الرد على علماء الكلام في أصول الفقه

 

"تدبرتُ عامةَ ما يذكره المتفلسفةُ والمتكلمةُ من الدلائل العقلية، فوجدتُ دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافيه عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها" ابن تيمية (19|233).

 

المتكلمون وتحريفهم لعلم أصول الفقه

الواقع أن أصول الفقه –كما هو معلوم نشأ من حيث التأليف والتدوين بعد الفقه نفسه، إضافة إلى أن المادة التي كتب بها أصول الفقه هي مادة كلامية. ولهذا نجد أن كثيراً ممن كتب في أصول الفقه ليسوا من الفقهاء، إضافة إلى أنهم اعتمدوا علم الكلام كطريقة للاستدلال على قواعد (لا ينسبوها لأنفسهم، بل ينسبونها ظلماً لأئمة الفقه، الذين هم من أشد الناس تحذيرا من علم الكلام). وعامة هؤلاء بعيد جداً عن علوم السنة ونادر الاطلاع على الحديث وأقوال الصحابة.

فالذين عليهم مدار كتب أصول الفقه: هم القاضي عبد الجبار، والقاضي أبي الحسين البصري، والبرهان، والغزالي. أما القاضي عبد الجبار المعتزلي، فيعلن جهله بعلم السنة النبوية عندما يصرح أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي، قال: وهو حديث ضعيف. وهذا لا شك أنه قول من لم ينظر في صحيح البخاري دهره كله! والغزالي الذي حشى كتبه بالأحاديث الموضوعة، يعترف ويصرح بأن بضاعته في الحديث مزجاة. ومعلوم حال أبي المعالي الجويني في هذا الباب، ومن باب أولى حال المعتزلي أبي الحسين البصري. فهؤلاء لاختلافهم في أصولهم في النظر مع أئمة الفقه الذين ينتسبون لهم (كالأئمة الأربعة)، فلا بد أن يقع في كلامهم خطأ كثير على أئمتهم. لأنهم سيفهمون ما يكون عن أئمتهم في ضوء أصولهم هم، لا أصول أئمتهم. بل أحيانا الأمر تجد أن الأصول كثير منها لم يُبنَ على الفقه أصلا. قال ابن عاشور في كتابه "أليس الصبح بقريب؟" (ص204): «إن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه. فوجدوا بين قواعده وبين فروع الفقه تعارضاً. فلذا تخالفت الأصول وفروعها في كثير من المسائل على اختلاف المذاهب، حتى أصبحوا يقولون طرد فلان أصله، وخالف فلان أصله. والبخاري يعبر بقوله "ناقض"، وفي الحقيقة خالف ولا طرد، وإنما تأصل الفرع بعد الفرع».

 

قال أبو العلاء المتعري:

لولا التنافُسُ في الدنيا لما وضِعَت + كتُبُ التناظر لا المُغني ولا العُمَدُ
يحلّلون -بزعمٍ منهمُ– عقداً + وبالذي وضعوه زادت العقد
قد بالغوا في كلامٍ بانَ زُخرُفُهُ + يوهي العُيونَ ولم تثبُت له عَمَدُ
وما يزالون في شامٍ وفي يمنٍ + يستنبطونَ قياساً ما لهُ أمَدُ
فذَرهمُ ودَنياهمُ فقد شَغَلوا + بها ويَكفيهم مِنها القادرُ الصَمَدُ

كتاب المغني هو للقاضي عبد الجبار المعتزلي.

الرد على علماء الكلام

قال الإمام ابن قتيبة –رحمه الله في "تأويل مختلف الحديث" (1|13): وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام، فوجدتهم: يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يُدرَكُ بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية.

 ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما، وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك: طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة –مع معرفتهم بأن رسول الله r خاتم الأنبياء– أو من يدعي الربوبية، لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً.

 وقد كان يجب مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر، أن لا يختلفوا، كما لا يختلف الحُسّاب والمُسّاح والمهندسون، لأن آلتهم لا تدل إلا على عددٍ واحِدٍ، وإلا على شكلٍ واحدٍ. وكما لا يختلف حُذّاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق، لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمرٍ واحدٍ. فما بالهم أكثر الناس اختلافاً؟ لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين! فأبو الهذيل العلاف يخالف النّظّام. والنجار يخالفهما. وهشام بن الحكم يخالفهم. وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص وعبيد الله بن الحسن وبكر العمى وحفص وقبة وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه، وله عليه تبع.

ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا. وإن كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم، كما اتسع لأهل الفقه ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى.

 ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وغفلوا واختياراتهم. فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد. والذي خالف بين مناظرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم –حتى فرق القائف بين الأثر والأثر وبين الأنثى والذكر– هو الذي خالف بين آرائهم.

والذي خالف بين الآراء، هو الذي أراد الاختلاف لهم. ولن تكمل الحكمة والقدرة، إلا بخلق الشيء وضده، ليعرف كل واحد منهما بصاحبه. فالنور يُعرَفُ بالظلمة. والعلم يعرف بالجهل. والخير يعرف بالشر. والنفع يعرف بالضر. والحلو يعرف بالمر. لقول الله تبارك وتعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}. والأزواج: الأضداد. والأصناف: كالذكر والأنثى واليابس والرطب. وقال تعالى: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى}. ولو أردنا –رحمك الله– أن ننتقل عن أصحاب الحديث، ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماعٍ إلى تشتّتٍ، وعن نِظامٍ إلى تفرقٍ، وعن أُنْسٍ إلى وِحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف. لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن: ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام مخلوق، وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر. لا يختلفون في هذه الأصول. ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدّعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموضٍ وقَعَ في ذلك. وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال –مقروءاً ومكتوباً ومسموعاً- غير مخلوق مخلوق. فهذا الإجماع.

 وأما الإيتساء، فبالعلماء المبرزين والفقهاء المتقدمين والعباد المجتهدين الذين لا يجارون ولا يبلغ شأوهم. مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد، وعلماء الأمصار وكإبراهيم بن أدهم ومسلم الخواص والفضيل بن عياض وداود الطائي ومحمد بن وأحمد بن حنبل وبشر الحافي، وأمثال هؤلاء ممن قرب من زماننا. فأما المتقدمون فأكثر من أن يبلغهم الإحصاء ويحوزهم العدد. ثم بسواد الناس ودهمائهم وعوامهم في كل مصر وفي كل عصر، فإن من أمارات الحق إطباق قلوبهم على الرضاء به. ولو أن رجلا قام في مجامعهم وأسواقهم بمذاهب أصحاب الحديث –التي ذكرنا إجماعهم عليها– ما كان في جميعهم لذلك منكر ولا عنه نافر. ولو قام بشيء مما يعتقده أصحاب الكلام –مما يخالفه– ما ارتد إليه طرفه إلا مع خروج نفسه.

 فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس وحسن النظر وكمال الإرادة، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم ونعتقد شيئا من نحلهم، وجدنا النّظَّام (من كبار زعماء المعتزلة) شاطرا من الشطار (أي قاطع طريق). يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها. ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات. وهو القائل:

ما زلت آخذ روح الزّق في لطف * وأستبيح دماً من غير مجروح

 حتى انثنيت -ولي روحان في جسدي * والزق مطرح- جسم بلا روح

ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله: «إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها في كل وقت إفنائها». قالوا: «فالله في قوله يحدث الموجود ولو جاز إيجاد الموجود لجاز إعدام المعدوم». وهذا فاحش في ضعف الرأي وسوء الاختيار. وحكوا عنه أنه قال: «قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ»! قال: «ومن ذلك إجماعهم على أن النبي r بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء، وليس كذلك. وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى فإلى جميع الخلق بعثه. لأن آيات الأنبياء لشهرتها تبلغ آفاق الأرض، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه». فخالف الرواية عن النبي r أنه قال: «بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي يبعث إلى قومه». وأوَّلَ الحديث. وفي مخالفة الرواية وحشة. فكيف بمخالفة الرواية والإجماع لما استحسن؟ انتهى كلام الإمام ابن قتيبة.

