تنبيهات على أخطاء حديثية وقع فيها الشيخ الفاضل سعد الحميد -وفقه الله-

 

بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أتباعه أجمعين.

أما بعد:

فهذه مقالة للأخ أبو العباس عادل محمد بعنوان "تنبيهات على أخطاء في شرح النخبة"، وهي نقد لبعض أخطاء الشيخ سعد بن عبد الله آل حميد -وفقه الله- الحديثية من خلال: فتاواه الحديثية، وشرحه للنخبة. والشيخ سعد من الأفاضل المعروفين بانتصارهم لمذهب الأئمة المتقدمين، وعنده علم عزير، وله أثر كبير في دعم الصحوة الحديثية. وكل يؤخذ ويرد من قوله إلا النبي المصطفى r. فلهذا نقلت هذه المقالة، مع التنبيه على أن كوني حذفت بعض ما فيها لا يعني أني أقر كل ما بقي منها. لكني أوافق بعضه، وأرى أن في البعض فوائد متنوعة، وإن بقي فيه ما لا يسلم. وإن كان من تلاميذ الشيخ سعد من يرى أن الكاتب أخطئ، فعله كذلك، فلينشر رأيه في المنتدى المخصص، وأجره على الله رب العالمين.

 

______________________

 (((((((((( نص ّ الرسالة )))))))))

______________________

  مقدمة

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا مزيدًا ؛ أما بعد:

فإني وقفت قبل عام وبضعة شهور على كتاب (( شرح النخبة للحافظ ابن حجر ))، لممليه ومؤلفه: الشيخ سعد بن عبد الله آل حميد وفقه الله، فنظرتُ في الكتاب فوقع نظري على بعض الأخطاء والأغلاط، فعزمتُ على قراءته كاملاً على فتراتٍ حسب ما تيسر من أوقات الفراغ، فتم لي ذلك والحمد لله، فقيدتُ تلك الملحوظات عندي، فبقيت في الأوراق أكثر من سنة. وأثناء تلك الفترة وقفتُ على كتاب آخر للمؤلف نفسه اسمه (( الفتاوى الحديثية ))، صدر منه الجزء الأول، فوجدت فيه ما وجدت في سابقه من الأخطاء،

 

وهي في هذا الكتاب قسمان:

 

القسم الأول:

أخطاء مكررة في الكتابين، بل إنَّ الخطأ المذكور في الشرح مذكور في الفتاوى بلفظه وسياقه لم يتغير منه إلا وضعه على طريقة السؤال والجواب، فعجبتُ من ذلك ! وحتى يزول العجب بحثتُ عن السبب - وكما قيل: إذا علم السبب بطل العجب -، فوجدت الأخ المعتني قد استوعب قرابة (77) صفحةً من الفتاوى كلها عبارة عن تحويل مواضع من الشرح إلى سؤالٍ وجوابٍ، وهذا تصرفٌ غير مرضيٍّ، حيث إنَّ فيه تشبعًا بما لم يُعطَ، وهذا مذموم كما هو معلوم.

وبيان ذلك: أن الأخ الشارح لما أذن للمعتني في الطبع قال: (( فقد أذنت للأخ الفاضل أبي عبيدة ماهر بن صالح آل مبارك بجمع الفتاوى الحديثية التي جاءت أجوبة على أسئلة في بعض الدروس العلمية، وتفريغها من الأشرطة، وترتيبها وطباعتها. وهذا إذن مني له بذلك، وصلى الله على نبينا محمد. كتبه سعد بن عبد الله الحميد 23|7|1419 هـ )).

إذًا ؛ فهي أسئلة أجيب عليها في الدروس فحسب، فما قام به الأخ -مع ما فيه من التشبع بما لم يعط- كان سبباً في تكرار نفس الأخطاء، وتكبير حجم الكتاب بما لا يستفيد منه إلا الناشر والمؤلف !

ثم وجدت الكتاب الثالث، وهو (( مناهج المحدثين ))، وهو بعد (( الفتاوى )) كما يظهر من تأريخ الإذن ( 5|8|1419هـ )، فرأيت المعتني قد اصطنع منه أيضًا أسئلةً وأجوبةً كما فعل مع الشرح، وإن كان النصيب الأكثر للشرح، ولو أنهما - وفقهما الله - أشارا إلى ذلك الصنيع وبيناه لارتفع هذا اللوم عنهما، والله المستعان.

 

هذا ؛ والقسم الثاني:

هو ما انفردت به (( الفتاوى )) من الأخطاء، وهذه رأيت كتابة أهمها هنا في المقدمة، فليس لديَّ من الوقت ما يكفي لإعادة ترتيب هذه الملاحظات، والغرض هو بيان الحق فيها والنصيحة لأخينا الشارح أولاً، ولطلبة العلم ثانيًا، ولعلم الحديث ثالثًا.

  

ولذا أذكرها بحسب ما تيسر، والمعذرة على هذا، فأقول:

  

1- قال في (( الفتاوى )) (1|62): (( ووقع في مسند الإمام أحمد رحمه الله عدد من الأحاديث الثلاثية بلغ نحو ثلاثمائة حديث، ثلاثيات أفردها السفاريني رحمه الله، وشرحها أيضا في كتابه شرح ثلاثيات المسند )).

وهذا بنصه في (( مناهج المحدثين )) (ص45). وقال في موضع آخر (1|190): (( عدد هذه الأحاديث الثلاثية في مسند الإمام أحمد ثلاثمائة حديث تقريبًا، أفردها السفاريني بالجمع، أي: استلها من مسند الإمام أحمد فجمعها في كتاب، وشرح هذه الأحاديث الثلاثية في كتابه (( شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد ))، ورتب هذه الأحاديث على الموضوعات ) اهـ.

قال أبو العباس - وفقه الله -: هذه الحقائق الثلاث التي ذكرها الحميد عن السفاريني وكتابه لا يصح منها إلا واحدة، وهي أنه شرحها، وأما الجمع والترتيب فخطأ على هذا الإمام وكتابه. وهذا كلام من لم يقرأ هذا الكتاب، ولهذا أمثلة تجدها في هذه التعقيبات، فيها يتحدَّث أخونا سعد الحميد عن كتب إذا سمعته ظننته بها خبيرًا، فإذا راجعت تجد الكلام فيه من الخطأ ما فيه، مما يدل على جرأة في طرح المعلومات، حتى إنَّ الطالب الذي بين يديه أو القارئ لكتابه يظنها من أندر الفوائد، وهي من أقبح الأخطاء والأغلاط !

وحتى لا يتسرَّعَ معجب به، أو مقلِّد، أو محسن للظن بالحميد، أو من أخذته هيبة الدكتوراه ! فيظن أننا نتجنى عليه، فهذا مثال منها:

فأقول: أما الجامع والمخرج فقد قال السفاريني نفسه (ص6): (( فلا جرم بعد عزمنا بعد الترديد وجزمنا بعد التقييد على شرح ثلاثيات مسند مولانا وقدوتنا وإمامنا وعمدتنا الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، إمام كل حنبلي، مما أخرجه الإمام العالم المحقق مجد الدين إسماعيل بن عمر المقدسي والإمام الحافظ ضياء الدين المقدسي رحمهما الله )). إذًا ؛ فهما اللذان خرَّجا أكثر هذه الثلاثيات، ولذا ترجم لهما (ص22 فما بعدها)، فقال: (( المقصد الثاني في ترجمة مخرج أكثر الثلاثيات من المسند )).

وأما أنها مرتبة على الموضوعات فغير صوابٍ، يدركُ ذلك كلُّ من نظر في هذا الشرح، واسمه (( نفثات صدر المكمد وقوة عين الأرمد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد )). فهو بدأ بمسند ابن عمر، ثم مسند جابر، ثم مسند أنس، وهكذا … فأين الترتيب على الموضوعات يا شيخ سعد؟

 

 2- تكلم الأخ الشيخ الحميد عن قصة أبي داود وولده مع أحمد بن صالح المصري (1|109)، ثم قال: (( كما أن صحة هذه القصة - فيما يظهر لي - أنها صحيحة، وهي مذكورة في ترجمة أبي داود، ولو كانت غير صحيحة لتكلم عنها من ذكرها، ولعلي أراجعها أكثر وأكثر ؛ لأنني لم يستوقفني هذا ؛ لأنني لم أجد فيه شيئًا يدعو للغرابة ).

قال أبو العباس - وفقه الله -: بل قد تكلم في القصة الإمام الذهبي، وكتابه من أول ما يتبادر للذهن في التراجم، فقد قال في (( السير )) (13|226): (( ويروى بإسناد منقطع ))، ثم ذكر القصة. ثم أعادها (13|231)، وقال: (( إسنادها منقطع )). والله أعلم.

 

3- (حذفته لشدته)

 

4- قال (1|200): (( وهذا مثل مسند أبي داود الطيالسي تماما، فمسند أبي داود الطيالسي لم يؤلفه أبو داود الطيالسي نفسه، وإنما ألفه تلميذه يونس بن حبيب )).

قال أبو العباس - وفقه الله -: وهذا خطأ ظاهر ؛ فلم يؤلفه يونس يا دكتور ! وإنما كما قال الذهبي في (( السير )) ( 9|382): (( قلت: سمع يونس بن حبيب عدة مجالس مفرقة، فهي (( المسند )) الذي وقع لنا. وقال أبو بكر الخطيب: قال لنا أبو نضر: صنف أبو مسعود الرازي ليونس بن حبيب (( مسند أبي داود )) )). وقال السيوطي في (( التدريب )) (1|191): (( فإنما هو من جمع بعض الحفاظ الخراسانيين، جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب خاصة عنه، وشذ عنه كثير منه )). فأرجو أن يكون الأمر قد اتضح لك.

 

(قال العبد الفقير محمد الأمين: الأمر خلافي بين العلماء، وليس في هذه المسألة شيء حاسم، ولا تثريب على الشيخ سعد).

 

5- ذكر الحميد (1|162) شيخ الطبراني وسماه محمد بن جعفر الحضرمي المعروف بمطين، والذي في (( السير )) (14|41) أن اسمه: محمد بن عبد الله بن سليمان أبو جعفر الحضرمي الملقب بمطين، والله أعلم.

فهذا بعض ما ظهر لي في (( الفتاوى )) من غير المكرر، وأنا أدعو الأخ سعدًا الحميد إلى مراجعة هذين الكتابين، وبالخصوص الشرح ففيه من الأغلاط ما تراه قريبًا.

سئل الأخ الحميد (1|185-186) عن تخريج العراقي للإحياء فأذكرُ السؤال والجواب ثم أبين ما فيه:

(( س| هل تخريج العراقي لكتاب (( إحياء علوم الدين )) مطبوع؟ وهل هو مفيد؟

جـ| للعراقي - رحمه الله - تخريجان: تخريج مطول، وتخريج مختصر، والتخريج المطول يبدو أنه فُقد ؛ لأننا لا نعرف عنه شيئًا الآن، وهو كتاب (( المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار ))، أما التخريج المختصر فهو مطبوع بحاشية بعض طبعات (( الإحياء )) أو كلها )).

