بعضهم على بعض فيما يعتقدون أنه خالف السنة لجاء كتيباً لطيفاً في خلاف الصحابة في ما بينهم.
فكيف يظن بالصحابة أنهم لم ينكروا على ابن عمر أخذه ما زاد على القبضة مع كونه مخالفاً للسنة ؟
فلما لم نقف على إنكار الصحابة على ابن عمر لم يبق إلا التسليم بأمرين لا ثالث لهما:
الأول: بطلان دعوى أن الصحابة قد أنكروا على ابن عمر فعله، وسكوتهم عليه يدل على موافقة له على فعله، أو أقل الأحوال أن يكون الخلاف في المسألة سائغاً لا يجوز إنكاره اقتداء بالصحابة، فلا يجوز إنكاره من غيرهم امتثالاً لفعلهم.
الثاني: أن فعل ابن عمر لم يخالف السنة، وإلا لما سكتوا عليه.
فإن قيل: إن ابن عمر له أفعال لا يتابع عليه، فقد كان يدخل الماء في عينيه في الوضوء، وكان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يفعلها ليتابع عليها، وإنما فعلها اتفاقاً مثل وضوءه في موضع معين، وصبه الماء وصلاته في بعض المواضع التي تتفق له في سفره.
فالجواب:
إن هذا دليل على احتياط ابن عمر في اتباع المصطفى r، وليس فيه ما يدل على تساهله في السنة.
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال: رأيت رسول الله r يستلمه ويقبله. قال: قلت: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت ؟ قال: اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله r يستلمه ويقبله.
فهذا يدل على أن ابن عمر كان شديد الحرص على اتباع الرسول r، فحين يأخذ ابن عمر ما زاد على القبضة فإنه بهذا يخالف نزعة ابن عمر في أخذه بالاحتياط واتباع الرسول r فلماذا هنا تساهل ابن عمر في ترك الاقتداء به، وخالف طبيعته، نعم لو كان ابن عمر لا يأخذ من لحيته، وكان غيره يأخذ منها، لقيل: هذا من احتياط ابن عمر، لكنه هنا خالف طبيعته في ترك الاحتياط، وأخذ من لحيته، فهل يترك حرصه على اتباع الرسول r إلا لدليل فهمه ابن عمر وجهله الناس.
موقف الإمام أحمد رحمه الله من فعل ابن عمر.
لقد كان الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والفقه يأخذ برأي الصحابي ويعظمه، ويفتي به، فإذا خالف النص ترك قول الصحابي للنص، وكذا إذا عارض قول الصحابي ما هو أقوى منه من قول صحابي آخر.
فلم يلتفت الإمام أحمد إلى خلاف عمر بن الخطاب في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به بل صحح استدامته بعد إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك، ولا إلى خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ.
وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأَبِي أيوب وأُبَي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله r فاغتسلا.
ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة الحامل المتوفى عنها أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الإسلمية، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم الكافر، لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً، وقد نقلت هذا الكلام من ابن القيم في إعلام الموقعين.
ومع ذلك فالإمام أحمد أخذ بفعل ابن عمر رضي الله عنه في جواز الأخذ من اللحية بما زاد على القبضة، ولم يعتبره معارضاً لحديث ابن عمر وأبي هريرة أعفوا اللحى.
ولم يعتبر الإمام أحمد أيضاً فعل ابن عمر قد خالفه صحابي آخر أقوى منه، فضلا أن يدعى أنه معارض من جميع الصحابة، وإلا لترك أحمد فعل ابن عمر إلى قول الصحابة، وحسبك بالإمام أحمد في معرفة آثار الصحابة، وعمل السلف، فإن هذا الباب كان يتميز به الإمام أحمد عن بقية أئمة أهل الحديث.
أليس هذا فهماً من الإمام أحمد أن فعل ابن عمر لم يخالف نصاً، ولم يخالفه غيره من الصحابة، وقد سقت في ما سبق أقولاً للصحابة تركها أحمد لمخالفتها السنة، ولم يترك فعل ابن عمر، بل كان يفعله تديناً، وهو عكس ما فهمه الإخوة، من أن قول ابن عمر مخالف للسنة، مخالف لجميع الصحابة، فلم يثبت الأول كما لم يثبت الثاني.
جاء في كتاب الوقوف والترجل للخلال (ص: 129): " أخبرني حرب، قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية ؟
قال: كان ابن عمر يأخذ ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه - قلت له: ما الإعفاء ؟ قال: يروى عن النبي r، قال: كأن هذا عنده الإعفاء.
