نظر الرجل للنساء

 

أخرج البخاري في صحيحه (2|551 #1442) و مالك في الموطّأ (1|359): عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس t قال: كان الفضل رديف النبي r. فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه. فجعل النبي r يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. فقالت: «يا رسول الله. إن فريضة الله على عباده في الحج. أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟». قال: «نعم». وذلك في حجة الوداع.

 وأخرج البخاري في صحيحه (5|2300 #5874): حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سليمان بن يسار أخبرني عبد الله بن عباس t قال: أردف رسول الله r الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته. وكان الفضل رجلاً وضيئاً. فوقف النبي r للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله r. فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها. فالتفت النبي r –والفضل ينظر إليها– فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها. فقالت: «يا رسول الله. إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟». قال: «نعم».

وأخرج أحمد و الترمذي من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة (قليل الحديث، ليس بالقوي) عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن عن علي بن أبي طالب t: أن رسول الله r أردف الفضل ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر. فقال هذا المنحر ومنى كلها منحر. واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: «إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ أن أحج عنه؟». قال: «حجي عن أبيك». قال ولوى عنق الفضل، فقال العباس: «يا رسول الله. لم لويت عنق ابن عمك؟». قال: «رأيت شابّاً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما».

وأخرج مسلم في صحيحه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله حديثاً طويلاً فيه أن رسول الله r: «أردف الفضل بن عباس –وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيماً–. فلما دفع رسول الله r، مرت به ظعن (أي نساء) يجرين. فطفق الفضل ينظر إليهن. فوضع رسول الله r يده على وجه الفضل، فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله r يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر».

قال الإمام ابن بطال: «في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع. ويؤيده أنه r لم يحول وجه الفضل، حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه. وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي r، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي r الخثعمية بالاستتار، ولما صرف وجه الفضل. وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً، لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء، وأن قوله ]قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم[ على الوجوب في غير الوجه».

واعترض بعض العلماء على ذلك بوجوه:

1– قال ابن حجر: «وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر، لأنها كانت محرمة». قال الشيخ الألباني: «ولا يخفى على أهل العلم أن هذا الجواب إنما يستقيم لو كان لا يجوز للمحرمة أن تغطي وجهها بالسدل عليه. وهذا مما لا يقول به الحافظ أو غيره من العلماء. فرده مردود». والحق ما قاله الألباني، فلو كان ستر الوجه فرضاً لكان أمرها رسول الله r بأن تسدل على وجهها، وهو جائز للمحرمة –عند الحاجة– باتفاق العلماء. قال ابن حزم في المحلى (3|218) بعد أن ذكر هذا الحديث: «فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق. ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء. فصح كل ما قلناه يقينًا». مع أن الشيخ الألباني قد رجح بأنها لم تكن محرمة بل متحللة.

2– قال أحد المعاصرين: «ليس فيه امرأة كانت سافرة بوجهها. فيحتمل أن ابن عباس أراد حسن قوامها وقدّها و وضاءة ما ظهر من أطرافها»!! قلنا ما نفاه صاحب هذا القول في أول كلامه أثبته في آخره. فإن «الأطراف من البدن هي اليدان والرجلان والرأس» كما في القاموس. ومثيله حديث «إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف: وجهه وكفاه...». ويشهد لذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قواه ابن حجر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: «كنت ردف النبي r، وأعرابي معه بنت له حسناء. فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله r رجاء أن يتزوجها. وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي r برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة». فكأن الأعرابي أراد من ابتنته أن تسأل حتى يراها رسول الله r. فلا شك أنها كانت كاشفة لوجهها. عدا ما في الحديث في الصحيحين من دلالةٍ ظاهرة.

3– قال أحد المعاصرين: «وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه». قلنا هذه مكابرة أمام النص الصريح. ففي لفظ مالك والبخاري «فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه». فجملة "ينظر يلتفت" تفيد استمرار الفعل كما هو معلومٌ في لغة العرب. وفي لفظ آخر للبخاري «فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها. فالتفت النبي r –والفضل ينظر إليها». وفي لفظ مسلم أن ابن عباس حاول النظر إليها –ومن معها من النساء– عدة مرات.وكلمة "طفق" معناها: استمر ينظر، كقوله تعالى: ]فطفق مسحاً بالسوق والأعناق[، وقوله: ]وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة[ (الأعراف:22). ومثله في البخاري في قصة اغتسال موسى عليه السلام وحده: «فطفق بالحجر ضرباً». وفيه أيضاً في حديث الهجرة: «فطفق أبو بكر يعبد ربه».

4– قال أحد المتأخرين عن الحديث أنه قد قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب!! قلت هذا تقولٌ بغير علمٍ لا يجوز في الدين. وإنما آية الحجاب في سورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة، ونزلت سورة النور في السادسة. أما هذه الحادثة فقد حدثت في حجة الوداع كما في حديث البخاري ومالك. فلا ينسخها إذا شيء.

قال الحافظ ابن القطان –رحمه الله– في كتابه (2|53): «وقد قدمنا في مواضع أن إجازة الإظهار، دليلٌ على إجازة النظر. فإذا نحن قلنا: يجوز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها لكل أحدٍ على غير وجه التبرُّج من غير ضرورة، لكون ذلك مما ظهر من زينتها، ومما يشق تعاهده بالستر في حال المهنة، فقد جاز للناس النظر إلى ذلك منها. لأنه لو كان النظر ممنوعاً مع أنه يجوز لها الإبداء، كان ذلك معاونةً على الإثم، و تعريضاً للمعصية، وإيقاعاً في الفتنة، بمثابة تناول الميتة للآكل غير مضطر! فمن قال من الفقهاء بجواز الإبداء، فهو غير محتاج إلى إقامة دليلٍ على جواز النظر. وكذلك ينبغي أن يكون من لم يجز للمرأة الإبداء والإظهار، غير محتاجٍ إلى إقامة الدليل على تحريم النظر. وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فإذاً النظر إلى ذلك جائز، لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة وأن لا يقصد اللذة. وأما قصد اللذة، فلا نزاع في التحريم». هذا وقد نقل الفقيه المالكي ابن محرز اتفاق العلماء على جواز النظر لوجه المرأة بدون شهوة، وخالفه بعضهم.

هذا بالنسبة إلى المرأة المسلمة. أما المرأة الذمية (أي غير المسلمة) فيقول الإمام سُفيان الثوْري –رحمه الله–: «لا بَأْس بِالنَّظَرِ إِلَى زِينَة نِسَاء أَهْل الذِّمَّة. وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَة لا لِحُرْمَتِهِنَّ». (تفسير ابن كثير: 3|855). واستدل بقوله تعالى {وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}. أي إذا فعلن ذلك، عُرِفن أنهن حرائر لسن بإماءٍ ولا عواهر.