قال أبو العباس – عفا الله عنه -: وهذه الفتوى من الحميد فيها خلط عجيب، وأمر لا يطاق، بل وفيها استغفال للطلبة والقراء الذين لا يراجعون ما يقول لهم، ومن قرأ هذه التعليقات تحصل لديه قناعة بأن الأخ الشيخ الحميد - غفر الله له - عنده تجرّأٌ غريبٌ على المعلومات.

وبيان ذلك باختصار: أن للعراقي رحمه الله ثلاثة كتب تخريجية لكتاب الغزالي (( الإحياء )): كبير واسمه (( إخبار الأحياء بأخبار الإحياء ))، ومتوسط واسمه (( الكشف المبين عن تخريج إحياء علوم الدين ))، وصغير واسمه (( المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار ))، وهو نفسه المطبوع في حاشية (( الإحياء )).

فتصورُ هذا يكفي في بطلان فتوى الحميد !! ولكن حتى لا يبقى شك لدى القارئ أسوق له كلام جمع من الأئمة، فأقول:

قال الحافظ السخاوي في (( التحفة اللطيفة )) (2|561): (( وله تخريج (( الإحياء )) كبير، ومتوسط، وصغير. والصغير هو المتداول سماه (( المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار )) )).

وقال نحوه في (( القبس الحاوي )) (1|37).

وقال التقي ابن فهد في (( لحظ الألحاظ )) (ص229-230): (( له المؤلفات المفيدة المشهورة في علم الحديث، والتخاريج الحسنة، من ذلك: (( إخبار الأحياء بأخبار الإحياء )) في أربع مجلدات، فرغ من تسويده في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، قرأ عليه شيئًا منه الحافظ عماد الدين ابن كثير، وقد بيض منه نحوًا من خمسة وأربعين كراسًا وصل فيها إلى أواخر الحج، قرأ عليَّ ذلك ابنه شيخنا الحافظ أبو زرعة أحمد، وينتهي إلى قوله: الحديث الثامن والعشرون وقال : (( لم يصبر على شدتها ولأوائها أحد إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة ))، وبعد ذلك بخمس ورقات من التبييض لم يقرأها. ثم اختصره في مجلد ضخم سماه (( المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار ))، فاشتهر وكتب منه نسخ عديدة، وسارت به الركبان إلى الأندلس وغيرها من البلدان، فبسبب ذلك تباطأ الشيخ عن إكمال تبييض الأصل، وشرع قبل ذلك في مصنف متوسط بين المطوَّل والمختصر، فذكر فيه أشهر أحاديث الباب سماه (( الكشف المبين عن تخريج إحياء علوم الدين ))، كتب منه شيئًا يسيرًا وحدث ببعضه، قرأه عليه شيخنا نور الدين الهيثمي )).

وأما الزبيدي فقال في (( إتحاف السادة المتقين )) (1|55): (( وإنما خرج أحاديثه الإمام الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في كتابين: أحدهما كبير الحجم في مجلدات، وهو الذي صنفه في سنة 751، وقد تعذر الوقوف فيه على أحاديثه، ثم ظفر بكثير مما غرب عنه إلى سنة 760، ثم اختصره في مجلد وسماه (( المغني عن حمل الأسفار )) اقتصر فيه على ذكر طريق الحديث وصحابيه ومخرِّجه وبيان صحته وضعف مخرجه )).

وكأن الأخ لم يقرأ مقدمة المطبوع مع الإحياء !

 

 

من مواقف العلماء للاقتداء:

 بين الإمامين عبد الغني بن سعيد والحاكم أبي عبد الله: قال ابن كثير في (( البداية والنهاية )) (12|7-8): (( وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتابًا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل ويشكره، ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله )).

وفي (( السير )) (17|270): (( قال عبد الغني بن سعيد المصري: لما رددت على أبي عبد الله الحاكم الأوهام التي في (( المدخل )) بعث إليَّ يشكرني ويدعو لي، فعلمتُ أنه رجل عاقل ).

والله الموفق.

 

 لماذا لم أبعث بالملاحظات إلى الشارح؟

 والجواب: أن الشارح قد نُبِّه على هذا من غيري، حيث ذهب إليه أحد الفضلاء في مسجد الراجحي في مدينة الرياض في درس الشيخ ابن جبرين، وكان الشارح يقرأ عليه كتاب اللالكائي، وأخبره عقب الدرس بأن في شرحه أخطاءً، فقال الحميد: لعلها من الناشر، فقال له: لا ؛ بل هذه أخطاء في المعلومات منك أنت. فقال: أعطها الناشر ! أو نحو هذا الكلام. ثم أخذ في الحديث مع غيره، ولم يعطه وجهًا. وهذا من قبيح التصرفات في مثل هذه المواطن، وذلك أن الحريص على الفائدة والعلم تجد منه الفرح والاعتناء بما يُعرض عليه ويُفاد به، لا الإعراض وعدم المبالاة !

 

دعوة ناصحة: وأدعو جميع إخواني طلبة العلم إلى ترويض أنفسهم على الرجوع إلى الحق، وقبوله ممن جاء به، ولنا في هدي نبينا r و سير أسلافنا وأئمتنا عبرة، ومنها ما تقدم ذكره. وكذا لنا أسوة في أئمة العصر، كالشيخ الإمام محدث العصر الألباني رحمه الله، فما أكثر ما ينُص في مصنفاته وكتبه على تراجعاته، ويعزو الفضل لصاحبه، فإننا يا إخواني الأفاضل في زمن لا يقوم بالعلم الرجل وحده، وهو بإخوانه ونصحهم وتوجيههم ونقدهم أكمل منه بدون ذلك، ولا يغرنكم شهادات ولا شهرة، فالعلم وراء ذلك، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويجمع كلمتهم على الحق والهدى، ويوحد صفهم على هدي السلف، ويبصرهم ويقيهم كيد أعدائهم في الداخل والخارج، ويرزقنا والمسلمين الفقه في دينه والدعوة إليه على بصيرة، ويحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

  

وكتب: أبو العباس عادل بن محمد

مدينة الرياض

وانتهيتُ من إعادة النظر فيه وتعديله في 8| 11| 1422هـ

 


 

التعليقات على (( شرح النخبة ))

 

 

الأخطاء حسب ورودها في كتابه، والله الموفق للصواب، لا رب سواه ولا إله غيره:

 

 

1- قال الشارح: (( وقام أحد تلاميذه - يعني الشافعي - فألف مسندًا للشافعي استخلصه من الأحاديث التي يرويها في كتبه، وأصبح الكتاب مشهورًا بمسند الشافعي، وهكذا (( كتاب السنن )) )). (ص5)، وهو في

(( الفتاوى )) (1|5).

التعليق:

في هذا الكلام أمور:

أولاً: فيه أن جامع هذا (( المسند )) من تلاميذ الشافعي.

ثانيًا: فيه أنه جمع الأحاديث التي يرويها الشافعي في جميع كتبه، كما هو ظاهر عبارة الشارح.

وهذان الأمران خطأ كما بينه أهل العلم، وسأنقل لك كلام إمامين من أئمة الحديث، ولهما عناية فائقة بكتب الشافعي وحديثه.

أما الأول: فهو الحافظ البيهقي، فقد قال في كتابه (( بيان خطأ من أخطأ على الشافعي )) (ص95): (( ونظرنا في كتبه - أي الشافعي - فوجدنا أبا إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني - رحمه الله وإياه - جعل منها مختصرًا، واتخذ أبو عمرو بن مطر النيسابوري أو غيره من الأحاديث التي أوردها فيما صنّفه بمصر ورواه عنه الربيع بن سليمان المرادي (( مسندًا )) مخرَّجًا من مسموعات أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم )) اهـ.

وأما الثاني: فهو الحافظ ابن حجر، فقد قال في كتابه (( تعجيل المنفعة )) (ص5): (( ثم إنَّ الشافعي لم يعمل هذا (( المسند ))، وإنما التقطه بعض النيسابوريين من (( الأم )) وغيرها من مسموعات أبي العباس الأصم التي كان انفرد بروايتها عن الربيع، وبقي من حديث الشافعي شيء كثير لم يقع في هذا (( المسند ))، ويكفي في الدلالة على ذلك قول إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة: إنه لا يعرف عن النبي سُنّة لم يودعها الشافعي كتابه، وكم من سنة وردت عن النبي لا توجد في هذا (( المسند )). ولم يرتب الذي جمع حديث الشافعي أحاديثه المذكورة، لا على المسانيد ولا على الأبواب، وهو قصور شديد، فإنه اكتفى بالتقاطها من كتاب (( الأم )) وغيرها كيف ما اتفق، ولذلك وقع فيها تكرار في كثير من المواضع، ومن أراد الوقوف على حديث الشافعي مستوعبًا فعليه بكتاب (( معرفة السنن والآثار )) للبيهقي، فإنه تتبع ذلك أتم التتبع فلم يترك له في تصانيفه القديمة والجديدة حديثًا إلا ذكره، وأورده مرتبًا على أبواب الأحكام )) اهـ.

تنبيه: قلت: ثم تنبه العلامة محمد عابد السِّندي فرتب (( المسند )) على الأبواب الفقهية، وقام بتحقيقه وتخريج أحاديثه أبو عمير مجدي عرفات المصري باسم (( شفاء العيّ بتخريج وتحقيق مسند الإمام الشافعي )) في مجلدين، نشر مكتبة ابن تيمية في القاهرة، وقدم له محدث الديار اليمانية شيخنا العلامة الإمام الحافظ أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله وأمتع به.

فظهر من هذا أن الجزم بأنه من تلاميذ الشافعي مما لا يحسن، فإن أبا عمرو بن مطر من شيوخ الحاكم، توفي سنة ستين وثلاثمائة (360)، وهو المقصود بقولهم: بعض النيسابوريين.

زيادة على ذلك ؛ فقد قال الكتاني في (( الرسالة المستطرفة )) (ص14): (( وقيل: جمعها الأصم لنفسه، فسمي (( مسند الشافعي )) )) اهـ. والأصم توفي سنة 346، وهو من تلامذة الربيع تلميذ الشافعي، فظهر أنهم على شك واختلاف في تسمية الجامع للمسند، فكيف جزم به الشارح ولم يجزم به هؤلاء الحفاظ؟! وها هو البيهقي في كتابه السابق (ص182) قال عقب حديثٍ: (( هكذا أخرجه أبو عمرو بن مطر أو غيره في (( المسند )) )) اهـ. على الشك ؛ للاختلاف في ذلك.

وقد ظهر من كلام البيهقي وابن حجر أنَّ (( المسند )) ليس جامعًا لجميع أحاديث الشافعي في كتبه، كما هي عبارة أخينا الشارح وإن لم يقصد هذا، فهو إذًا قصور شديد في التعبير أدى إلى خلل في المعلومة، وأما أنه من جميع كتبه وجميع أحاديثه فظاهر البطلان.

تنبيه: وللأمانة العلمية التي ننشدها من الجميع أقول: وجدت الأخ سعدًا في (( الفتاوى الحديثية )) (1|200) تكلم عن (( المسند )) للشافعي، فقال: (( أقول: هذا الكتاب المسمى بمسند الإمام الشافعي هو صحيح بالنسبة لرواية الشافعي لهذه الأحاديث، ولكن الشافعي لم يؤلِّف هذا (( المسند ))، وإنما ألفه أحد الخراسانيين، فقد استلَّه من كتب الشافعي، كالأم وغيره، وكل حديث يأتي به الشافعي بسنده يأتي به هذا ويرتبه على مسانيد، وسمي (( مسند الشافعي )) )).