قلت: وعليه فالإمام أحمد يرى أن إعفاء اللحية، والأخذ ما زاد على القبضة لا يتنافيان، فليس المراد بالإعفاء إطالة اللحية بما يجاوز القبضة.
ثم قال موصولاً بالكلام السابق: " أخبرني محمد بن هارون أن إسحاق حدثهم، قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه ؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي r أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى ؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. وهذا النص في أحكام أهل الملل للخلال (ص: 11).
وجاء في مسائل أحمد رواية ابن هانئ (2/151): " سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه ؟؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي r: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من عارضيه، ومن تحت حلقه.
فإذا تركنا فهم الأخوة لفهم الصحابة ولفهم الإمام أحمد ألا يعذروننا، أليس فهم السلف ابن عمر وبعده الإمام أحمد أولى من فهم بعض المشايخ المتأخرين علماً وعملاً ووقتاً.
} بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه {( ).
ولقد ابتلينا بأناس يرون مخالفتنا إياهم مخالفة للرسول r، وفهمهم للنص بمنزلة النص من الكتاب والسنة، وأن عليك ألا تتجاوز أفهامهم للنصوص وإلا ضللت، ولو كنت على هدى من فهم الصحابة والسلف الصالح، وأن من خالف رأيهم فقد ارتكب منكراً يجب إنكاره وإلا لحقهم الإثم.
وبهذا التقرير يتبين لنا أن الصحيح بمعنى الإعفاء أنه بمعنى التكثير، وأن فعل ابن عمر لم يخالف النص، ولم يخالف صحابياً آخر.
الدليل الثالث:
لم يكن أخذ ما زاد من القبضة من فعل ابن عمر وحده، بل كان من فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، وإليك إثبات ذلك من أكثر من وجه:
الوجه الأول:
سبق أن بينت أن سكوت الصحابة وعدم إنكارهم على ابن عمر في اللسان يدل على موافقتهم له، إلا إن كان أحد يدعي أنه وقف على إنكار الصحابة رضي الله عنهم على ابن عمر، وأن ابن عمر لم يأخذ برأيهم وتمسك برأيه، فهنا قد نعذره في دعواه.
الوجه الثاني:
لقد أثبت في كتاب الإنصاف آثاراً عن الصحابة تدل على أنهم يرون فعل ابن عمر،
ومن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح،
عن ابن عباس قال: التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية.
[ سنده صحيح ] ( )
وقد فسر الآية بمثل ما فسرها ابن عباس تابعيان جليلان: مجاهد، ومحمد ابن كعب القرضي.
أما تفسير مجاهد، فقد أخرجه الطبري، وسنده صحيح،
عن مجاهد، ثم ليقضوا تفثهم. قال: حلق الرأس وحلق العانة وقص الأظفار وقص الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية ( ).
وأما تفسير محمد القرظي، فهو عند الطبري أيضاً، قال:
عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: ثم ليقضوا تفثهم: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وأخذ من الشاربين واللحية، والأظفار، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة ( ).
ورجاله ثقات
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة ( ).
وهذا إسناد صحيح، بل في غاية الصحة، فإن غندر من أثبت أصحاب شعبة.
وظاهره أنه يحكي فعل من شاهد من الصحابة
وعطاء بن أبي رباح ولد في خلافة عثمان وأدرك من الصحابة خلقاً كثيراً، قال الدارقطني: قال خالد بن أبي نوف عن عطاء: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله r.
وفي طبقات ابن سعد: قال أسلم المنقري، عن أبي جعفر: ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بالمناسك من عطاء،
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: ما أدركت أحداً أعلم بالحج من عطاء بن أبي رباح.
وقال ابن أبي ليلى: كان عالماً بالحج، قد حج زيادة على سبعين حجة، وقال: كان يوم مات ابن نحو مائة سنة، وقد شهد عطاء أن الصحابة كانوا يأخذون من لحاهم في النسك، وهو مكي، وله الفتيا في مكة، ولم يكن يفتي برأيه، فقد قال أبو خيثمة، عن عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن شيء، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تقول فيها برأيك، قال: إني استحييى من الله أن يدان في الأرض برأيي( ).