قال شيخ الإسلام في الرد على بعض أئمة أهل الكلام –لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث، وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة علومهم فيها– فقال –رحمه الله تعالى– في مجموع الفتاوى (18|52):

«لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول وآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه. وقد رأيت من هذا عجائب. لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك، كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل. فكل شرٍّ في بعض المسلمين، فهو في غيرهم أكثر. وكل خيرٍ يكون في غيرهم، فهو فيهم أعظم. وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم. وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء (الأصوليين) من القول بغير علم، ما هو أعظم من ذلك و أكثر. وما أحسن قول الإمام أحمد: "ضعيف الحديث خيرٌ من الرأي".

وقد أمر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبى الحسن الآمدي. وقال: "أخذُها منه، أفضل من أخذ عكا" (أي من الإفرنج أيام احتلالهم لبعض بلاد الشام ومصر في المئة السادسة). مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحراً في الفنون الكلامية والفلسفية منه. وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً. ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء كانت حقاً أو باطلاً، إيماناً أو كفراً، لا تُدرك إلا بذكاءٍ وفِطنة. فلذلك يستجهلون (أي المتكلمين) من لم يشركهم في عملهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان منه قصورٌ في الذكاء والبَيان. وهُم كما قال الله تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون...} الآيات. فإذا تقلدوا عن طواغيتهم: أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم. وقد لا يحصل لكثير منهم منها ما يستفيد به الإيمان الواجب، فيكون كافراً زنديقاً منافقاً جاهلاً ضالاً مضلاً ظلوماً كفوراً، ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة من الذين قال الله فيهم: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً من المجرمين}. وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق، ويكون مرتداً: إما عن أصل الدين، أو بعض شرائعه. إما ردة نفاق، وإما ردة كفر. وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق. فلهؤلاء (الأصوليين) من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال، مالا يتسع لذكره المقال.

 وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال أنه: فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين. بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً بُعِثَ بها وكَفَّرَ من خالَفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإن هذا أظهر شعائر الإسلام. ومثل: معاداة اليهود والنصارى والمشركين. ومثل: تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك. ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين. وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، ويعودون كرؤوس القبائل، مثل الأقرع وعيينة ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه. ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك. فكثير من رؤوس هؤلاء (الأصوليين) هكذا: تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق. وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق. لكن قلّ أن يَسلَموا من نوع نفاق. والحكايات عنهم بذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفاً في أول "مختلف الحديث". وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفاً، كما يذكره أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني (الأصولي المالكي، ت 403هـ) وأبو عبد الله الشَّهْرَسْتاني (أبو الفتح ت 548هـ) وغيرهم. وأبلغ من ذلك أن منهم من يُصنِّف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنفَ الرازي (606هـ) كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حُسن ذلك ومنفعته، ورغَّبَ فيه. وهذه ردةٌ عن الإسلام باتفاق المسلمين. وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام».

جهل علماء الأصول بعلم الحديث

 قال الحافظ ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2|16) (في ترجمة الإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي): «ولقد عُقِد مرةً مجلسٌ لشيخِ الإسلامِ أبي العباسِ ابنِ تيميةَ، فتكلمَ فيهِ بعضُ أكابرِ المخالفينَ، وكان خطيبُ الجامعِ. فقالَ الشيخُ شرفُ الدينِ عبدُ اللهِ أخوْ الشيخِ: "كلامُنا معَ أهلِ السنةِ، أما أنتَ: فأنا أكتبُ لكَ أحاديثَ من الصحيحينِ، وأحاديثَ من الموضوعاتِ، وأظنُهُ قالَ: وكلاماً من سيرةِ عنترَ فلا تـُمَيّزُ بينهما"! أو كما قالَ، فسكتَ الرجلُ».

ونحو هذا ما قاله أخوه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4|71): «فإن فرض أن أحدا نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب، وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلا عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف بالبخاري، ومسلما، وأحاديثهما إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث، وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك، ففيها عجائب، وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت، وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة.. [ثم ذكر شيئا منها] ».

ورحم الله الشوكاني حين قال في "البدر الطالع" (2|262): «وليس في علم إنسان خير، إذا كان لا يعرف علم الحديث، وإن بلغ في التحقيق إلى ما ينال».

 

تراجم الأصوليين

الرازي

الفخر الرّازي محمد بن عمر (606هـ)، من أكبر الأصوليين الشافعية. وهو صاحب تفسير القرآن المشهور الذي قيل: إن فيه كل شيء إلا التفسير! قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (5|411): «الفخر بن الخطيب صاحب التصانيف. رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار (قلت: لا بارك الله في الدنيا بلا دين). وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين، تورث حيرة. نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا. وله كتاب "السر المكتوم في مخاطبة النجوم": سِحرٌ صريح. فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى». أقول: صح عنه الندم في مرض الموت. ونحن نرجو التوبة والمغفرة له ولجميع المسلمين، لكننا نحذر من عامة كتبه التي كتبها قبل توبته. وقد أثبت الباحث الممتاز الدكتور الزركان، صحة نسبة كتاب ألفه الرازي في عبادة الكواكب والنجوم والسحر. وكان على صلات مع الحكام فكتب "الملخص في الفلسفة" لوزير وقته، و "أحكام النجوم" لملك وقته، و كتاب "السر المكتوم في السحر و مخاطبة النجوم" لأم الملك كما سبق.

قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (4|249): «وله التصانيف المفيدة في فنون عديدة. منها تفسير القرآن الكريم. جمع فيه كل غريب وغريبة. وهو كبيرٌ جداً، لكنه لم يكمله». قال العلامة المعلمي في مجموع رسائله (ص107): «أكمله كل من الخوبي (ت637) والقمولي (ت727)». وقال (ص134): «الأصل من هذا الكتاب –وهو القدر الذي من تصنيف الفخر الرازي– وهو من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخولي، وهو من التكملة المنسوبة إليه، فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقا على الأصل. هذا ما ظهر لي والله أعلم».

وقال الإمام الشاطبي في "الإفادات والإنشادات" (ص100): «حدثني الأستاذ أبو علي الزواوي عن شيخه الأستاذ الشهير بأبي عبد الله المفسّر أنه قال: إن تفسير ابن الخطيب احتوى على أربعة علوم، نقلها من أربعة كتب، مؤلفوها كلّهم معتزلة:

1) فأصول الدين: نقلها من كتاب الدلائل لأبي الحسين.

2) وأصول الفقه: نقلها من كتاب المعتمد لأبي الحسين أيضاً، وهو أحد نظار المعتزلة، وهو الذي كان يقول فيه بعض الشيوخ: "إذا خالف أبو الحسن البصري في مسألة، صَعُبَ الردّ عليه فيها!".

3) والتفسير: من كتاب القاضي عبد الجبار (المعتزلي المشهور).

4) والعربية والبيان: من "الكشّاف" للزمخشري (معتزلي مشهور)».

فالرازي كان يذكر أقوال المعتزلة ويقررها غاية التقرير، ثم يرد عليها على طريقة الأشاعرة –المخالفين للسنة– برد هزيل. حتى قال عنه ابن حجر في "لسان الميزان" (4|427): «وكان يُعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها. حتى قال بعض المغاربة: "يورد الشبه نقد، ويحلها نسيئة"». ونقل عن الإمام سراج الدين المغربي أنه صنف كتاب "المآخذ" في مجلدين، بيّنَ فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: «يورد شبه المخالفين في على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء». وقال الإمام ابن تيمية في "منهاج السنة" (5|439): «ولهذا لما صار كثير من أهل النظر –كالرازي وأمثاله– ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة. تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة، لا يذكرون الحق». ولهذا قيل عن تفسيره: فيه كل شيء إلا التفسير.