قلت: أصاب لما ذكر أنه بعض الخراسانيين، ولكنه زاد القضية الثانية توكيدًا، وهي أن في (( المسند )) كل حديث أتى به الشافعي في كتبه، وهذا باطل كما تقدم في كلام الحافظ ابن حجر، والله أعلم بالصواب.

تنبيه ثان: أوقفني الشيخ الفاضل ساعد غازي على موضع في (( المعرفة )) (2|159) للبيهقي قال فيه: (( إلا أن أبا العباس الأصم لم ينقله إلى (( المسند )) )). وهذا قد يستأنس به من رجح أنه من جمع الأصم، كما رآه الشيخ أحمد البنا، كما سيأتي. والله أعلم.

ثالثـًا: قوله: (( وهكذا كتاب السنن )). السـؤال هو: هل يعني أن (( كتاب السنن )) جمعه نفس ذلك التلميذ؟ أم يعني أنه على نفس الحكم في كونه لم يجمعه الشافعي وإنما جمعه بعض طلبته؟ أم ماذا؟

فالحاصل أن العبارة هكذا لم تكن واضحة ولا شافية. فكتاب السنن هذا هل يقصد به رواية حرملة؟ أم رواية المزني؟ أم غيرهما؟

فقد ذكر البيهقي في كتابه السابق (ص152) حديثًا ثم قال: (( وقد أورده في كتابه (( السنن )) الذي رواه عنه المزني وغيره على الصحة، وبالله التوفيق )). و(( السنن )) من رواية المزني رواها عنه الطحاوي، وقد طبعت في مجلد بتحقيق عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى عام 1406 هـ.

وفي ترجمه أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى المصري حفيد حرملة صاحب الشافعي ذكره ابن حبان في كتاب (( المجروحين ))، وبعد أن ذكر ما قيل فيه واتهام بعضهم له بالكذب قال: (( فأما كتاب السنن التي رواها عن الشافعي فهي كلها صحيحة في نفسها من كتب حرملة من المبسوط أو سمع من جده تلك )) اهـ. وقد قال الدارقطني عن أحمد بن طاهر هذا: (( مصري يكذب )).

كما أن هناك كتاب (( السنن )) الذي ألفه عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، وهو متهم بالكذب. قال الذهبي في (( ميزان الاعتدال )) (2|495) رقم (4567): (( وقال الحاكم، عن الدارقطني: كذاب ! ألّف كتاب (( سنن الشافعي ))، وفيها نحو مائتي حديث لم يحدث بها الشافعي )). وأقرّ هذا الكلام الحافظ في (( لسان الميزان )) (4|133) رقم (4807)، وانظر ترجمته للفائدة.

كما أن كتاب (( السنن )) لحرملة كثر عزو العلماء إليه بما هو مذكور في كتب الشافعية، ومن فعل البيهقي في ذلك قوله في كتابه (( بيان خطأ من أخطأ على الشافعي )) عن حديثٍ (ص173): (( وكذلك رواه حرملة بن يحيى في كتابه السنن )) اهـ. وقال في (ص285) عن حديثٍ آخر: (( وقد روى المزني رحمه الله هذا الحديث في كتابه السنن على الصحة )) اهـ.

وبعد هذا أقول: أي سننٍ يقصدها الشارح بكلامه؟! وإن كان الظاهر عندي أنه يقصد (( السنن )) برواية المزني ؛ لأنها المشهورة والمطبوعة، ولكن لا بد من التوضيح، فإن المقصود من الدروس والشروح هو التعليم والإفهام لا التعمية والإبهام، والله الموفق لا رب سواه.

فائدة: وقد قام الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا الشهير بالساعاتي رحمه الله بالجمع بين هذين الكتابين للشافعي، وسماه (( بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن ))، ووضع عليه شرحًا سماه (( القول الحسن شرح بدائع السنن ))، وقد طبعا في مجلدين لمكتبة دار الفرقان في القاهرة، ورجح رحمه الله أن الجامع للمسند هو أبو العباس الأصم، فراجعه، والله الموفق.

 

2- قال الشارح: (( بداية التأليف في علم مصطلح الحديث: الإمام مسلم في مقدمة (( صحيحه ))، وهي من أوائل ما كتب في علم مصطلح الحديث )) اهـ (ص6).

وأقول: حبذا لو كان الشارح نبه إلى أنَّ الإمام الشافعي كان أسبق من الإمام مسلم في ذلك في كتابه (( الرسالة ))، فكما أن (( الرسالة )) من أول ما صنف في أصول الفقه، فإنها كذلك من أوائل ما ألف في أصول الحديث وقواعده، وتحدث الإمام الشافعي عن مباحث في (( الرسالة )) لم يتعرض لها مسلم.

وقد قال البيهقي رحمه الله: (( ومن نظر في علومه ووقف على أصوله وفروعه بالنَّصَفَة استغنى عن جواب مثلي عنه، فله في كتاب (( الرسالة )) وغيرها في معرفة الحديث فصول لم يسبق إليها، وعنه أخذها أكثر من تكلم في هذا النوع من العلم في وقته وبعده، رحمهم الله تعالى، كعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل وغيرهما )). (( بيان الخطأ )) (ص335). قلت: ومن نظر في (( الرسالة )) وجد ذلك لا محالة، ففيها من الكلام عن أصول علم الحديث روايةً ودرايةً الشيء الذي ينفع الله به طالب العلم، ويثبته على هذا السبيل، والله الموفق.

 

3- قال الشارح: (( فمثلاً النووي رحمه الله اختصر مقدمة ابن الصلاح في كتابه (( التقريب ))، ثم جاء بعده السيوطي فشرح (( التقريب )) في (( تدريب الراوي )) )) اهـ ( ص8).

قلت: هذه العبارة تعوزها الدقة العلمية، فإن (( التقريب )) للنووي إنما هو اختصار لكتابه (( الإرشاد )) الذي هو اختصار لكتاب ابن الصلاح، وفي ذلك يقول النووي نفسه رحمه الله: (( وهذا كتاب اختصرته من كتاب (( الإرشاد )) الذي اختصرته من (( علوم الحديث )) للشيخ الإمام الحافظ المتقن أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح )). (( التقريب )) مع (( تدريب الراوي )) (1|59). ت| الفاريابي.

وما ذكره النووي هو الأدق في التعبير، والأصوب في التعريف، كما أفادنا النووي أن كتاب ابن الصلاح اسمه (( علوم الحديث )) وليس كما اشتهر باسم (( مقدمة ابن الصلاح ))، والشارح مشى على غير الصواب في اسم الكتاب أيضًا.

 

4- قال الشارح - عند قول الحافظ: (( فسألني بعض الإخوان )) -: (( فمن جملة من سأل الحافظ ابن حجر الزركشي، وهو أحد تلاميذه )). (ص10).

قال مقيده - عفا الله عنه -: هذا الكلام يحتاج إلى إيضاح وبيان، فالزركشي هذا هو القاضي المقرئ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر البغدادي الزركشي. قال السيوطي: (( أصله من شيراز، ثم سكن القاهرة، أتقن القراءة والعروض، مات في ذي الحجة سنة ثلاثين وثمانمائة )). (( حسن المحاضرة )) (1|441). أي قبل الحافظ ابن حجر بنحو اثنين وعشرين عامًا. وذكر السخاويُّ الزركشيَّ هذا في شيوخ الحافظ ابن حجر، وجعله في القسم الثالث من شيوخه، وهم من وصفهم بقوله: (( الثالث: فيمن أخذ عنه - أي ابن حجر - مذاكرةً أو إنشادًا، أو سمع خطبته أو تصنيفه، أو شهد له ميعادًا، وربما يكون في كل منهما - أي هذا القسم والذي قبله - من تلمذ له، وعنه استفاد، على جاري العادة بين الحفاظ والنّقاد )). (( الجواهر والدرر )) (1|200). وذكره باسمه (ص236). ثم ذكره السخاوي في الباب الثامن في سرد جماعة ممن أخذ عن الحافظ دراية أو رواية، وقال: (( محمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر، الشمس الزركشي، المترجم في معجم صاحب الترجمة، والد عبدالصمد، سمع عليه بعض (( تغليق التعليق )) في سنة ثمان وثمانمائة )). المصدر السابق (3|1162) رقم (532).

وهناك زركشي حنبلي وزركشي شافعي، ولكنهما أقدم وفاةً من هذا، فالأول توفي سنة 772، والثاني سنة 794. كما أن الزركشي هذا إنما سأل ابن حجر تصنيف (( النـزهة )) لا (( النخبة ))، والشارح يتكلم عن (( النخبة )). وهذا أفاده السخاوي حيث قال متحدثًا عن (( النـزهة )) بعد (( النخبة )): (( شرحها المسمى (( نزهة النظر )) في مجلد لطيف، دمجها فيه، وتنافس الفضلاء من أبناء العرب والعجم في تحصيله والاعتناء به … وكان التمس منه تصنيفه صاحبُه الشيخ شمس الدين الزركشي والد عبدالصمد )) اهـ. المصدر السابق (2|677ـ 678).

ولذا قال الحافظ: (( فرغب إلىّ جماعة ثانيًا أن أضع عليها - (( النخبة )) - شرحًا يحلّ رموزها … الخ )). (( النـزهة )) (ص52). ط. الحلبي. ومِنْ هؤلاء الزركشي السابق ذكره، فلا يخلط بين الكتابين، والطلبين، والرغبتين، والله الموفق.

 

 

5- قال الشارح - وفقه الله - متحدثًا عن (( كشف الخفاء )) للعجلوني: (( لأنه حاول أن يختصر كتاب السخاوي وزاد عليها بعض الأحاديث )). (ص20-21).

قال مقيده - غفر الله له -: هذا التعبير فيه قصور من وجهين:

الأول: قوله: (( حاول أن يختصر ))، وكأنه لما يفعل أو لما يحقق ما حاوله ورام إليه وقصد إليه، مع أن العجلوني قال: (( ومن ثم لخصته في هذا الكتاب، مقتصرًا على مخرج الحديث وصحابيه، رومًا للاختصار غير مخل إن شاء الله تعالى بما اشتمل عليه مما يستطاب أو يستحسن عند أئمة الحديث الأخيار )). (( كشف الخفاء )) (ص7).

فأقول: العجلوني فعلاً اختصر ولخّص وزاد وأضاف، ولم يحاول فحسب !

الثاني: قوله: (( بعض الأحاديث )). وهذا قصور عجيب في التعبير كيف يقال: (( بعض ))، وقد زاد (1925) حديثًا؟! فهل هذا (( بعض ))؟! والله المستعان.

وإني لآسف أن يكون ( أبو غدة ) أدقَّ تعبيرًا منك عندما قال في كتابه (( لمحات من تاريخ السنة )) (ص231): (( وقد زاد فيه على كتاب السخاوي زيادة كبيرة من الأحاديث الموضوعة وغيرها )).

 

6- قال الشارح - عفا الله عنه -: (( العزيز: ما رواه راويان، ولو في طبقة من طبقات السند )). ( ص21).