فهذا عطاء يشهد على الصحابة أنهم كانوا يأخذون من اللحية في النسك، والله لو شهد من التابعين من هو دون عطاء بن أبي رباح أنه شاهد الصحابة يأخذون من اللحية في النسك لقبلنا روايته، فلماذا لم يقبلها بعض الإخوة هنا أو يدفعها بسبب ظاهر واضح يعذر فيه
ومنها ما رواه أبو داود، قال: بسند حسن، عن جابر قال: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة ( ).
[ إسناده حسن ] ( ). وهذا حكاية عن الصحابة
يقول ابن حجر رحمه الله: أخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة. قال ابن حجر، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون من اللحية في النسك.
فقوله : يقصرون. هل الفاعل مفرد، أو جمع ؟
هذا من كلام السلف أما من كلام المعاصرين، فقد نقل الألباني رحمه الله إجماع السلف على وجوب أخذ ما زاد على القبضة، وذكر أن ترك ما زاد على القبضة لم يجر العمل به عند السلف( )، ولم أذكر كلامه احتجاجاً، ولكنه ينقل لنا نقلاً عن السلف، وهو ثقة عند المسلمين.
وإذا ثبت أن الصحابة يأخذون من اللحية في النسك، فإن هناك مقدمتين ونتيجة:
المقدمة الأولى: هل كان الصحابة يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، هذا الحكم الذي يعرفه آحاد المسلمين في بلادنا ؟
المقدمة الثانية: إذا كانوا لا يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، فإن السؤال، هل كان الصحابة لا يعرفون لغة مدلول كلمة الإعفاء في الأمر النبوي، وهذا أيضاً لا يمكن أن يقال: إن الصحابة، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل التشريع، لا يمكن أن يقال: لا يعرفون مدلول كلمة الإعفاء. فبقي أن نقول بعد التسليم بالمقدمتين: وهو كون الأمر بإعفاء اللحية معلوماً لدى الصحابة، ومعنى الإعفاء معلوم أيضاً، فيبقى التسليم لفهم الصحابة أولى من التسليم لفهم من دونهم.
الدعوى الرابعة: أن الأخذ من اللحية في النسك خاصة.
إن قيل: إن الصحابة لم يأخذوا إلا في النسك؟
قيل: ثبوته في النسك دليل على جوازه خارج النسك ؛ ولأن النسك قيد غير مؤثر، كما لو قرأ الرسول r سورة في صلاة، وكانت الصلاة في السفر، لايقال: إن ذكر السفر قيد في استحباب قراءة هذه السورة، والدليل على هذا:
وإني أذهب إلى القول بتقييد الأخذ من اللحية بالنسك إذا أجاب الإخوة على هذه الأسئلة الثلاثة:
السؤال الأول: هل اللحية لها تعلق لها بالنسك، أوأن النسك في شعر الرأس خاصة، ألم يبين الرسول r النسك من قوله، ومن فعله، وقال: خذوا عني مناسككم، فهل نقل عن الرسول r وهو يبين النسك في حجة الوداع ما يدل على أن اللحية لها تعلق بالنسك.
هل مات الرسول صلى الله عليه وسلم والمناسك لم تبين في حجته حتى جاء من بعده فأكملها.
السؤال الثاني: هل قال أحد من السلف إن الأخذ من اللحية خارج النسك حرام، أم أن السلف فهموا من فعل الصحابة داخل النسك، جواز هذا الفعل خارج النسك. قد يقول قائل أصحاب الشافعي رحمهم الله كرهوه خارج النسك، يقال: نعم ولم يحرموه، بل عبر بعضهم بالأولى كما هي عبارة العراقي. والمنقول عن إمامهم استحبابه داخل النسك، وقد سكت عنه خارج النسك فلم ينص على كراهته، وعلى كل فلم يحرموه خارج النسك، فحتى أجزم بتحريمه خارج النسك أحتاج إلى قائل يقول به من السلف، لا أن آتي به من كَيْسِي.
السؤال الثالث: هل يقول أحد إن الصحابة الذين أخذوا من اللحية في النسك لم يعفوا لحاهم حينئذٍ، وقد تشبهوا في المشركين في ترك الإعفاء. لأن الأمر بالإعفاء قد ربط بمخالفة المشركين كما هو معلوم .