وذكر ابن خليل السكوني في كتابه "الرد على الكشاف": «أن الرازي قال في كتبه في الأصول: أن "مذهب الجبر هو المذهب الصحيح"! وقال بصحة الأعراض. ويبقى صفات الله الحقيقة. وزعم أنها مجرد نسب وإضافات كقول الفلاسفة. وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع». ونقل عن تلميذه التاج الأرموي أنه: «بصر كلامه. فهجره أهل مصر وهموا به، فاستتر». ونقلوا عنه أنه قال: «عندي كذا وكذا مئة شبهة على القول بحدوث العالم». وذكر له ابن حجر في الميزان ضلالات عقائدية أخرى، نسأل الله السلامة. وقال عنه ابن الطباخ: «إن الفخر كان شيعياً، بُقدِّم محبة أهل البيت لمحبة الشيعة، حتى قال في بعض تصانيفه: "وكان علي شُجاعاً بخلاف غيره"». وإنما أفسد دين الرازي علم الكلام، الذي أدمن عليه وبرع به، حتى قال عنه ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" (2|65): «سلطان المتكلمين في زمانه».

وقد اتهمه الكوثري بالجرأة على الكذب والتعصب المذهبي، وقلة المعرفة بالأخبار الصحيحة. فقال في كتابه "إحقاق الحق": «رغم ما سلكه الباقلاني وابن الجويني والغزالي والفخر الرازي في ردودهم على مخاليفهم في الفقه، مع قلة بضاعتهم في معرفة الأخبار الصحيحة –حاشا الباقلاني- واكتفائهم بأنظار عقلية تعودوها في بحوثهم مع أهل الزيغ». وقال الكوثري كذلك: «والمصنف (الجويني) كما ترى يجعل إنشاد البيتين في أبي يوسف ومحمد اللذين ماتا قبل ذلك بدهر. وهذا هو منزلة المصنف في الصدق والأمانة وعدم التعصب... وفي الإطلاع على شتى الاختلاقات في هذا الموضوع، ما يعرف مقدار جرءتهم (أي الجويني والرازي) على الكذب، وجهلهم بما يفضحهم... فتباً للأفاكين».

وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4|504): «وقد مات الفخر الرازي يوم الاثنين سنة 166، وأوصى بوصية تدل على أنه حَــسُـن اعتقاده». ولنا أن نسأل: على أي عقيدة كان يدين بها الفخر الرازي؟ ثم إلى أي عقيدة انتقل؟ والجواب نعرفه من نص وصيته التي توصي بالابتعاد عن علم الكلام. قال: «يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام» وبكى. وقال: «لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً. ورأيت أصحّ الطرق طريقةً: القرآن. أقرأ في التنزيه {والله الغني وأنتم الفقراء} وقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} و {قل هو الله أحد}. وأقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} {يخافون ربهم من فوقهم} و {إليه يصعد الكلم الطيب}. وأقرأ أن الكل من الله قوله {قل كل من عند الله}».

 

 الكرخي

عبد الله بن دلهم أبو الحسن الكرخي (ت340هـ)، من كبار الأصوليين الأحناف، وهو واضع أهم أصولهم. قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (15|427): «كان رأسا في الاعتزال». واشتهر عنه قوله: «كل آيةٍ تخالف ما عليه أصحابنا، فهي مؤوّلة أو منسوخة. وكل حديثٍ كذلك، فهو مؤوّل أو منسوخ». وهذا قمة في التعصب المذهبي المقيت. وقد كتب لبعض الأمراء كتاب "تحليل النبيذ".

 

الجصاص

أبو بكر الرازي الجصاص (370هـ)، تلميذ الكرخي ومن كبار الأصوليين الأحناف. وله تفسير للقرآن نصر به مذهب المعتزلة. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (16|341): «وقيل كان يميل إلى الاعتزال. وفي تواليفه ما يدل على ذلك، في رؤية الله وغيرها. نسأل الله السلامة». وهو يتعصب لمذهب الحنفية تعصباً ممقوتاً، يحمله على التعسف في تأويل الآيات انتصاراً لمذهبه، ويشتد في الرد على المخالفين متعنتاً في التأويل بصورةٍ تُنَفّر القراء أحياناً من متابعة القراءة لعباراته اللاذعة البعيدة عن لغة أهل العلم في مناقشة المذاهب الأخرى.

هذا ويعتبر الكرخي والجصاص والدبوسي أقرب إلى المعنزلة منهم إلى الماتريدية. والكرخي أعظمهم ميلاً لأفكار المعتزلة، ثم الدبوسي. والجصاص وافقهم في مسائل. وهؤلاء عمدة الحنفية. كما اشتهر من الحنفية محمد بن شجاع الثلجي المعتزلي الجهمي الشهير. وكذلك عيسى بن أبان، وفيه ميل إلى الاعتزال. ولذا تجد تشابه بين اختياراتهم وبين آراء المعتزلة.

والحقيقة أن المذهب الحنفي الحالي هو أشبه بمذهب الكرخي وليس مذهب أبي حنيفة. ذلك أن الكرخي هو المؤسس الحقيقي لأصول الفقه عند الأحناف وهي أصول أقرب لمذهب المعتزلة من مذهب أبي حنيفة. وخصوصاً القاعدة الشهيرة التي اخترعها الكرخي: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ» [الأصل للكرخي 152 ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي]. ولك أن تتخيل ماذا كان سيقول ابن عباس رضي الله عنه لو سمع بهذه المقولة، وهو الذي كان يعيب على من يقلد أبي بكر وعمر! وذكر لنا أحد العلماء أن هذه المقولة علق عليها العلامة الحنفي علي القاري ما معناه: لولا أن الكرخي كان متأولاً لكفرناه.

عموماً فهناك الكثير من الأحناف من هم سلفيو العقيدة، لكن المشكلة تبقى أصول الفقه عند المذاهب الأربعة مخالفة للأئمة الأربعة ومتأثرة بنسب مختلفة بفلسفات المعتزلة. ولهذا تكثر الشذوذات الفقهية عند المتأخرين مقارنة مع الفقهاء المتقدمين. قال شيخ الإسلام: «وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، ولاسيما وقد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا. فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد. وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة».

 

الشهرستاني

أبو الفتح الشَّهْرَسْتاني (ت 548هـ) صاحب كتاب الملل والنحل. ألف كتاباً لوجيه شيعي وتعاطف في كتابه مع الشيعة. يصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء (20|287) بقوله: شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب التصانيف. ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع (القرامطة) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم، كما ينقل عن صاحب «التحبير» بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم: عالم كيّس متعفف. ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد، لكان هو الإمام، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له، نعوذ بالله من الخذلان، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله و قال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال: سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال: مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى، فسألوا الثوم والبصل!

 

ابن فورك

دس ابن سبكتكين السم له من أجل ما رمي بالزندقة، كما حكى ذلك أبو الوليد الباجي، أحد فقهاء المالكية الكبار.

 

السهروردي

السهروردي (ت586هـ). كان السهروردي شيعياً، وتأثر كثيراً بفلسفات أفلاطون وآراء زارَدشت المجوسي. وكان يدعو إلى الشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب. وقد كفره فقهاء دمشق وحلب، فقام صلاح الدين الأيوبي بسجنه حتى الموت. قال الذهبي عنه في سير الأعلام (21|207): «كان يتوقد ذكاء إلا أنه قليل الدين». وذكر أن فقهاء حلب كفروه، فأمر السلطان بقتله. قال ابن خلكان: «وكان يتهم بالانحلال والتعطيل، ويعتقد مذهب الأوائل (أي الفلاسفة). اشتهر ذلك عنه. وأفتى علماء حلب بقتله». قال الذهبي تعقيباً على هذا: «قلت: أحسنوا وأصابوا».

 

الآمدي

سيف الآمدي (ت631هـ)، من كبار الأصوليين عند الشافعية. قال الذهبي في "السير" (22|366) وكذلك في "تاريخ الإسلام": كان شيخنا القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، يحكي عن شيخه شمس الدين بن أبي عمر (ابن قدامة، صاحب الشرح الكبير) قال: «كنا نتردد إلى السيف الآمدي. فشككنا هل يصلي أم لا؟ (وهذا يدل على أنه لا يحضر الجماعات ولا يصلي أمام الناس) فتركناه حتى نام، وعلَّمْنا على رِجله بالحِبر. فبقيت العلامة نحو يومين مكانها! فعلمنا أنه ما توضأ». قال الذهبي: نسأل الله السلامة في الدين.