قال مقيده - كان الله في عونه -: لو قيّد الشارح هذا التعريف بالعزيز المقيد، أي يقال: عزيز من حديث فلان، الراوي الذي روى عنه اثنان. أما إن قصد اختيار هذا التعريف للعزيز بإطلاق فكان عليه أن يشير إلى كلام العلماء في ذلك، وأقرب مصدر وكلام هو لابن حجر في (( النـزهة ))، فقد عرفه بقوله: (( وهو أن لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين )) (( النـزهة )) (ص64).

وقد ذكر الخلاف في ذلك السخاوي في (( فتح المغيث )) (4|6-8)، وذكر كلام شيخه ابن حجر ثم قال: (( وإذا تقرر هذا ؛ فما كانت العزة فيه بالنسبة لراوٍ واحدٍ انفرد راويان عنه يقيد فيقال: عزيز من حديث فلان، وأما عند الإطلاق فينصرف لما أكثر طباقه كذلك … )) الخ، فراجع كلامه وبحثه بطوله. المصدر السابق (4|7).

وعلى كلٍّ ؛ كان على الشارح أن يقيد، فإن اختار هذا التعريف للعزيز المطلق كان من حق الطالب والقارئ عليه أن يذكر الخلاف في ذلك على ما سبقت الإشارة إليه، والله الموفق.

 

7- قال الشارح - وفقنا الله وإياه - وهو يذكر القرائن التي بها يفيد حديث الآحاد العلم النظري: (( القرينة الرابعة: صحة الإسناد، فإن صحة الإسناد تجعلنا نقول: إن الحديث يفيدنا العلم النظري )). (ص28).

قال مقيده أبو العباس - وفقه الله -: ظاهر صنيع الشارح (ص26) وقوله: (( والحافظ ابن حجر يرى أن أحاديث الآحاد قد تفيد العلم النظري بالقرائن، وهذه القرائن أنواع … )) الخ.

أقول: ظاهر هذا أن الحافظ هو الذي عدّ هذه القرائن قائلاً بها، وبالرجوع لشرح الحافظ - وهو (( النـزهة )) - نجده لم يذكر إلا ثلاثًا، ثم أعادها ملخصة (ص78)، وتفرد أخونا الشارح فزاد القرينة الرابعة، وهي صحة الإسناد ! والذي يعرفه صغار الطلبة أنّ الخلاف في حديث الآحاد هل يفيد العلم أم لا إنما هو في حديث الآحاد الذي صح سنده، وأما الضعيف فأوّل من قذف علينا هذه القذيفة هو فضيلة الشارح كما هو بيّن واضح من كلامه.

ثم هذا الكلام في القرينة الرابعة غريب عجيب مضطرب متناقض ! فها هو الشارح قبل ذلك (ص27) تحدث فقال عن القرينة الثانية: (( فهذه الطرق إذا كانت صحيحة فكل واحدةٍ منها إذا انضمت للأخرى … )) الخ كلامه.

إذًا ؛ فالقرينة الثانية - وهو تعدد الطرق - يُشترط كونها صحيحة، فكيف تكون صحة السند بعد ذلك قرينة؟ وهل إذا جاء حديث آحاد صحيح الإسناد يكون عند الشارح مفيدًا للعلم، بل وعند ابن حجر كما نسبه إليه الشارح؟! الجواب له هو !

و مسألة حكم حديث الآحاد - ومتى يفيد العلم ومتى لا يفيد؟ - فيها كلام لأهل العلم، فمنهم من ذهب إلى إفادته العلم مطلقًا، كما اختاره ابن حزم، وانظر كلام الشيخ أحمد شاكر في (( الباعث ))، ومنهم من قال بإفادته لذلك إذا احتفت به القرائن، ولكن هذا كله بعد صحة سنده وثبوته، فليست الصحة إذًا من القرائن، فافهم !

 

8- ذكر الشارح وفقه الله (ص30) حديث علي في المذي مستدلاّ به على قبول علي لخبر الواحد، وأيضًا مدلّلاً به على ضعف حديثه الآخر في الاستحلاف والتوثق الذي خرجه القائم على نشر الكتاب أبو عبيدة جزاه الله خيرًا. وأقول:

أولاً: هذا الحديث قد اختلفت فيه أقوال الأئمة ؛ فقد حسنه الإمام الذهبي في (( تذكرة الحفاظ )) (1|11)، وهو ظاهر صنيع المزي في (( تهذيب الكمال )) (2|534-535)، فقد رد على البخاري في تضعيفه، وذكر للحديث طرقًا أخرى، وجَوَّد الحديث موسى بن هارون كما في (( التهذيب )) لابن حجر، وابن عدي في (( الكامل )) (1|431)، وقال: (( وهذا الحديث طريقه حسن، وأرجو أن يكون صحيحًا )). وتبعهم الإمام الألباني فحسنه كما نقله المعتني بالكتاب.

لكن ضعف الحديث إمام الصنعة البخاري كما هو ظاهر صنيعه في (( التاريخ الكبير )) (2|54)، وتبعه العقيلي (1|123)، ونصَر ضعف الحديث ابنُ حجر، ورد على المزي تقويته للحديث في (( التهذيب )) (1|171)، وقال عن المتابعات التي أوردها المزي: (( قلت: والمتابعات التي ذكرها لا تشد هذا الحديث شيئا ؛ لأنها ضعيفة جدًّا )).

قال أبو العباس: أسماء غير مشهور بالرواية عن علي، وقليل الحديث جدًّا ؛ ذكروا له حديثين فقط، مع كونه ممن يخطئ فيحتاج إلى متابعة صحيحة، وهذا ما لا يوجد كما تقدم في كلام ابن حجر، والله أعلم. وكان ذكر ما تقدم من باب زيادة الفائدة.

ثانيًا: لأهل العلم موقف تجاه هذا الحديث والاستدلال به على قبول خبر الواحد ؛ لروايات أخرى فيها وجود عليٍّ وحضوره عند السؤال:

فقال ابن دقيق العيد في (( إحكام الأحكام )) (1|77): (( ومع هذا فالاستدلال عندي لا يتم بهذه الرواية وأمثالها ؛ لجواز أن يكون المقداد سأل رسول الله عن المذي بحضرة علي فسمع علي الجواب، فلا يكون من باب قبول خبر الواحد، وليس من ضرورة كونه سأل عن المذي بحضرة علي أن يذكر أنه هو السائل. نعم ؛ إن وجدت رواية مصّرحة بأن عليًّا أخذ هذا الحكم عن المقداد ففيه الحجة )) اهـ. وقال ابن حجر: (( واستدل به بعضهم على جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، وهو خطأ ؛ ففي النسائي أن السؤال وقع وعلي حاضر )). (( الفتح )) (1|278). وقال في موضع آخر: (( والظاهر أن عليًّا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد )). (( الفتح )) (1|452). ثم توسَّع في نقل الروايات ومن جمع بينها من العلماء، فارجع إليه وتأمله، والله الموفق لا رب غيره.

 

9- ذكر الشارح (ص33) قصة نصيحة أبي حاتم الرازي لسفيان بن وكيع، ولكن بالرجوع إلى المصدر في (( الجرح والتعديل )) (4|231-233) ظهرت فروق بين الأصل وما ذكره الشارح، إلا أن يكون نقلها من مصدرٍ آخر، وإن كان الغالب أنها من (( الجرح والتعديل )). وذكر الشارح التصريح بأبي زرعة مع أبي حاتم، كما ذكر أنهما قالا: (( نميز صحيح حديثك من سقيمه )).

وأذكر هنا القصة كما رواها ابن أبي حاتم ؛ ليظهر أن الأخ الشارح يتجوَّز كثيرًا في نقل القصص والوقائع والأقوال، اعتمادًا على الحفظ وليس من أهله، والأولى له ولأمثاله الرجوع - وبكثرة - إلى المصادر الأصلية لتوثيق المعلومات وتصوُّرِها قبل طرحها على الطلبة والقراء سماعًا وقراءة، أشرطة وكتبًا.

قال ابن أبي حاتم: (( سمعت أبي يقول: جاءني جماعة من مشيخة الكوفة فقالوا: بلغنا أنك تختلف إلى مشايخ الكوفة تكتب عنهم وتركت سفيان بن وكيع، أما كنت ترعى له في أبيه؟ فقلت لهم: إني أوجب له، وأحب أن تجري أموره على الستر، وله ورّاق قد أفسد حديثه. قالوا: فنحن نقول له أن يبعد الورّاق عن نفسه. فوعدتهم أن أجيئه، فأتيته مع جماعة من أهل الحديث وقلت له: إن حقك واجب علينا في شيخك وفي نفسك، فلو صنت نفسك وكنت تقتصر على كتب أبيك لكانت الرحلة إليك في ذلك، فكيف وقد سمعت؟ فقال: ما الذي ينقم عليّ؟ فقلت: قد أدخل ورّاقك في حديثك ما ليس من حديثك ! فقال: فكيف السبيل في ذلك؟ قلت: ترمي بالمخرجات وتقتصر على الأصول ولا تقرأ إلا من أصولك، وتنحي هذا الورّاق عن نفسك، وتدعو بابن كرامة وتوليه أصولك فإنه يوثق به. فقال: مقبول منك. وبلغني أن ورّاقه قد أدخلوه بيتًا يتسمع علينا الحديث، فما فعل شيئًا مما قاله، فبطل الشيخ، وكان يحدث بتلك الأحاديث التي قد أدخلت بين حديثه )) اهـ.

فهذا نص الواقعة ؛ وقد يقول قائل: ومن بإمكانه حفظ هذا؟ أقول: من لم يحفظها فليروها بالمعنى، فليست بأجل من الحديث النبوي، ولكن يتحرى الصواب والصدق فيها، فأين أبو زرعة؟ وأين قوله: (( نميز صحيح حديثك ))؟! إنما أمروه بالرجوع إلى أصوله وتنحية الورّاق، والله الموفق وحده.

 

10- كما أنه - أصلحه الله - لما تحدث عن عبد الله بن صالح كاتب الليث قال (ص33): (( فأصبح يحدث بالمناكير، فأسقطوا حديثه لهذا السبب )).

قلت: لو أنه أشار إلى التفصيل في حاله، والفرق بين رواية النقاد عنه ورواية غيرهم، وما ذكر من رواية البخاري عنه، بل وإكثاره عنه، وأن أكثر تعليقاته في (( صحيحه )) التي عن الليث بن سعد هي عن أبي صالح عبد الله بن صالح ! وأنصح بمراجعة ما كتبه الحافظ ابن حجر في (( هدي الساري )) (ص434-435) حول رواية عبد الله بن صالح، فإن الأخ سعدًا لا يسلك مسلك علماء هذا الفن من التفصيل والبيان فيمن يستحق ذلك من الرواة كما سبق. وسيأتي عند الحديث عن حماد بن سلمة زيادة بيان لهذا، والله الموفق.

 

(قال الفقير إلى ربه: هذا كلام فيه مبالغة، والكلام التالي عن حماد قد حذفته لما فيه من اتهام الشيخ بالخبط والخلط والكذب بإسلوب فج غير علمي)

 

11- قال الشارح - عفا الله عنا وعنه - (ص 36): (( وهذه الرواية والرواية التي قبلها لا تعتبر من الدرجة العليا من الصحيح ؛ لأن هناك من تكلم في مثل هؤلاء الرواة، فرواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس لم يحتج بها، وإنما اعتبروها في الشواهد والمتابعات، وأما مسلم فاحتج بها )) اهـ.