هل تقول: إن التشبه بالمشركين داخل النسك مباح، وإذا كان خارج النسك كان محرماً، أم تقول: إن الصحابة، وإن أخذوا من لحاهم داخل النسك لم يخرجوا عن حد الإعفاء المأمور به، وإذا كانوا لم يخرجوا عنه داخل النسك، لم يخرجوا عنه خارج النسك.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين أن اللحية لا تعلق لها بالنسك، وأخذ الصحابة من اللحية في النسك دل على أن النسك قيد غير مؤثر، وأن الصحابة لم يخالفوا الأمر بإعفاء اللحية داخل النسك وخارجه، ولم يقل أحد بتحريمه خارج النسك، فهذا يدل على أن من اعتبر النسك قيداً مؤثراً قاله به من عنده.
هل يوجد قول بتحريم الأخذ من اللحية؟
الجواب: لا أعلم أحداً من السلف قال: لا يجوز الأخذ من اللحية مطلقاً، ولا عبرة بقول المتأخر؛ لأن المتأخر إنما هو متبع لمن سلف، وابتداع قول جديد في مسألة فقهية قديمة لا يسوغ( ).
وقد ذكر ابن عبد البر والقاضي عياض وغيرهما الأقوال في الأخذ من اللحية، ولم أجد من بينها القول بتحريم الأخذ منها مطلقاً، فهو قول محدث .
قال ابن عبد البر: اختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم( )، وأجازه آخرون( ).
وقال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم: وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعضيمها وتحليتها كما تكره في قصها وجزها، وقد اختلف السلف هل في ذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً، ومنهم من حدد، فما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة( )اهـ.
وقال العيني في عمدة القارئ (22/46، 47): " قال الطبري: فإن قلت: ما وجه قوله: " أعفوا اللحى " وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعاً لظاهر قوله: " أعفوا " فيتفاحش طولاً وعرضاً ويسمج حتى يصير للناس حديثاً ومثلاً ؟ قيل: قد ثبتت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده ، فقال بعضهم: حد ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولاً وأن ينتشر عرضاً فيقبح ذلك، وري عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلاً قد ترك لحيته حتى كبرت، فأخذ يجذبها، ثم قال: ائتوني بجلمتين، ثم أمر رجلاً فجز ما تحت يده، ثم قال: اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع. ثم قال:
وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدوا في ذلك حداً .. ألخ كلامه رحمه الله".
فهذا ابن جرير الطبري يرى وجوب الأخذ من اللحية، وينسب هذا إلى السلف وإنما اختلافهم في قدر ما يؤخذ من اللحية، لا في تحريم الأخذ حيث قال: قد ثبتت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده.
وقوله: محظور إعفاؤها يقصد الإعفاء بمعنى الترك، وإلا الإعفاء بمعنى التكثير فهو واجب، وحد ذلك القبضة، فما زاد فهو مباح أخذه وتركه.
وقال ابن حجر في الفتح (10/350): حكى الطبري اختلافاً فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا ؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش. وعن عطاء نحوه. قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها. قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة. وأسند عن جماعة واختار قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به. اهـ
فهذا حصر الأقوال في المسألة، فأين تحريم الأخذ منها مطلقاً كما يعتقده من يعتقده عندنا فقط.
وهذا الإجمال في حصر الأقوال، وأما التفصيل في أقوال السلف، فهاك ما وقفت عليه:
اختلفوا في حكم الأخذ من اللحية من غير حلق،
فقيل: يكره أن يأخذ منها في غير النسك، وهو مذهب الشافعية.
وقيل: له الأخذ منها، وهو مذهب كثير من أصحاب النبي r( )، والحسن وابن سيرين، وقتادة، وعطاء، والشعبي، والقاسم بن محمد، وطاووس، وإبراهيم النخعي، ومذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، واستحبه الشافعي في النسك، واختاره الطبري، ورجحه ابن عبد البر، والقاضي عياض، والغزالي من الشافعية، والحافظ ابن حجر، وغيرهم.
والقائلون بالأخذ منها اختلفوا في المقدار على قولين:
الأول: أنه لا حد لمقدار ما يؤخذ منها، إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، وهو مذهب المالكية.
والقول الثاني: أنه يؤخذ منها ما زاد على القبضة، وهو فعل ابن عمر.
ثم اختلفوا في حكم أخذ ما زاد على القبضة على خمسة أقوال:
فقيل: يجب أخذ ما زاد على القبضة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختاره الطبري رحمه الله.
وقيل: إنه سنة، وهو المشهور من مذهب الحنفية، واستحسنه الشعبي وابن سيرين.