وهذه المسألة ذكرها ابن حجر في اللسان (3|134)، وبحثها الشيخ عبد القادر السندي بحثاً موسعاً في كتابه "تعليقات سنية على البحوث العلمية" (193-203)، ومما قاله: «الحبر الذي كان يُستعمَل عند هؤلاء المتقدمين لم يكن من هذا النوع (المعاصر الذي تصعب إزالته)، وإنه كان يزال أثره بالسرعة الهائلة. ولذا وقع الشك عندهم من عدم إقامة الصلاة من قَبَلِ السيف الآمدي (أقول: بل وقع الشك أولاً، ثم حصل اليقين بعد حادثة الحبر). وقد نُفِيَ من دمشق لسوء اعتقاده. ثم قول الذهبي فيه: "وصح عنه أنه كان يترك الصلاة" لم يكن هذا القول مبنياً على قضية الحبر فقط، وإنما هو من باب عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان عند هؤلاء المرجئة والجهمية والمعتزلة».

وقال الذهبي عنه في "المغني في الضعفاء" (1|293): «تارك للصلاة، شاكٌّ في دينه. نفوه من دمشق من أجل اعتقاده». وقال عنه في السير (22|364): «تفنن في حكمة الأوائل (الفلسفة)، فَرَقَّ دينُه واظلمَّ». وقال عنه في الميزان (3|358): «قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده. وصَحّ عنه أنه كان يترك الصلاة. نسأل الله العافية». قلت: أجمع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر، نسأل الله السلامة. قال الذهبي في السير (22|366): «قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف، حتى أنه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً. ونفى صفات الصانع على ذلك. فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئاً من الأصول الكبار». وانظر "درء التعارض" (1|162-164) و"الصواعق المرسلة" (3|841).

وكان تتلمذ على اليهود والنصارى في الفلسفة، فقام عليه الفقهاء ورموه بالانحلال، فكتبوا عليه محضراً. فخرج من القاهرة إلى دمشق مستخفياً. انظر "توضيح المقاصد" (2|191). ولأجل طاماته وصفه الإمام شمس الدين ابن القيم بالثور الحقير، فقال (كما في "شرح النونية" لخليل هراس 2|31):

حَتَّى أتَى مِن أرضِ آمدَ آخراً * ثَورٌ كَبِيرٌ بَل حَقِير الشَّانِ

قَالَ الصَّوَابُ الوَقفُ فِي ذَا كُلِّهِ * وَالشَّكُّ فِيهِ ظَاهِرُ التِّبيَانِ

هَذَا قُصَارَى بَحثِهِ وَعُلُومِهِ * أن شَكَّ فِي الله العَظِيمِ الشَّانِ

أبو حامد الغزالي

 

قال ابن الجوزي في "المنتظم": «وذكر في كتاب "الإحياء" من الأحاديث الموضوعة وما لا يصح غير قليل. وسبب ذلك قلة معرفته بالنقل. فليته عرض تلك الأحاديث على من يعرف. وإنما نقَل نقْل حاطب ليل»، وضرب أمثلة واضحة جداً. بل إن الغزالي نفسه قد حكم على نفسه بذلك، فقال في "قانون التأويل" (ص16): «وبضاعتي في الحديث مزجاة». وقد أحرقت كتبه لأجل تهمة الزندقة في الحادثة المشهورة وطرد من مصر لأجلها وألف من بعدها كتباً سرية يخفي فيها عقائده. راجع ترجمته في كتاب الدكتور سليمان دنيا من المتأخرين وهو باحث أكاديمي وإن شئت فعد لكتب السير كلها، تعرف حقيقة الغزالي.

 قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة –رحمه الله–: أما الغزالي: فهو الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، نسيجُ وحده في علوم الفقه والأصول والتصوف والكلام والفلسفة والمنطق وغيرها من العلوم، سوى علم الحديث الشريف فانه لم يتفرّغ له، وقد قال -رحمه الله تعالى- عن نفسه في كتابه: "قانون التأويل" (ص 16):{ وبضاعتي في علم الحديث مُزجاة } ولذلك تجد كتبه طافحة بالحديث الضعيف والموضوع، وبخاصة كتابه: "الاحياء" فقد شاع فيه الحديث الضعيف والموضوع في أكثر أبوابه، ولعل عذره في ذلك أنه اعتمد في على كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وساق تلك الأحاديث التي ساقها! ومن أجل هذا نهض العلماء المحدْثون النُقَّاد بتخريج أحاديثه وبيانها، تحذيراً من الاغترار بما فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة اعتماداً على مكانة الشيخ أبي حامد مصنّفه -رحمه الله تعالى-. فألّف الإمام الحافظ العراقي كتابين في تخريج أحاديث "الاحياء"، وأفود الإمام ابن السُبْكي في -ترجمة الغزالي في طبقات الشافعية الكبرى- فصلاً كبيراً جداً في أحاديثه التي لم يجد لها إسناداً، واستكمل تلك الجهود المشكورة العلامة الشيخ مرتضى الزبيدي في كتابه شرح الاحياء: "إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار علوم الدين" فكفوا -جزاهم الله الخير- المؤنة، ويسّروا الانتفاع بكتاب "الاحياء" للعالم والمتعلّم على سواء. ولولا تلك التخاريج لوقع أغلب قُرَّاء "الاحياء" في أمرٍ مريج! قال العلامة الشيخ مرتضى الزبيدي -رحمه الله تعالى- في مقدمة شرح الإحياء:"إتحاف السادة المتقين" في (الفصل التاسع عشر في ذكر مصنَّفاته):(1|28): "قال ابن تميمة وتلميذه ابن القيم: بضاعةُ الغزالي في الحديث مُزجاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي: قد جمعتُ أغلاط "الاحياء"، وأشرتُ إلى بعض ذلك في كتاب "تلبيس إبليس" قال سِبطُه أبو المظفر: وضعه (أي وضع الغزاليُّ كتابه الاحياء) على مذاهب الصوفية، وترك فيه قانون الفقه،، فأنكروا عليه ما فيه من الأحاديث التي لم تصحْ. قال المولى أبو الخير: وأما الأحاديث التي لم تصح فلا يُنكر عليه في إيرادها لجوازه في الترغيب والترهيب. قال صاحب ُ "كشف الظنون": وليس ذلك على إطلاقه، بل بشرط أن لا يكون موضوعاً. قلتُ -القائل: الشارع الزبيدي-: والأمر كذلك، فإنَّ الأحاديث التي ذكرها المصنّف: ما بين متفَقٍ عليه من صحيحٍ وحسنٍ بأقسامهما، وفيه الضعيفُ، والشاذَّ، والمنكرُ والموضوع على قلَّة، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. قال عبد الفتاح: انظر على سبيل المثال ما قاله الشارح الزبيدي في (1|99-100) عند حديث -حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة....- الذي أقرَّ الحافظ العراقي ُّ ابن الجوزي على الحكم بوضعه. ثم قال الشارح الزبيدي -رحمه الله تعالى- بعد كلام طويل في (الفصل التاسع عشر 1|40): وإنما خرَّج أحاديثه الإمام الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد ا لرحيم بن الحسين العراقي -رحمه الله تعالى- في كتابين: أحدهما كبيرُ الحجم في مجلدات، وهو الذي صنَّنفه في سنة 751. وقد تعذَّر -أي الحافظ العراقي- الوقوف فيه على بعض أحاديثه، ثم ظفر بكثير مما عزب عنه إلى سنة 760 ثم اختصره في مجلد وسمّاه: "المغني عن حمل الأسفار" اقتصر فيه على ذكر طريق الحديث، وصَحابيّه، ومُخْرجه، وبيان صِحْته وضعف مَخْرَجه. وحيث كرَّر المصنَّفُ الحديث اكتفى بذكره في أول مرة، وربما أعاد لغرض من الأغراض. ثم أتى تلميذه الحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني فاستدرك عليه ما فاته في مجلّد. وصّنف الشيخ قاسم بن قُطْلوبغا الحنفي كتاباً سماه "تحفة الأحياء فيما فات من تخريج أحاديث الإحياء". ولابن السبكي كلامٌ على بعض أحاديثه المتكلّم فيها، سرده على ترتيب الأبواب في آخر ترجمة الغزالي من "طبقاته الكبرى". قال عبد الفتاح: قال ابن السبكي-رحمه الله تعالى- في ترجمة الغزالي (4|145): "هذا فصل جمعتُ فيه ما وقع في كتاب الإحياء من الأحاديث التي لم أجد لها إسناداً". ثم ساق تلك الأحاديث في صفحات كثيرة بلغت 38 صفحة. ولقد أحسن الشارح الزبيدي صنُعاً في استيفائه كل ما قيل في تلك الأحاديث حتى أربي على الغاية فجزاه الله خيراً.