 

(الباقي حذف)

 

12- قال الشارح (ص36): (( الحديث الصحيح إذا كان رجاله رجال البخاري ومسلم فهو صحيح على شرط البخاري ومسلم )).

أقول - وبالله التوفيق -: هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح، بل هو خطأ، فإنه لو جاءنا حديث رجاله من رجال البخاري ومسلم - أي روى لهم البخاري ومسلم - لا نقول: على شرطهما، إلاّ إذا كان الحديث على الصفة التي روى له الشيخان. ولذا نبه العلماء على أوهام الحاكم في (( المستدرك )) مما يقول: على شرطهما، وليس كذلك.

ومن ذلك ما قاله الإمام الزيلعي في (( نصب الراية )) (1|342): (( بل الحاكم كثيرًا ما يجيء إلى حديث لم يخرج لغالب رواته في الصحيح، كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس، فيقول فيه: هذا حديث على شرط البخاري، يعني: لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضًا تساهل، وكثيرًا ما يخرج حديثًا بعض رجاله للبخاري وبعضهم لمسلم، فيقول: هذا على شرط الشيخين، وهذا أيضًا تساهل، وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا الصحيح عن شيخ معين لضبطه حديثه وخصوصيته به، ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه، أو لعدم ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه، أو لغير ذلك، فيخرج هو عن غير ذلك الشيخ، ثم يقول: هذا على شرط الشيخين، أو: البخاري، أو: مسلم، وهذا أيضًا تساهل ؛ لأن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما، وهذا كما أخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال وغيره، ولم يخرجا حديثه عن عبدالله بن المثنى، فإن خالدًا غير معروف بالرواية عن ابن المثنى. فإذا قال قائل في حديثٍ يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى: هذا على شرط البخاري ومسلم، كان متساهلاً )) اهـ.

وقال الإمام أبو عبدالله ابن القيم في (( تهذيب السنن )) (5|325-326): (( فهذه طريقة أئمة الحديث العالمين بعلله: يصححون حديث الرجل ثم يضعفونه بعينه في حديث آخر إذا انفرد أو خالف الثقات، ومن تأمل هذا وتتبعه رأى منه الكثير، فإنهم يصححون حديثه لمتابعة غيره له، أو لأنه معروف الرواية صحيح الحديث عن شيخ بعينه ضعيفها في غيره. وفي مثل هذا يعرض الغلط لطائفتين من الناس:

طائفة تجد الرجل قد خرج حديثه في الصحيح وقد احتج به فيه فحيث وجدوه في حديث قالوا: هذا على شرط الصحيح ! وأصحاب الصحيح يكونون قد انتقوا حديثه، ورووا له ما تابعه فيه الثقات ولم يكن معلولاً، ويتركون من حديثه المعلول وما شذ فيه وانفرد به عن الناس وخالف فيه الثقات، أو رواه عن غير معروف بالرواية عنه، ولا سيما إذا لم يجدوا حديثه عند أصحابه المختصين به، فإن لهم في هذه نظرًا واعتبارًا اختصوا به عمن لم يشاركهم فيه، فلا يلزم حيث وجد حديث مثل هذا أن يكون صحيحًا، ولهذا كثيرًا ما يعلل البخاري ونظراؤه حديث الثقة بأنه لا يتابع عليه.

والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تكلم فيه بسبب حديث رواه وضعف من أجله، فيجعلون هذا سببًا لتضعيف حديثه أين وجدوه ! فيضعفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بالحديث بصحته.

وهذا باب قد اشتبه كثيرًا على غير النقاد )) اهـ.

فافهم ما تقدم، والله أعلم.

 

13- قال الشارح - في تعريف الحديث الحسن - (ص39): (( هو ما اتصل سنده بنقل العدل خفيف الضبط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة )).

أقول - وبالله التوفيق -: قوله: (( خفيف الضبط عن مثله إلى منتهاه )) يعطي أن يكون خفيف الضبط عن خفيف الضبط. هذا الذي يعرفه أدنى قارئ لهذه العبارة، وكون هذا هو الحسن باطلٌ قطعًا، ولا يرتضيه الشارح نفسه، ولهذا لما جاء الشارح ليطبق المثال لم يكن في سنده إلا خفيف ضبط واحد، وهو ابن إسحاق ؛ لذا قال ( ص40): (( فإسناد الحديث كله ثقات ما عدا محمد بن إسحاق، فقالوا: صدوق حسن الحديث، فهذا الحديث يصلح أن يكون مثالاً للحديث الحسن لذاته )). إذًا ؛ ظهر أن الحديث الحسن هو الذي يكون في سنده خفيف ضبط، بخلاف ما يعطيه التعريف الذي ذكره الشارح، فأصاب في التمثيل وأخطأ في التعريف، ولعله تبع في هذا الخطأ في التعريف محمودًا الطحَّان في كتابه (( تيسير مصطلح الحديث )) (ص46) حيث جعله التعريف المختار، فلعل الشارح أخذه منه.

ولما قال ابن حجر في (( النـزهة )) ( ص91): (( فإن خف الضبط … - والمراد: مع بقية الشروط في حد الصحيح - فهو الحسن لذاته )). علق العلامة الإمام الألباني رحمه الله قائلاً: (( هذا التعريف على إيجازه أصح ما قيل في الحديث الحسن لذاته، وهو الذي توفرت فيه جميع شروط الحديث الصحيح المتقدمة، إلا أنه خف ضبط أحد رواته )) اهـ. إذًا ؛ فلا يقال: (( عن مثله )) ! فتأمل، والله الموفق.

وهنا تنبيه: وهو أن المثال الذي ذكره الشارح - وفقه الله - صار حسنًا لتصريح محمد بن إسحاق بالتحديث، وأما إذا كان بالعنعنة فلا يصح التمثيل به كما قد فعله بعضهم، وذلك لتدليس ابن إسحاق.

 

14- قال الشارح (ص40): (( فإذا جاء الحديث الحسن لذاته من طريق آخر حسن لذاته، أو من طريق آخر صحيح، فبمجموع هذين الطريقين يرتقي من الحسن لذاته إلى درجة الحديث الصحيح لغيره، ولذلك قال الحافظ: وبكثرة طرقه يصحح. )) اهـ.

قال أبو العباس - غفر الله له -: ما الذي جعلك تدخل الصحيح لذاته هنا وأنه مما يرفع الحسن إلى صحيح لغيره؟ والمعلوم أن الصحيح لذاته أقوى من الصحيح لغيره غالبًا، فكيف يكون الحديث الذي أحد طرقه صحيح لذاته صحيحًا لغيره؟! فهذا خطأ محض لا أدري ما الذي دفعك إليه، ولو تأملت قليلاً في عبارة الحافظ لبان لك الصواب، فهو يقول: (( وبكثرة طرقه ))، فالهاء ضمير يعود إلى الحسن لذاته، فتأمل. وانظر شرح الحافظ لعبارته هذه في (( النـزهة )) (ص92) يظهر لك خطؤكَ، والله الموفق.

 

15- عرّف الشارح الشاذَّ (ص43) بقوله: (( ما يرويه الثقة مخالفًا من هو أوثق منه )). وقد كان عرفه (ص33) بذلك، ولكنه هناك أشار إلى اختلاف العلماء. وبما أنه يشرح (( النخبة )) كان الأولى الإشارة إلى مذهب مؤلفها ابن حجر، والشاذ عنده: مخالفة المقبول - أي راوي الصحيح والحسن - لمن هو أوثق منه. فلو قلت: مخالفة الثقة، لا أدري ما حكم راوي الحسن عندك؟ لأنك لما عرفت الحديث المنكر (ص43) قلت: (( ما يرويه الضعيف مخالفًا لمن هو أوثق منه )). فالشاذ للثقة، والمنكر للضعيف، فأين الصدوق أو خفيف الضبط راوي الحسن؟

ولذا لما قال ابن حجر: (( وزيادة راويهما )). قلتَ: أي إذا زاد الراوي الذي حديثه حديث صحيح أو حسن. فأصبت في تفسير كلامه، ولكن لنا سؤال وهو: ما هو الشاذ عنده لأنك تشرح كتابه؟ وما حكم مخالفة راوي الحسن عندك؟ والله الموفق.

 

16- عرف الشارح وفقنا الله وإياه (ص44) المعروف قائلاً: (( ما رواه الثقة مخالفًا لما رواه الضعيف )).

وهذا كالذي قبله، فمذهب صاحب الكتاب - وتابعه جماعة - أنه ما رواه الثقة ( راوي الصحيح ) أو الصدوق ( راوي الحسن ) … الخ، والله الموفق.

 

17- قال الشارح (ص49): (( فمختلف الحديث: هو الحديث الذي اختلفت طرقه مع إمكان الجمع بينها )).

وأقول: يا شيخ سعد ! ما أدري ما أعتذر لك به؟ هل هذا هو تعريف مختلف الحديث؟ في أي كتاب وجدته؟ وعن أي عالم أثرته؟ فهل الحديث الذي مثلت به (( لا عدوى ))، وحديث (( فِرَّ من المجذوم )) حديثٌ واحد اختلفت طرقه؟ ما هذا يا شيخ؟ حقًّا إن هذا لأمر مؤسف !

والصواب في تعريفه أن مختلف الحديث: هو الحديثان أو أكثر التي صح سندها وكان ظاهرها التعارض بالنسبة للناظر لا في نفس الأمر، فيجمع بينها أو يرجح ما ترجح منها بوجه من أوجه الترجيح المعتمدة عند أهل العلم. قال النووي في (( التقريب )) (32): (( وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرًا، فيوفَّق بينهما، أو يرجح أحدهما )).

ولو تأملت عبارة الحافظ لدللت على الصواب، وأنصحك بمراجعة كتب المصطلح عند هذا النوع من علوم الحديث، والله الموفق.

 

18- مثل الشارح (ص50) بحديث: (( بسم الله توكلاً على الله )). قاله لما أكل مع المجذوم، ولكن هذا لا يصح كما بينه الناشر جزاه الله خيرًا، فلا يصلح للتمثيل ويُكتفى بما صح.

 

19- قال الشارح - عفا الله عنه - (ص50): (( فالحافظ ابن حجر يرى أنه ليس هناك تعارض أصلاً )).

وأقول: هذا خطأ على الحافظ، فإذا كان لا يرى التعارض أصلاً كما زعمتَ فلماذا يحاول الجمع بينهما؟ وأكتفي بالرد على هذا الخطأ بنقل كلامه والله المستعان يا شيخ ! قال ابن حجر في (( النـزهة )) (ص103) - بعد أن ذكر حديث: (( لا عدوى ))، وحديث: (( فرَّ من المجذوم )) -: (( وكلاهما في الصحيح، وظاهرهما التعارض، ووجه الجمع بينهما... ))، ثم ذكر الجمع عند ابن الصلاح، ثم عقبه بما يراه. فراجعه يا شيخ ! وأنا أسألك مرةً أخرى: كيف يجمع الحافظ إن لم يكن عنده في الظاهر تعارض؟ فأرجو يا أخي أن تستعين بشرح الحافظ على متنه، وكما قال الحافظ نفسه (ص52): (( لأن صاحب البيت أدرى بما فيه )).