وقيل: إنه بالخيار، فله أخذ ما زاد على القبضة وله تركه، نص عليه أحمد، وظاهر هذا القول أنه يرى أن الأخذ من اللحية وتركها على الإباحة.
وقيل: الترك أولى، وهو قول في مذهب الحنابلة.
وقيل: يكره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة.
وقد وثقت كل هذه النقول في كتابي الإنصاف ولا أحب أن أوثقها هنا حتى لا أثقل الكتاب.
فأين القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً من جهة السلف، فلا في الصحابة عرف هذا القول، ولا في التابعين ولا في الأئمة الأربعة ولا في مجتهدي هذه الأمة.
أعود لأعيد القول لكم، وأسألكم فأجيبوني هل قال أحد من السلف بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً أم لم يقل به أحد ؟
فإن زعم أحد أنه قول محفوظ، فليأت به، فإنني باحث عنه، متعطش له، ولم أقف عليه، وقد يكون لقصور أو تقصير، وفوق كل ذي علم عليم.
فإن قلت: لم يقل به أحد.
فيقال لك هل كان السلف غافلين عنه، وتنبهتم له أو جاهلين به أم ماذا؟
فإن قال: نعم، كانوا غافلين عنه جاهلين به، كان هذا دليلاً على جهل قائله، وخرقاً للإجماع، وقدحاً في السلف.
وإن قال: كانوا عارفين له، غير غافلين عنه، فيقال: فما الذي حال بينهم وبين القول به، والعمل بمقتضاه، فلماذا ابن عمر وغيره من الصحابة وأئمة التابعين والأئمة الأربعة لا يعملون به، ولا يفتون بمقتضاه.
هل لأنهم اجتمعوا فيه على الخطأ دونكم، أو أنهم علموا هذه المسألة وقصر فيها علمكم، فكل من جاءنا بما يخالف عمل السلف الصالح فهو رد على صاحبه.
بقي جواب على سؤال أسمعه كثيراً، أن عمدة من يحرم الأخذ من المعاصرين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من لحيته، مع أن لحية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت طويلة، وكان الصحابة يعرفون قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم من اضطراب لحيته، وكان صلى الله عليه وسلم كث اللحية كثير شعر اللحية.
فأثبت لنا أنه أخذ من لحيته، وحينئذ نسلم لك القول بالجواز.
والجواب على هذا.
كونه r كث اللحية لا يلزم منه أنها طويلة ؛ فقد فسر أهل اللغة من اللغويين والفقهاء أن كلمة كث تعني الشعر الكثير غير الطويل.
جاء في تاج العروس: " كث اللحية وكثيثها، أراد كثرة أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة.
وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وهو من أهل اللغة والفقه، قال: كث اللحية: الكثاثة في اللحية: أن تكون غير رقيقة ولا طويلة، ولكن فيها كثافة( ).
فهذا تفسير رجلان من أهل اللغة والفقه: بأن لحية الرسول r كثيرة الشعر، ليست بالطويلة، وإذا لم تكن طويلة لم يستدل على كون الرسول r لم يأخذ من لحيته على تحريم الأخذ من اللحية الطويلة.
وكذلك جاء في مسلم: " كان كثير شعر اللحية " لا يلزم منه أن تكون طويلة إلى حد تتجاوز القبضة، والله أعلم.
أما اضطراب اللحية فإنه ليس نصاً صريحاً في الموضوع، ومن كانت لحيته دون القبضة فهي تضطرب عند القراءة، فما بالك بمن كانت لحيته بمقدار القبضة، وهي غالب لحى المسلمين اليوم ممن يعفون لحاهم، فالنص أنها تضطرب لفظ مجمل، يرد إلى اللفظ الصريح، وهو كونه كث اللحية: الشعر الكثير ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بد من الجمع بين النص على أنه كث اللحية أي كثير شعر اللحية من غير طول فيها، وبين النص أنها تضطرب عند القراءة، فيقال: إن فيها طولاً لا يتجاوز القبضة.
هذا ما حاولت أن أختصره من كتاب الإنصاف ومن كتاب آخر سميته ( تعزيز الإنصاف) لم يطبع ، وأعترف أن الإختصار يخل ولا بد بكثير من المعاني التي يحرص الباحث إلى إيصالها إلى القارئ، ولكني حاولت قدر الإمكان أن آتي على أهم مقاصد الكتاب، والله يرعانا ويرعاكم، وأسأل الله لي وللإخوة التوفيق والسداد.