 

الجويني

عبد الملك بن أبي محمد الجويني (419-478هـ) الملقب عند الشافعية بإمام الحرمين. يقول عنه ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" (3|167 #378): «أعلم المتأخّرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق (يقصد أنه أعلم الأشاعرة الشافعية)، المجمع على إمامته (يعني عند الأشاعرة)، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب». بل قال السبكي: «الأرض لم تخرج من لدن عهده أعرف منه بالله». ولنرى غزارة علم إمامهم الجويني هذا.

قال الإمام ابن تيمية دقائق التفسير (2|168): عن الجويني: «لم يكن له بالصحيحين –البخاري ومسلم– وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وأمثال هذه السنن، علمٌ أصلاً! فكيف بالموطأ ونحوه؟! وكان –مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه– إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني. وأبو الحسن –مع تمام إمامته في الحديث– فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها (يعني أشبه بكتب العلل)، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله. فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما، فكان يستغني عنها في ذلك. فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الحديث، يورث جهلاً عظيماً بأصول الإسلام. واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي –الذي هو نخبة عمره– "نهاية المطلب في دراية المذهب" ليس فيه حديثٌ واحدٌ معزوٌّ إلى صحيح البخاري، إلا حديث واحد في البسملة. وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره!».

ومثال آخر على جهل الجويني نجده في كتابه "الإرشاد" (ص152) يقول: «ومما تتمسك به الحشوية (!) مما روي عن النبي r أنه قال: "إن الله خلق آدم على صورته" وهذا الحديث غير مدون بالصحاح». مع العلم بأنه متفق عليه، قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وهو صحيح بإجماع الأمة كلها! لذا صرح غير واحد من الحفاظ بقلة بضاعته في الحديث، منهم الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير. قال الحافظ (1|256): «ونقل الرافعي عن إمام الحرمين في "النهاية" أنه قال: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء"... وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام (الجويني) بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها. فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ثابت في الصحيحين... وهو أيضاً في بعض كتب السنن». وقال نحو هذه العبارة في موضع آخر (2|50): «ادعى إمام الحرمين في "النهاية" أن ذكر نفي المطر لم يرد في متن الحديث. وهو دال على عدم مراجعته لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها». أقول: إن إمامهم الجوني قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، غير مكترث بكلام رسول رب العالمين r، فكيف بمن هم دونه؟! إن هؤلاء لا يجوز أن يكونوا أئمة للمسلمين.

وقال ابن حجر في التلخيص (2|19) عن الجويني والغزالي: «قال إمام الحرمين: "رأيت في كتاب معتمد: أن عائشة روت ذلك". وتبعه الغزالي فقال: "قيل: إن عائشة روت ذلك". وهذا دليل عدم اعتنائهما بالحديث. فكيف يقال ذلك في حديث في "سنن أبي داود" التي هي أم الأحكام؟!». وقال في موضع آخر: (1|275): «وقع لإمام الحرمين في الغزالي في "الوسيط" وهمٌ عجيب. فإنه قال: "هذا الحديث مروي في الصحاح. وإنما لم يقل به الشافعي لأنه مرسل ابن أبي مليكة لم يلق عائشة. ورواه إسماعيل بن عياش عن ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة، وإسماعيل سيئ الحفظ كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين، وابن أبي مليكة ليس من الشاميين". فاشتمل على أوهام عجيبة: أحدها قوله: إن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة، وقد لقيها بلا خلاف. ثانيها: إن إسماعيل رواه عن ابن أبي مليكة، وإسماعيل إنما رواه عن ابن جريج عنه. ثالثها: إدخاله عروة بينه وبين عائشة، ولم يدخله أحد بينهما في هذا الحديث. رابعها: دعواه أنه مخرج في الصحاح، وليس هو فيها. فليته سكت». أقول: نعم، ليته سكت ولم يتكلم في فن لا يعقله.

وهذه أيضا شهادة الإمام الحافظ الذهبي –إمام أهل الجرح والتعديل في عصره– حيث قال في السير (18|471): «كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً».

والمصيبة أن هذا الجويني –الذي كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهور، والذي لا يدري الحديث سنداً ولا متناً– ومع ذلك وصفه أصحابه الأشاعرة بأنه "لو ادعى اليوم النبوة، لاستغنى بكلامه هذا عن إظهار المعجزة"، على حد تعبير القشيري، كما نقله السبكي في طبقاته (5|174). فانظروا إلى تشبيه كلام الجويني بكلام الله تعالى. إذ كأن بيان الجويني وكلامه، وصل إلى درجة الإعجاز التي تثبت به النبوة. وهذا لا ينبغي أن يوصف به إلا كلام الله عز وجل. فمن اعتنى بالحديث ورد على أهل البدع، قالوا مجسم كافر! ومن جهل وتجاهل و تمادى في الجهل بالحديث والسنن النبوية، ووافق الفلاسفة الضلال، يعتبر أفضل من النبي. لأن النبي عند الأشاعرة يحتاج للمعجزة لإثبات النبوة. لكن الجويني الأشعري لو ادعى النبوة لما احتاج إلى المعجزة !

قال الكوثري في "إحقاق الحق": «ومؤلف الكتاب –على جلاله قدره بين الشافعية، وكثرة مؤلفاته في الفقه وأصوله– لا خبرة له بالحديث مطلقاً. حتى تراه يقول في "البرهان" أن حديث معاذ في اجتهاد الرأي مخرج في الصحاح، وهذا خلاف الواقع لأنه لم يخرج في أحد من الصحاح، وإن كان الحديث صحيحاً عند الفقهاء... ثم هو لم يذكر في "نهاية المطلب.." التي هي أضخم مؤلفاته حديثاً واحداً ينسبه للبخاري، إلا حديث الجهر بالبسملة، وليس هو في البخاري.كما أشار إلى هذا وذاك ابن تيمية والذهبي تشهيراً له بجهله في الحديث. بل قال أبو شامة المقدسي في "المؤمل" عند ذكره استدلال أهل مذهبه بالأحاديث الضعيفة وتصرفهم في الأحاديث نقصاً وزيادة: "وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد (الغزالي)". وهما –كما ترى– مضرب مثل عند أبي شامة في الجهل بالحديث... فإذا كان حال ابن الجويني والغزالي هكذا، فماذا يكون حال الفخر الرازي؟!».

وقال الكوثري: «ثم لو سألناه عن الحجة في صحة الحديثين، لضاقت عليه الأرض بما رحبت بالنظر إلى حالته في معرفة الحديث». وقال: «ولولا جهل ابن الجويني بالتأريخ والآثار، لربأ بنفسه أن ينطق بمثل ذلك الكلام الساقط المسقط لقائله». ثم اتهمه الكوثري بالكذب الصريح فقال: «فالآن أسحب كلمتي فيما سبق "أني لا أظن به أن يتعمد الكذب". وأقول: لعل ابن الجويني هو الذي اصطنع هذه الأقصوصة، ثم تناقلتها عصبة التعصب».