فلو أنك جعلت شرح الحافظ هو الأصل في درسك ؛ لكان أصون لنفسك، وأقل لوهمك وخطئك، ولكن يفعل الله ما يشاء.

 

20- قال الشارح (ص56): (( 4- النافي مقدَّم على المثبت )).

وأقول: هذا سبق لسان، وإلا فالمُثبِت مقدَّم على النافي غالبًا.

 

21- قال الشارح (ص63): (( فيمكن قبوله بشرط أن تنظر إلى شيوخ أبي عثمان النهدي هل فيهم أحد أخذ عنهم سعيد بن المسيب، فإذا نظرت وجدت أن هناك قيس بن أبي حازم روى عنه سعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي )) اهـ.

قلت: راجعت فيما تحت يديَّ من المصادر - مثل (( تهذيب الكمال )) للمزي، و(( الجرح والتعديل ))، وغيرهما - ترجمة سعيد فلم أجد ذكر قيس من شيوخه، فليت الشارح يدلُّنا على وجود مثل هذه المعلومة لنستفيد وإلا …

وإن ذكر المزي في (( التهذيب )) (24|13) عيسى بن المسيب البجلي من الرواة عن قيس، فهذا عيسى لا سعيد، كما أن قيسًا وأبا عثمان من المخضرمين كما ذكره الشارح (ص69).

 

22- ونحو هذا ما قاله الشارح (ص63): (( ونظرت فإذا شيوخ عبيدة السلماني لم يأخذ عنهم سعيد بن المسيب )).

وأقول: قد اشتركا في الرواية عن علي ، فرواية عبيدة عن علي عند الجماعة. ورواية سعيد عن علي رمز لها في (( تهذيب الكمال )) (11|68): ( خ م ت س ق )، أي: الجماعة إلا أبو داود. والله الموفق. فإن كان يقصد من غير الصحابة فليوضح.

 

23- قال الشارح (ص65): (( فالانقطاع حينما يكون خفيًّا يدركه كل أحد... )) الخ.

قلت: حصل سقط وتغيير في هذا النص، ولم أجعله في تصويب الأخطاء المطبعية ؛ لأني وجدت العبارة كلها مضطربة جدًّا يظهر لمن تأملها، ولا أجدني بحاجة لنقلها وتبيينها فقرةً فقرةً، والله يوفق الشارح لاستدراك ذلك.

 

24- لما قال الشارح (ص78): (( مثالٌ آخر: سمع أحدهم نزاعًا بين المحدثين... )) الخ. فعلق المعتني بالكتاب قائلاً: (( وهو مأمون بن أحمد الهروي السلمي من مشاهير الكذابين )).

قلت: هكذا عينه المعتني بالكتاب، وذكر المصادر (( ميزان الاعتدال )) و(( المجروحين )). رجعنا إلى المصدرين السابقين فلم نجد من ذلك شيئًا ! وإنما الصواب أن واضع هذا الحديث هو أحمد بن عبد الله بن خالد الجويباري كما تجده في (( ميزان الاعتدال )) (1|108)، والله المستعان. وهذا محسوب على المعلِّق لا على الشارح، ولم أحب ترك هذا التنبيه.

 

25- قال الشارح - عفا الله عنه - (ص89) عن سليمان بن عمرو أبي داود النخعي: (( ولو رجعنا إلى ميزان الاعتدال لوجدنا أكثر من ثلاثين عالمًا رموه بالكذب ووضع الحديث )).

قال مقيده - عفا الله عنه -: قد رجعنا إلى (( ميزان الاعتدال )) (2|216-218) فما وجدنا الثلاثين ! فلماذا المبالغة؟ أم هو عدم ضبط المعلومات الذي عهدته منك في شرحك هذا؟ بل هم: أحمد، ويحيى، وقتيبة، وإسحاق، والبخاري - وقال: متروك -، ويزيد بن هارون، وابن حبان، والحاكم، وشريك، والذهبي.

فهم ثُلث من ذكرت ! فلماذا المبالغة في العدد؟ ويكفي قول ابن عدي: أجمعوا على أنه يضع الحديث. أما عدد (( ثلاثين )) بله أكثر فلم نجد يا شيخ في المصدر المذكور ! والله المستعان.

 

26- ذكر الشارح (ص96) قصة البخاري ومسلم وقال: (( فأخذ مسلم يُقبِّل رجليه ويطلب منه أن يبين علة هذا الحديث، فبين له البخاري علة هذا الحديث، والقصة مشوِّقة، وهي في كتاب النكت على ابن الصلاح )) اهـ.

أقول: رجعنا إلى (( النكت )) (2|716- فما بعد) وقد خرَّج الحافظ القصة وبيَّن بعض أوهامٍ للحاكم فيها، وتكلم على الحديث، ولكنا وجدنا فيها سلمك الله: أن في رواية الحاكم لها - وهي منتقدة -: (( دعني حتى أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين ! … )) الخ. فطلب فحسب، وليس فيها أنه أخذ يُقبل رجليه كما ادعاه الشارح، وللحافظ ملاحظات على رواية الحاكم للقصة، ثم خرَّجها من (( الإرشاد )) للخليلي، وفيها: (( وقبَّل رأسه وكاد أن يبكي )).

فالحاصل: لم نجد فيها فعلَ تقبيل الرجلين، وهذا - كما تقدم في موضع سابق - من تصرفات وزيادات غير لائقة من الشارح في الوقائع والقصص. والقصة في (( الإرشاد )) (3|960-961)، و(( المعرفة )) للحاكم (ص114). وقد تكلم فيها العراقي ونقدها سندًا ومتنًا في (( التقييد والإيضاح )) (103)، وذهب إلى ضعفها، وخالفه الحافظ في (( النكت ))، فراجعه.

 

27- قال الشارح (ص96): (( الحديث الذي فيه أن الخرور على اليدين في الصلاة هو السنة ظاهر الحديث أنه حسن الإسناد ؛ لكن البخاري قال عنه: منكر )).

قلت: لم يذكر الأخ الشارح أي حديث هذا الذي يقصده، والذي يغلب على الظن أنه يريد ما رواه البخاري في (( التاريخ الكبير )) (1|139) رقم (418) وقال عقبه: (( ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا )). وهو حديث أبي هريرة، فليس فيه قول البخاري: (( منكر )) ! فإذا كان عند أخينا موضع آخر لحديث آخر، أو كلام آخر للبخاري في هذا الحديث فليطلعنا عليه، والله أعلم.

 

28- قال الشارح (ص100) عن حديث: (( من كثرة صلاته )): (( وهذا الحديث بهذا الإسناد قد يحسنه بعض العلماء ؛ لأن ثابتًا صدوق وشريكًا صدوق في حفظه كلام، فقد يحسن الحديث بعض العلماء، وفي الحقيقة أن هذا الحديث موضوع بطريق الخطأ )) اهـ.

قلت: هذا الحديث بهذا الطريق من أين يأتي تحسينه؟ ومَنْ مِنْ العلماء حسنه بهذا الإسناد فقط؟ وثابت بن موسى كذَّبه ابن معين، وأمسك أبو حاتم وأبو زرعة الرواية عنه، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. (( الجرح )) (2|458). وفي (( تهذيب الكمال )) (4|379) عن محمد بن عبد الخضري: (( وكان ثقة يخضب )). وقال ابن حجر في (( التقريب )) رقم (839): (( ضعيف الحديث )). فقول الأخ: (( صدوق )) فيه نظر !

وأما الحديث بطرقٍ أخرى فله طرق حاول السيوطي حشدها في (( اللآلي المصنوعة ))، وهي بحاجة لتتبع ونقد (2|29-30)، وهو تبع القضاعي وزاد عليها طريقًا آخر. كما رواه البيهقي بهذا السند في (( الشعب )) (3|129) رقم (3095)، ونقل (ص130) قال: (( قلت لمحمد بن عبد الله بن نمير: ما تقول في ثابت بن موسى؟ قال: شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة )). فهذا ثناء في دينه، وذلك جرح في حفظه وروايته، والله الموفق. وانظر: (( مسند الشهاب )) (1|252-258)، وما قاله السخاوي في (( فتح المغيث )) ( 1|311-314). وكن أيها القارئ على ذكر أن الشارح يتكلم عن طريق واحدة لا عن عدة طرق.

وقد ذكر القصة الخليلي رحمه الله في (( الإرشاد )) (1|168-169) - وهو يمثل لما تفرد به غير حافظ يضعف من أجله وإن لم يتهم بالكذب - فقال: (( ومثل هذا قد يقع لمن لا معرفة له بهذا الشأن ولا إتقان، وقد وقع لشيخ زاهد ثقة بالكوفة يقال له: ثابت بن موسى ؛ دخل على شريك بن عبدالله القاضي … )). فذكر القصة وقال: (( فظن ثابت أن ما تكلم به شريك من قبل نفسه هو حديث عن النبي بهذا الإسناد، فرواه عن شريك بعده، وسمع منه الكبار، وسرقه جماعة من الضعفاء فرووه عن شريك، وصار هذا حديثًا يُسأل عنه، والأصل فيه ما شرحناه )). ومعنى قوله: (( ثقة )) أي: لا يتعمد الكذب.

 

29– قال الشارح (ص107) عن شعبة وسفيان: (( وكلاهما إمام في الحديث، ولا نستطيع أن نرجح أحدهما على الآخر، فهما متساويان … )) الخ. وكررها (ص109): فقال: (( لأن شعبة وسفيان متساويان )).

وأقول - وبالله التوفيق -: ما ذكره الشارح غير صواب، ويدل على عدم درايته بمراتب الثقات والحفاظ من الأئمة، وعدم تمرس وقراءة في كتب الرجال، ولو رجع الأخ إلى ترجمة سفيان لما قال ما قال، وهاك بعض الأقوال في ترجيح سفيان على شعبة وتقديمه عليه. راجع فيها (( الجرح والتعديل )) (1|63ـ 68):

قال شعبة: إذا خالفني سفيان في حديث فالحديث حديثه.

وقال يحيى بن سعيد: ليس أحد أحب إليّ من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.

وقال أبو حاتم: أحفظ أصحاب الأعمش الثوري.

ورجح أحمد روايته عن الأعمش على شعبة.

وقال وكيع: ذكر شعبة حديثًا عن أبي إسحاق فقال رجل: إن سفيان خالفك فيه ! فقال دعوه، سفيان أحفظ مني.

وقال أحمد: سفيان أحفظ للإسناد وأسماء الرجال من شعبة.

وقال أبو حاتم: سفيان فقيه حافظ زاهد إمام أهل العراق وأتقن أصحاب أبي إسحاق، وهو أحفظ من شعبة، وإذا اختلف الثوري وشعبة فالثوري.

وقال أبو زرعة: كان الثوري أحفظ من شعبة في إسناد الحديث ومتنه.

فهذه أقوال الأئمة تبصرك بمراتب الثقات ومراتبهم.

ثم يا أخي ! إذا كنت لا ترجح أحدهما على الآخر فكيف جعلته من المزيد في متصل الأسانيد؟ وهل تعرف حقيقة المزيد في متصل الأسانيد؟ إنَّ حكمك على حديثٍ بذلك إقرارٌ منك بأن الذي لم يزد أتقن ممن زاد، وهو في المثال الذي ذكرته الثوري أتقن من شعبة، فهل عقلت هذا لما مثلت بمثالك؟!

وقال ابن حجر في (( النـزهة )) (ص126): (( ( أو إن كانت المخالفة بزيادة راوٍ ) في أثناء الإسناد، ومن لم يزدها أتقن ممن زادها (فـ ) هذا هو ( المزيد في متصل الأسانيد ). وشرطه أن يقع التصريح بالسماع في موضع الزيادة، وإلا فمتى كان معنعنًا مثلاً ترجحت الزيادة )).

وأقول: لعل الأخ الشارح لما تحدث في هذا النوع من علوم الحديث لم يفهم تعريفه السابق عن ابن حجر، أو أن عنده تعريفًا آخر فليفدنا به !

 

30- قال الشارح - هداه الله - (ص107): (( وأخذ من صنيع البخاري أنه قبل الحديثين واعتبر حديث شعبة من المزيد في متصل الأسانيد )).

أقول - وبالله التوفيق -: وهذا يؤكد ما سبق أن الشيخ الشارح ما عقل إلى الآن تعريف المزيد وشروطه، أو أن لديه تعريفًا آخر خلاف ما قاله الحافظ وغيره. فنسبة هذا إلى البخاري فيه نظر ؛ وهاكَ كلام ابن حجر حول الحديث الذي مثَّل به الشارح ؛ لتعرف مَن حكم عليه بأنه من المزيد ومن لم يحكم - ومنهم البخاري- ولماذا؟

قال الحافظ في (( الفتح )) (8|693): (( ورجح الحفاظ رواية الثوري، وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد. وقال الترمذي: كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة، وأما البخاري فأخرج الطريقين، فكأنه ترجح عنده أنهما جميعًا محفوظان، فحمل على أن علقمة سمعه أولاً من سعد ثم لقي أبا عبدالرحمن فحدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبدالرحمن فثبته فيه سعد )) اهـ.

وبعد هذا ؛ فأنصح بمراجعة ما كتب حول هذا النوع وشروطه في كتب الحديث، وإنما هي إشارات فقط، والمقام لا يسع أكثر من ذلك.

كما أن المثال الذي ذكره الشارح (ص108) للزيادة المردودة هو المثال الذي مثل به ابن الصلاح، وأقره ابن كثير، ومثل به أحمد شاكر في معرفة المزيد من متصل الأسانيد. انظر (( الباعث )) (2|485).

 

وللفائدة: أذكر مثالاً آخر، وهو حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال ، فقد رواه البخاري عن الليث بن سعد قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة... الحديث. قال الحافظ في (( الفتح )) (7|688-689): (( وقد صرح فيه بسماع سعيد المقبري له من أبي هريرة، وأخرجه ابن إسحاق عن سعيد فقال: عن أبيه عن أبي هريرة، وهو من المزيد في متصل الأسانيد، فإنَّ الليث موصوف بأنه أتقن الناس لحديث سعيد المقبري، ويحتمل أن يكون سعيد سمعه من أبي هريرة، وكان أبوه قد حدثه به قبل أو ثبته في شيء منه فحدث به على الوجهين )).

فظهر جليًّا من كلام الحافظ أنه حكم بالزيادة ؛ لأن من لم يزد - وهو الليث - أوثق ممن زاد، ثم ذكر الاحتمال الآخر وجعله على الوجهين.

وأجدني هنا مضطرًّا أن أقول: إن الأخ الشارح قد أكثر الخطأ على الأئمة والعلماء، سواءً في نقل كلامهم وتصوير مذاهبهم، أو في سوء الفهم لكلامهم، والله المستعان. وانظر للاستزادة (( فتح المغيث )) (4|73)، ومن قوله هناك: (( وحينئذٍ فهذا هو النوع المسمى بالمزيد في متصل الأسانيد المحكوم فيه بكون الزيادة غلطًا من راويها أو سهوًا )).

ولستُ غافلاً عن بيان أن بعض الأفاضل من الباحثين المعاصرين قد قال بما قاله الشارح، ولكني لم أجده في كتب الفن - المتيسرة لي -، إلا على النحو الذي ذكرته أعلاه.

وأختم بسؤال أطرحه على الشارح فأقول: هل المزيد من قبيل الجمع أم الترجيح عندك؟ والله الموفق لا رب سواه.

 

31- قال الشارح (ص111): (( مثال الاضطراب في المتن حديث: (( ليس في الحلي زكاة ))، وحديث: (( في الحلي زكاة ))، وهو حديث واحد مرة روي بالنفي، ومرة روي بالإثبات. قال العراقي: إن هذا اضطراب واضح لا يمكن بحال من الأحوال الجمع بين الحديثين، ولا يمكن ترجيح أحد الحديثين، فيتوقف عن العمل بالحديثين معًا )) اهـ.

وأقول: هذا الكلام فيه أمور:

أولاً: اعلم أن هذا ليس حديثًا واحدًا كما زعمه الشارح أول كلامه، بل هما حديثان مستقلاّن عن صحابيين مختلفين، وهو الذي يدل عليه آخر نقل الشارح من كلام العراقي. ويظهر ذلك أن تعلم أن لفظ: (( ليس في الحلي زكاة )) جاء من حديث جابر بن عبدالله ، كما أخرجه ابن الجوزي في (( التحقيق )) (2|42) رقم (981)، وقد حكم عليه الإمام الألباني بأنه باطل مرفوعًا في (( الإرواء )) رقم (817)، وذكر علله هناك، وعصب العلة بإبراهيم بن أيوب راويه عن عافية بن أيوب. ووقع له رحمه الله وهمٌ عندما نقل (3|295) قول أبي حاتم: (( لا أعرفه )). وهذا إنما قاله أبو حاتم في إبراهيم بن أيوب الفرساني، أما الذي في إسناد هذا الحديث فهو إبراهيم بن أيوب الحوراني، ولم يقل فيه أبو حاتم: (( لا أعرفه ))، إنما ذكره ابنه في (( الجرح والتعديل )) (3|88-89) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وانظر: (( لسان الميزان )) (1|53-54). فظهر أنه لا يصح مرفوعًا من حديث جابر.

ولكن صوب الأئمة وقفه على جابر، كما قال البيهقي في (( المعرفة )) (6|144): (( الذي يرويه بعض فقهائنا مرفوعًا: (( ليس في الحلي زكاة )) لا أصل له، إنما يروى عن جابر من قوله غير مرفوع )). وقال ابن عبد الهادي - كما في (( اللسان )) (3| 650) -: (( الصواب وقفه )).

 

وذلك لأن له ثلاث طرق عن جابر موقوفًا:

الأولى: أبو الزبير عن جابر، وهو من رواية ابن جريج عند عبدالرزاق (7048)، وابن أبي شيبة (3|46) (5). وأيوب عند عبدالرزاق (7049) ؛ كلاهما عن أبي الزبير.

والثانية: من رواية ابن عيينة عند الشافعي في (( الأم )) (2|55)، والبيهقي في (( الكبرى )) (7539). وأيوب عند أبي عبيد في (( الأموال )) (1275). والثوري ومعمر عند عبدالرزاق (7046) ؛ كلهم عن عمرو بن دينار عن جابر.

الثالثة: عن الشعبي عن جابر. وهي عند الدارقطني (2|107) رقم (4) ؛ لكن رواها عنه أبو حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف، والعمدة على الأولى والثانية.

فالصواب وقفه على جابر، وأنه صحيح عنه، كما صححه النووي في (( المجموع )) (6|34).

وأما لفظ: (( في الحلي زكاة )) - بالإثبات - فقد جاء هذا الحديث من حديث فاطمة بنت قيس: أخرجه الدارقطني (2|107) رقم (4)، فقال: حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد الختلي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن غالب الزعفراني، ثنا أبي، عن صالح بن عمرو، عن أبي حمزة ميمون، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: أن النبي قال: (( في الحلي زكاة )). وعن أبي حمزة، عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله قال: (( ليس في الحلي زكاة )). أبو حمزة هذا ميمون: ضعيف الحديث. فظهر أن لفظ: (( ليس في الحلي زكاة )) صحيح من قول جابر ، وبالإثبات ضعيف ؛ لضعف ميمون القصاب الأعور، فحصل ترجيح.

فكيف يجعل هذا مثالاً للمضطرب؟ ويتضح ذلك فيما يلي:

ثانيا: نقل الأخ الشارح عن العراقي ما نقله آنفًا أنه حكم بالاضطراب على هذا الحديث، ولم نعثر على كلامه حول هذا الحديث مع البحث عنه قدر الطاقة، ولكن الذي وجدناه للعراقي إنما هو حول حديث آخر، ويظهر أن الأمر اختلط على أخينا الشارح كما تعودناه منه في شرحه هذا ! فقد قال العراقي في شرح ألفيته المسمى (( فتح المغيث )) (ص110-111) أو باسم (( التبصرة والتذكرة )) ( 1|244-245): (( ومثال المضطرب في المتن حديث فاطمة بنت قيس قالت: سألت - أو سئل - النبي عن الزكاة فقال: إن في المال لحقًّا سوى الزكاة )). فهذا حديث اضطرب لفظه ومعناه، فرواه الترمذي هكذا من رواية شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة. ورواه ابن ماجة من هذا الوجه بلفظ: (( ليس في المال حق سوى الزكاة )). فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل، وقول البيهقي: إنه لا يحفظ لهذا اللفظ الثاني إسنادًا، معارض بما رواه ابن ماجة هكذا، والله أعلم. والاضطراب موجب لضعف الحديث المضطرب ؛ لإشعاره بعدم ضبط راويه أو رواته، والله أعلم )). انتهى كلامه رحمه الله.

فهذا كلامه رحمه الله على حديث آخر بطريقٍ واحدة، أو من وجه واحد كما عبر عنه العراقي. وهذا الحديث الذي ذكره العراقي رحمه الله قد رواه كلٌّ من الترمذي (3|39-40) (659،660)، والدارمي (1|471) رقم (1637)، والطبري ( 2|96)، والدارقطني (2|125) رقم (11|12)، وابن أبي حاتم (1|288) رقم (1548) مختصر، والطبراني ( 24|403-404) رقم (979)، والبيهقي (4|142) رقم (7242) ؛ كلهم عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي قال: (( إن في المال حقًّا سوى الزكاة )).

وأما ابن ماجة - والذي روى اللفظ الآخر - فقد رواه (2|372) رقم (1789) باللفظ الذي ذكر العراقي، إلا أن الظاهر أن نُسخ ابن ماجة مختلفة في هذا الحديث، فقد قال أبو زرعة العراقي ولد الإمام العراقي في كتاب (( طرح التثريب )) (4|11): (( وهو عند ابن ماجة بلفظ: (( في المال حق سوى الزكاة ))، وفي بعض نسخه: (( ليس في المال حق سوى الزكاة )) )). اهـ

قلت: فالنسخة الموافقة للجماعة أولى بالقبول، وإلا فترجيح روايتهم على رواية ابن ماجة كما ذهب إليه السندي في حاشيته على ابن ماجة، وحكمَ على روايته بالخطأ.