قال الكوثري في كتابه "إحقاق الحق" (ص16-17) ما نصّـه: «ولسنا ننكر أن لإمام الحرمين فضلاً جسيماً في مؤلفاته في علم أصول الدين. وهو إمام من أئمة هذا العلم (الأشعري). ومع ذلك له وهلة فظيعة أتعبت مدافعيه في الجواب عنها، وهي مسألة علم الله بالمحدثات المتجددة. وصيغته مما لا يصدر ممن يعرف الله سبحانه. وقد أطال التاج بن السبكي في الإجابة عنها بما لم يقتنع هو به، فضلاً عن أن يُقنع الآخرين. وعلى كل حال هي غلطة خطرة، نسأل الله الصون». ومع ذلك يصفه الأشعري ابن عساكر في "التبيين" (ص278) بأنّه: «إمام الأئمّة على الإطلاق، حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، وعجماً وعرباً، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده...». أعوذ بالله من هذا التعصب.

قال الجويني في كتاب البرهان: «إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات». وهذا كفر بصريح القرآن.
وقال الجويني: «فإنها لو كانت غير منحصرة لتعلق العلم بها بآحاد على التفصيل وذلك مستحيل (!!). فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا الباري تعالى عالم بما لا يتناهى على التفصيل، سفّهنا عقولهم، وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات. وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا نهاية لها، فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير تعرض لتفصيل الآحاد». نقل ذلك السبكي في "طبقات الشافعية" في ترجمة الجويني. ومعنى المقالة أن الجويني ينفي علم الله بالجزئيات المستقبلية، وهذه زندقة ظاهرة.

حتى أن المازري -أحد كبار أئمة الأشاعرة- قال: «وددت لو محوتها بدمي»كما ينقل الحافظ الذهبي. أو كما ينقل السبكي: «وددت لو محوت هذا من هذا الكتاب بماء بصري». وقال المازري أيضاً: «فإنما سهل عليه ركوب هذا المذهب، إدمانه النظر في مذهب أولئك (أي الفلاسفة)». وقال «ومن العظيمة في الدين أن يقول مسلم إن الله سبحانه تخفى عليه خافية... والمسلمون لو سمعوا أحدا يبوح بذلك لتبرءوا منه وأخرجوه من جملتهم». وكان يتمنى المازري لو استطاع تأويل هذا فقال في آخر كلامه: «لعل أبا المعالي لا يخالف في شيء من هذه الحقائق، وإنما يريد الإشارة إلى معنى آخر. وإن كان مما لا يحتمله قوله إلا على استكراه وتعنيف».

الآن ماذا يفعل الأشعري المتعصب (السبكي) أمام هذه المصيبة بأحد كبار أساطين هذا المذهب؟ بالطبع نفى ما ادعاه الحافظ الذهبي قوله (وَنُفِيَ بِسَبَبهَا، فَجَاور وَتعبَّد، وَتَاب». فما هو الحل إذن؟ الجواب: مثل ما يفعل الأشعري حين يجد (كلام الله) ظاهره البطلان والكفر -على إعتقاده-. فالحل هو إما التفويض أو التأويل! يقول السبكي: «إذا عُرض هذا الكلام، نقول: هذا مُشكلٌ نضرِبُ عنه صفحاً مع اعتقاد أن ما فُهِمَ منه من أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات ليس بصحيح، ولكن هناك معنى غير ذلك لسنا مكلفين بالبحث عنه (!!!)». وقال: «وإذا دفعنا إلى هذا الزمان الذي شمخت الجهال فيه بأنوفها، وأرادوا الضعة من قدر هذا الإمام، وأشاعوا أن هذا الكلام منه دال على أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، أحوجنا ذلك إلى الدفاع عنه وبيان سوء فهمهم، واندفعنا في تقرير كلامه وإيضاح معناه». ونقل السبكي نقولات عن الجويني تبين أنه يرى بأن علم الله محيط بالجزئيات. ولكن المفاجأة أن السبكي وضّح أن هذا لا ينافي كلامه هذا. فالجويني رغم أنه يرى أن علم الله محيط بالجزئيات، فهو أيضاً يرى بان الله لا يعلم ما لا يتناهى على التفصيل حال كونه معدوم. على سبيل المثال حركات أهل النار ليس لها نهاية، فالله لا يعلمها على التفصيل الآن لأنها معدومه!! تأمل يا مسلم! وعلل هذا بأن ما لا يتناهى ليس له تفصيل حال كونه معدوم! سبحان الله. هل يجوز أن نقول بأن الله لا يعلم تفصيل حركات أهل النار، لأن حركات أهل النار ليس له تفصيل حال كونها معدوماً؟! ملحوظة: السبكي نفى أنه يوافق الجويني على مذهبه الشنيع هذا، ولكن المصيبة أنه نقل عن أشاعرة آخرين يوافقون الجويني!

قال أبو جعفر الحافظ: سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله: {الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى} فقال: «كان الله ولا عرش». وجعل يتخبّط، فقلت: «هل عندك للضرورات من حيلة؟». قال: «ما معنى هذه الإشارة؟» قلت: «ما قال عارف قط "يا رباه" إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟». وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة، ومزق ما كان عليه، وصارت قيامة في المسجد، ونزل يقول: «يا حبيبي، الحيرة والحيرة، والدهشة الدهشة». و نقل الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (18|469): قال القاسم: «هل للعباد أعمال؟»، فقال أبو المعالي: «إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك»، فتلا: {وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ} ومدّ بها صوته وكرر {هم لها عاملون} و قوله: {لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال: «والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري». وأكلّه (أي أعياه) ابن برهان بالحجة فبُهِتَ.

وكذلك في سير أعلام النبلاء (18|471): قرأت بخط أبي جعفر أيضاً: سمعت أبا المعالي يقول: «قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كلّ ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز. فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص، لا إله إلاّ الله، فالويل لابن الجويني». أقول: ويلٌ لابن الجويني، فإن ابن آدم قد تأسف على قتله لأخيه {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}، فما نفعه الندم. بل كان على الجويني -وراء إبراز الندامة- أن يأمر بإحراق مسفوراته، (إلاّ ما كان منها مطابقاً للسنّة إن وجد)، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر.

 

السبكي

السبكي الكبير والسبكي الصغير كلاهما من غلاة الأشاعرة ومن أشد الناس عداء للدعوة السلفية. ومن علامات التحيز والتعصب والغلو عند التاج السبكي قوله عن أبيه وهو يترجم له: «إعلم أن باب مباحثه بحر لا ساحل له، بحيث سمعت بعض الفضلاء يقول: أنا أعتقد أن كل بحث يقع اليوم على وجه الأرض فهو له! أو مستمد من كلامه وتقريراته التي طبقت الأرض! وكانت دعواته تخترق السماوات السبع الطباق! وتفترق بركاتها فتملأ الآفاق! وتسترق خبر السماء! أقســـم بالله إنـه لــفـوق ما وصـفــتـه!! وإني لناطق بهذا وغالب ظني أني ما أنصفته!». إلى أن قال: «وما ساقه الله حين قبضه، إلا إلى جنة عدن! أعدت لأمثاله من المتقين الأبرار! وما عانده أحد، إلا وأخذه الله بعقوبته سريعاً! وسافر إلى مصر، وكان يَذكر أنه لا يموت إلا في مصر! وكأن الله استثناه من الآية {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فصارت إلا السبكي! وزعم أن رجلاً رآه في المنام فسأله عما فعل الله به فقال: فتحت لي أبواب الجنة، وقال لي: ادخل، فقلت: وعزتك لا أدخل حتى يدخل كل من حضر الصلاة علي!».

ومع هذا الغلو الشديد والشطط المقيت، نجد أن السبكي الصغير معروف بالتعصب وعدم الإنصاف. وقد قال: «ومتى كانت الحنابلة؟ وهل ارتفع للحنابلة قط رأس؟». فقال الحافظ عبد الرحمن السخاوي –رَحِمَهُ اللَّهُ– (ت 902هـ)، في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ" (94-95 ط الرسالة) عن جملة السبكي السابقة: «وهذا ما أعجب العجاب وأصحب التعصب». فهذا الحافظ السخاوي قد نص على تعصبه، مع أنه أشعري مثله. وقال قاضي عصره الحافظ عز الدين الكناني –رداً على قول السبكي–: «وكذلك والله ما ارتفع للمعطلة رأس». ثم وصف التاج السبكي بقوله: «هو رجل: قليل الأدب، عديم الإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم، يدلك على هذا كلامه».

ولقد عامل الله السبكي بما يستحق فقد ذكر العلامة خير الدين الآلوسي: «ونقل الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الأجوبة المرضية": أن أهل زمانه رموه (للسبكي) بالكفر واستحلال شرب الخمر والزنا، وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل ويخلعهما بالنهار! وتحزبوا عليه، وأتوا به مقيداً مغلولاً من الشام إلى مصر. وجاء معه خلائق من الشام يشهدون عليه. ثم تداركه اللطف على يد الشيخ جمال الدين الإسنوي». نسأل الله السلامة. إنظر قلادة الجواهر (ص206) وجلاء العينين (ص24) و الأعلام للزركلي (4|184). وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14|316): «وعقد مجلس لقاضي القضاة السبكي بسبب عظائم اتهموه بها ينبو السماع عن استماعها» وتكلم قاضي القضاة جمال الدين المالكي في السبكي بعظائم وأشياء منكرة جداً، على حد تعبير ابن كثير. قلت: ورجل متعصب جداً للأشعرية لا يمكن أن يُتهم في بيئة أشعرية متعصبة (من قاضٍ أشعريٍّ) بالكفر والأشياء المنكرة، بدون أدلة. ولولا علو مكانته لدى الأشاعرة لما تواسطوا له ولما تجاهلوا تلك الأشياء المنكرة.

قال السّبكي في "طبقاته" (4|162): «قد استقريْتُ، فلم أجد مُؤَرِّخَاً ينتحل عقيدةً، ويخلو كتابه عن الغمْزِ، ممَّنْ يحيدُ عنها. سنةُ الله في المؤرِّخين، وعادتُه في النَّقَلة، ولا حول ولا قوة إلا بحبْله المتين». أقول: زعم السبكي هذا ليبرر لنفسه الغمز بعلماء أهل السنة والطعن بهم. وما يكاد ينجو منه أحد ممن صح اعتقاده من أهل السنة والجماعة، حتى شيخه الذهبي صاحب الفضل عليه. فقد ترجم في "طبقاته" (9|103) لشيخه الذهبي، ومِمَّا قاله فيه: «كان شيخُنا –والحَقُّ أحَقُّ ما قِيل، والصِّدْقُ أولى مآثَره ذو السَّبيل– شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة (ويقصد أهل السنة والجماعة بمختلف مذاهبهم وليس فقط الحنابلة منهم)، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة (ويقصد الأشاعرة!)، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعريّ فيهم مُقَدَّمَ القَافِلة. فلذلك لا يُنْصِفُهم في التَّراجم، ولا يَصِفُهم بخَير إلا وقد رَغِم منه أنْفُ الرَّاغِم».

قلنا: حاشا المؤرِّخ، النَّقَّاد، السني، السّلفي، الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ، أن يكون هذه منهجه في تورايخه: الكبيرة، والصغيرة. والسّبكي من تلاميذه، وينقل من كتابه: "سير أعلام النبلاء"، في "طبقاته"، وهو أعلم بمنهجه، فيكف يقول مثل هذا؟! نعوذ بالله من هذا الغلو في التعصب. إنَّ: "سير أعلام النبلاء" موسوعة فريدة في باب التراجم، لا يكاد يترك شيئاً من حياة المترجم –ولا سيّما الكبار– إلا وذكره. ونراه يتكلم على تراجم الرجال السّلفيين والخلفيين، وما غمز أحداً، ولا أزرا بأحدٍ، ممن خالفهم، ولو في العقيدة، وحاشاه. بل يتكلم على بدعة المبتدع، بما يليق بحاله، دون إفراطٍ، ولا تفريطٍ. قال الشوكاني في: "البدر الطالع" (ص 627) عن مصنفات الذهبي: «جميع مصنفاته مقبولة، مرغوب فيها. رحل الناس لأجلها، وأخذوها عنه، وتداولوها، وقرؤوها، وكتبوها في حياته، وطارت في جميع بقاع الأرض. وله فيها تعبيرات رائقة، وألفاظ رشيقة غالباً لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره، ولا من قبلهم، ولا من بعدهم. وبالجملة: فالناس في التاريخ من أهل عصره، فمن بعدهم، عيال عليه. ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه، ولا حرره كتحريره».

يقول السبكي هذا في (2|13) في وصف شيخه الذهبي: «له علم، وديانة، عنده على "أهل السنة" تحمّل مفرط، فلا يجوز أن يُعْتَمد عليه». وهذا صريح في أن السبكي لا يعتبر شيخه الذهبي من أهل السنة، بل يعتبره من أهل البدع المتحاملين على أهل السنة! فأي عقيدة فاسدة يحملها السبكي؟ وأي حقد جهمي أسود جعله يتفوه بهذا الافتراء؟ وقال في (2|24): «ولقد وقفت في "تاريخ" الذهبيّ على ترجمة الشيخ الموفَّق بن قُدامة الحنبليّ، والشيخ فخر الدين بن عساكر. وقد أطال تلك، وقصَّر هذه، وأتى بما لا يشك لبيب، أنَّه لم يحمله على ذلك، إلا أنَّ هذا أشعريّ وذاك حنبليّ!!». كذا زعم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال في (2|25): «والذي أُفتي به: أنَّه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبيّ، في ذم أشعريٍّ، ولا شكر حنبليٍّ، والله المستعان». فاقرأ كلام السّبكي على الحنابلة في: "طبقاته" (8|218) وما بعدها، عندما ذكر الواقعة بين الحنابلة والشافعية في عصر الملك الأشرف، ثم راجع الواقعة في: "سير أعلام النبلاء" (22|126)، لترى أي المنهجين أسلم، ومن الذي غمز مخالفه، واتهمه بـ: الابتداع، والحسد، والوشاية، والتجسيم، وتشبيه الله بخلقه.

بل غمز السبكي الإمام الذهبي في (2|15) بأنَّه: «مطبوعٌ على قلبه، ويورِّي في يمينه، ويعتمد على هوى نفسه في تآليفه»! وهكذا فليكون أدب الأشعري مع شيخه وأستاذه. وقال في (2|22): «أما تاريخ شيخنا الذهبيّ –غفر الله له– فإنَّه على حسنه، وجمعه، مشحون بالتعصّب المفرط (!!)، لا واخذه الله. فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء (يقصد القبوريين والخرافيين) الذين هم صفوة الخلق. واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين، والحنفيين. ومال، فأفرط على "الأشاعرة". ومدح فزاد في "المجسِّمة". هذا وهو الحافظ المِدْرَه، والإمام المبجَّل. فما ظنك بعوام المؤرخين».

وانظر: كلام السّبكي في: "الطبقات" على الحنابلة في: (2|16)، و (3|353)، و (8|237)، حيث يتهمهم ظلماً بأنهم مجسمة، ويحلون دم المخالف، والإمام أحمد منهم بريء! حتى تعلم من المتعصّب المفرط، جازاه الله بما يستحقه. وتأمَّل تحامله على شيخه الذهبي في: "طبقاته": (2|13)، و (2|22)، و (3|352)، و (8|88)، ترى عجباً. فقد وصفه في (3|352): بـ"المسكين". وقال عنه: "فَوَيْحَه، ثم وَيْحَه" (لاحظ قلة الأدب). وخاطبه في (3|353) بكلامٍ طويل جاء فيه: «أقسم بالله يميناً بَرَّةً (لاحظ اليمين الغموس) ما بك إلا أنَّك لا تحب شيَاع اسمِه (أي: أبو الحسن الأشعري) بالخير... فسوف تقف معه بين يدي الله تعالى، يومَ يأتي وبين يديه طوائفُ العلماء من المذاهب الأربعة، والصالحين من الصوفية (!)، والجَهَابِذة الحفّاظ من المحدِّثين، وتأتي أنت تَتَكَسَّع في ظُلَم التجسيم، الذي تدَّعي أنَّك بريء منه، وأنت من أعظم الدعاة إليه. وتزعُم أنَّك تعرِف هذا الفن، وأنت لا تفهم فيه نَقِيراً، ولا قِطْمِيراً». أهكذا يخاطب التلميذ شيخه وأستاذه؟ رحم الله الأدب عند أئمة الأشاعرة.

ومع ذلك فهو لا ينكر أن الإمام الذهبي هو أستاذه. فيقول (2|13): «وأنا قد قلت غير مرة: إنَّ الذهبيّ أستاذي، وبه تخرَّجت في علم الحديث». لكنه لا أتقن علم الحديث (كما فضحه الإمام الحافظ ابن عبد الهادي)، ولا تعلم الأدب من شيخه الحافظ الذهبي، ولا قدّر لأستاذه فضله عليه ومعروفه إليه. فنعوذ بالله من هذا الجحود والعقوق. ويبدوا أنَّ السبكي لم يكن هذا منهجه العاق مع أستاذه في: "طبقاته" فحسب، بل في غيرها. فتجده في كتابه: "مُعِيدُ النِّعَم ومُبِيدُ النِّقَم" (ص 74، 87)، يُسيء إلى شيخه أيضاً. وهو في نفس الوقت يكرر مقولته التي في: "الطبقات".

ولكن صنيع السّبكي لم يقابَل برضىً من أهل العلم، فقد تجاوز حد الأدب مع شيخه الذهبي. فقد أنكَر الحافظ السخاوي على السبكي هذا الصنيع مع شيخه، وانظر كتابه: "الإعلان بالتوبيخ" (ص 76). وسأدعهما الآن أمام القاضي الشوكاني ليحكم بين الطرفين (الذهبي والسّبكي): قال الإمام الشوكاني، في "بدره الطالع" (ص 627) عن الإمام الحافظ الذهبي: «وقد أكثر التشنيع عليه تلميذه السّبكي، وذكر في مواضع من "طبقاته للشافعية". ولم يأت بطائل. بل غاية ما قاله: إنَّه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة، أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من شافعي، أو حنفي لم يستوف ما يستحقه. وعندي أنَّ هذا كما قال الأول: "وتلك شكاية ظاهر عنك عارها". فإنَّ الرجل قد ملئ حبّاً للحديث، وغلب عليه، فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، إلا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في اشتغال بما لا يفيد.

 ومن جملة ما قاله السّبكي في صاحب الترجمة (2|14): "إنَّه كان إذا أخذ القلم غضب، حتى لا يدري ما يقول". وهذا باطل. فمصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة. وغالبها الإنصاف والذَّبّ عن الأفاضل. وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد: فإنْ لم يكن من معاصريه، فهو إنَّما روى ذلك عن غيره، وإن كان من معاصريه فالغالب أنَّه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقّه. وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً، فهذا شأن البشر. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم. والأَهْوِيَة تختلف، والمقاصد تتباين، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون».

 انتهى حكم القاضي الشوكاني، بين الأستاذ وتلميذه. وكما رأينا، فكلامه نموذج من الإنصاف العلمي، الذي فقده السّبكي العاق، تجاه أستاذه. وكان الأولى بالسّبكي أنْ يكون هو قائل هذا الكلام، بِرَّاً بأستاذه، بدلاً من أن يَخرُج من غيره. وقد دافع د. بشّار عوّاد في: "الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام" عن الذهبي بكلام علمي رصين. وعلق على قول السبكي السابق: "كان شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة" في (ص 464): «ولم يكن الذهبي متعصباً للحنابلة، بالمعنى الذي صوّره السبكي. فالرجل كان "محَدِّثاً"، يُحب "أهل الحديث" ويحترمهم». وقال (ص 462): «ولو قال السبكي: إنَّه كان يتعصب على "الأشاعرة" حسب، لوجد بعض الآذان الصاغية، ولبحث له المؤيدون عن بضعة نصوص، قد تؤيد رأيه. علماً أنَّي بحثت في: "تاريخ الإسلام" ولم استطع أنْ أحصل على مِثِلٍ يَصْلُح أنْ يُسَمَّى انتقاداً لأشعري. نعم، قد نجد بعض تقصير في تراجم قسم من "الأشاعرة"، قد جاء من عدم قيام الذهبي بنقل آراء المخالفين بتوسع، حباً منه للعافية».

ومن باب الأمانة؛ ينبغي أنْ يُعلم: أنَّ السبكي أشعري متكلم، وشافعي متعصب، ومائل عن شيخ الإسلام، ومنهجه. وهو شديد العداء للسلفيين. وله ردود على شيخ الإسلام، فصرعه فيها تلاميذ شيخ الإسلام، كابن عبد الهادي، وغيره. والله غالب على أمره ولكن المنافقين لا يعلمون.

 

النظّام

قال ابن حزم في "طوق الحمامة" (ص101): «وقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرويدي في كتاب "اللفظ والإصلاح": أن إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة من علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه بأن وضع له كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد. (قال ابن حزم): فيا غوثاه، عياذك يا رب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان».

 

 

أقسام الخبر

لعل أول ما يطعن به الأشاعرة والفلاسفة في الحديث، قولهم هذا حديث آحاد ليس بمتواتر، فلا يفيد اليقين. وهذا التقسيم باطل لا نقبل به. بل إن أقسام الخبر:
1) خبر يقين. وهو يتفاوت: فكل خبر صحيح –ولو غريب– فهو يقين. واليقين يتفاوت كما قال –جَلَّ و عَلى– في سورة التكاثر: {كلا لو تَعلمون عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثم لتروُنّها عين اليقين * ثم لَتُسْأَلُنَّ يومَئِذٍ عن النعيم}. وهذا هو الدين كله، ولا ندين الله إلا به.
2) خبر ظني: وهو ليس من قسم الصحيح، بل يدخل في الضعيف والحسن. وليس هو الذي أراده الأصوليون ولا أهل الاصطلاح، بل هو متوقف فيه. واتباعه بلا تثبت، اتباعٌ للظن. والظن لا يغني من الحق شيئاً.
 

أنواع الأشاعرة

الباحث يجد أن المنسوبين إلى مذهب الأشاعرة أربعة أصناف:

1– صنف ظُلِمَ وافتروا عليه النسبة للأشاعرة، وهو منهم براء. وذلك من باب تكثير السواد وحشد الأسماء، على طريقة الرافضة في تكثير علماء الشيعة. مثل: الإمام القيرواني والخطيب البغدادي والحافظين الإسماعيلي و أبو نعيم الأصبهاني. وهؤلاء من الأئمة السلفيين.

2– صنف عاش في بيئة طغى فيها الإعلامي الجهمي الأشعري، وقل من نجى من شرار سعيرها، إلا من ثبته الله. فتأثر بهم في مواضع، وخالفهم في مواضع أخرى. ومن هؤلاء الصنف: ابن حجر والنووي وغيرهما.

3– صنف يعتبرون أساطين الضلالة ومؤسسي الباطل ومنظري الجهمية باسم "الأشعري"، وهو منهم براء. وهؤلاء هم من يتحمل وزر من تبعهم إلى يوم الدين. ومنهم: الغزالي (حجة الزنادقة) والرازي (مؤلف "عبادة الكواكب والنجوم") وأبو الحسن الآمدي (تارك الصلاة). وترى الجهمية يُقَدِّمون أمامهم أسماء مثل: ابن حجر والنووي وغيرهم، للتلبيس على الأغرار أن هذا هو مذهب هؤلاء الفضلاء. ثم إذا تورط، أخرجوا له الأسماء الخبيثة مثل: الغزالي والرازي وغيرهم.

4– صنف انتسب للأشعري في مذهبه الذي استقر عليه في الفترة الأخيرة (وهو مذهب السلف الصالح) وسمى نفسه به. وتجده يقول أنه أشعري، لكن حين تبحث تجده ينقل لك من "الإبانة". ومثال ذلك محمد بن الموصلي الأصفهاني الشافعي الذي يصرّح بأنه أشعري، لكنه يثبت العلو ويثبت صفات الله على حقيقتها.