كما أن مدار الحديث عند الجميع - حتى ابن ماجة - على أبي حمزة، وهو ميمون الأعور القصاب الكوفي الراعي، قال يحيى بن معين: (( ليس بشيء، لا يكتب حديثه ))، وقال أبو حاتم: (( ليس بقوي يكتب حديثه ))، وقال أحمد: (( متروك الحديث ))، وقال مرةً: (( ضعيف الحديث ))، وقال البخاري: (( ليس بذاك ))، وقال الدار قطني: (( ضعيف الحديث ))، وقال النسائي: (( ليس بثقة )).

فالحديث إذًا لا يثبت ولا يصح، لا بلفظ الجماعة ولا بلفظ بعض نسخ ابن ماجة.

ولذا قال الترمذي (3|40): (( إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون بن الأعور يُضَعَّف )). وقال النووي: (( ضعيف جدًّا ))، كما نقله المناوي في (( الفيض )) (5|375). وقد روى هذا الحديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة عن الشعبي، وفيه قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله ! إن لي سبعين مثقالاً من ذهب، قال: (( اجعليها في قرابتك )). وليس فيه محل الشاهد. رواه الطبري (2|96) والطبراني (24|404) (980). وانظر: (( النكت الظراف )) (12|465- 466).

وقد تبع العراقي في حكمه باضطراب متن هذا الحديث ابنُ حجر، كما نقله عنه المناوي في (( الفيض )) (5|375). ولكن لم يسلم لدعوى الاضطراب أيضًا هنا لوجوه:

الأول: إمكان الجمع، كما ذهب إليه السخاوي في (( فتح المغيث )) (1|279) فقال: (( حيث زال الاضطراب بإمكان سماعها - أي فاطمة بنت قيس- للفظين. وحمل المثبت على التطوع والنافي على الواجب )). وكذا قاله الأنصاري في (( فتح الباقي على ألفية العراقي )) (1|245). وانظر (( فيض القدير )) (5|375).

الثاني: أن الترجيح ممكن بترجيح رواية الجماعة، ومعهم نسخة أخرى لابن ماجة، وإذا أمكن الجمع أو الترجيح بطل الاضطراب.

الثالث: أن هذا الحديث لم يكن الاضطراب هو الموجب لضعفه ؛ لأنه في الأصل ضعيف ؛ لضعف راويه، وهو أبو حمزة الأعور كما تقدم، لذا قال زكريا الأنصاري في (( فتح الباقي )) (1|245): (( لكن في سند الترمذي راوٍ ضعيف، فلا يصح مثالاً نظير ما مر أيضًا )).

وقد كان مر قوله (1|224): (( والحق أن التمثيل لا يليق إلا بحديثٍ لولا الاضطراب لم يضعف )). وحديثنا هنا ليس كذلك، فضعفه لضعف راويه كما تقدم. ولقد قال السخاوي في (( فتح المغيث )) (1|279): (( وقل أن يوجد مثالٌ سالمٌ منه )).

وقال ابن حجر في (( النـزهة )) (ص127): (( لكن قلّ أن يحكم المحدث على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون الإسناد )).

والحاصل أن الحديث باللفظ الذي أورده الشارح - أو الذي أورده العراقي - لا يصلح مثالاً للمضطرب، كما أن كلام العراقي في حديث آخر خلاف نقل الشارح عنه.

 

فائدة: في تعقيب العراقي على البيهقي في أنه لا يعلم للفظ الثاني إسنادًا بوجوده في ابن ماجة لعله يعتذر عن البيهقي بأن (( سنن ابن ماجة )) لم تكن عنده، فقد ذكر ابن الناجي تلميذ ابن حجر في كتابه (( عجالة الإملاء )) على (( الترغيب )) للمنذري (ص569) أن البيهقي لم يكن عنده السنن الثلاث: الترمذي والنسائي وابن ماجة، فالله أعلم بالصواب في ذلك.

ثم أوقفني الشيخ ساعد غازي - أمتع الله به - أن ابن الناجي مسبوق بذلك من الذهبي، كما في (( السير )) (18|165)، و (( تذكرة الحفاظ )) (3|1132)، وكذا الحافظ ابن عبدالهادي في (( طبقات علماء الحديث )) (3|329-330). أو يقال: لو كانت عنده لعلها النسخة التي فيها اللفظ الثاني، والله الموفق لا رب سواه.

كما ألفت النظر إلى أن رواية حماد بن سلمة ليس فيها محل الشاهد كما سبق، وإنما هذا اللفظ في رواية شريك. كما أن في رواية صالح بن عمرو عن أبي حمزة بلفظ (( ليس في الحلي … ))، كما تقدم عند الدارقطني. فهؤلاء ثلاثة كل منهم روى شيئًا غير الآخر، والبلاء من أبي حمزة، فليحرر. والله الموفق.

 

32- ذكر الشارح - وفقه الله - (ص113-114) قصة يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين، ولكنّه ذكر فيها أن السبب هو كبر سن أبي نعيم والخوف أن يكون اختلط، ولكن بالرجوع إلى (( السير )) (10|148) و(( تاريخ بغداد )) (12|353) ليس فيها ذكر ذلك البتة ! وإنما فيها: (( أريد أن أختبر أبا نعيم )). ولا يلزم من ذلك أن يكون للكبر ولا للأمن من الاختلاط. كما أن الشارح سمى المرافق لهما أحمد بن بشار الرمادي مرتين، وهو في المصدرين أحمد بن منصور الرمادي، ولم يكونوا عنده في بيته حتى يقول الشارح: خرجوا، وإنما هو خرج لهم وجلسوا على دكان من طين، فلما حصل ما حصل قام ودخل داره.

والأخ الشارح كما سبق في بعض الأمثلة يزيد في القصص أشياء على خلاف ما هي عليه، والبعض منها قد يكون مؤثرًا، والله الموفق.

 

33- قال الشارح - بعد أن ذكر حديث: (( يعقد الشيطان ))، وحديث: (( صدقك وهو كذوب )) - (ص128): (( فنجد الطحاوي يقول عند هذين الحديثين: الصواب أن النبي أخبر أن الذي ينام ولا يقرأ آية الكرسي يعقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، أما إذا قرأ آية الكرسي فلا يستطيع الشيطان أن يعقد عليه ثلاث عقد، يمكن أن يقال هذا )) اهـ.

أقول - وبالله التوفيق -: الذي رأيناه عند الطحاوي في (( مشكل الآثار )) (1|318) الباب رقم (56) إنما هو الجمع بين حديث: (( يعقد الشيطان ))، وحديث: (( لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي )). فلعل الأمر اختلط على الشارح وفقه الله، وأما الجمع بين الحديثين اللذين ذكرهما الشارح بما ذكره فقد ذكره الحافظ في (( الفتح )) (3|34) ولم يعزه لأحد، والله الموفق.

 

34- قال الشارح - هداه الله - (ص132): (( إذا روى عنه أكثر من راوٍ فهذا يقال عنه: مجهول الحال، وأحيانًا يطلقون عليه المستور، ويطلق عليه الحافظ في (( التقريب )) مقبول )) اهـ.

قلت: هذا فيه خلط وكذب على الحافظ ! وأنا أنقل لك المقبول عند الحافظ من كتابه وكلامه، ودعك من كلام الشارح. قال الحافظ في مقدمة (( التقريب )) (ص81): (( السادسة: من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يُترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع، وإلا فلين الحديث. السابعة: من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق، وإليه الإشارة بلفظ: مستور، أو: مجهول الحال )) اهـ.

فظهر لك من هو المقبول عند الحافظ، كما بان لك المستور ومجهول الحال عند الحافظ، بخلاف ما ذكره الشارح، وأنا أسأل الأخ سعدًا هل قرأت مقدمة الحافظ لكتابه؟ والله المستعان.

 

35- قال الشارح (ص140): (( مثل: (( الكواكب النيرات )) لابن الكيّال مطبوع، وعليه تحقيق لعلي حسن عبدالحميد لا بأس به، وهو يخدم طلاب العلم خدمة جليلة )).

أقول: أخشى أن في المسألة لبسًا، وذلك أن الحلبي قال في (( نكته على النـزهة )) (ص139): (( وانظر (( الكواكب النيرات )) لابن الكيّال وتعليق محققه عليه )). فقوله: (( محققه )) أي: محقق (( الكواكب ))، لا محقق (( النـزهة ))، أي: الحلبي. والله أعلم بالصواب.

وإن كان ظاهر كلام الشارح أنه وقف على هذا التحقيق فوصفه بما وصفه به، والحلبي ذكر في المواضع السابقة أنه حقق رسالة (( الاغتباط )) لا (( الكواكب ))، والأمر هنا استيضاح فحسب.

 

36- مثل الشارح (ص143) للمرفوع الحكمي التقريري بحديث جابر وأبي سعيد: (( كنا نعزل … )).

قلت: ولكن هناك رواية لحديث جابر في (( صحيح مسلم )) رقم خاص (138) (2|1065)، وفيها: (( فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا )). فكان تقريرًا تصريحًا لا حكمًا على ضوء التقسيم الذي ذكره الشارح، والله الموفق.

 

37- ذكر الشارح (ص144) حالة الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص، وقصة أخذه الزاملتين المملؤتين كتبًا لأهل الكتاب... الخ، وذكر من أمثلة الإسرائيليات التي رواها عبدالله بن عمرو بن العاص قصة هاروت وماروت، ثم قال: (( قال ابن كثير: الصواب أنها من الإسرائيليات التي حدّث بها عبدالله بن عمرو بن العاص عن بني إسرائيل )).

فأقول للأخ الشارح: ألا راجعت (( تفسير ابن كثير )) لتوثق معلوماتك، وحتى لا تقع في الخلط الذي رأيناه منك في هذا الشرح، بل وحتى لا تقع في الكذب على ابن كثير، ولا تعط معلومات مغلوطة، فليس لابن عمرو بن العاص عند ابن كثير حديث فيها. وإنما هي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وذكرها ابن كثير من عدة روايات، وبعضها بإسناد جيد، وفيها التصريح بأن عبدالله بن عمر يرويها عن كعب الأحبار. وراجع (( تفسير ابن كثير )) (1|193-195).

ولا يقولن قائل: لعله خطأ مطبعي من (( ابن عمر )) إلى (( ابن عمرو )) بالواو ! فإني أقول: هذا من تخليط الشارح الذي سبق الإشارة إلى بعضٍ من أمثلته، والشارح يتحدث عن ابن عمرو، والله المستعان على الحال التي وصل إليها العلم والتعليم.

 

38- قال الشارح (ص150): (( توسع الحافظ الذهبي فجعل من أدرك الصحابة - ولو لم يرهم - في طبقة التابعين، وينبه على هذا، لكنه يعدهم من التابعين لأجل مسألة المعاصرة، مثل: ابن جريج، وعبد الله بن طاووس، وأبي حنيفة. فينص على أنه ليس لهم رواية عن الصحابة )) اهـ.

أقول: العبارة فيها اضطراب وخلط من الشارح، ويتضح ذلك بأن نعلم بأن عندنا ثلاثة أمور: إدراك، ورؤية، ورواية. فالإدراك لا يلزم منه رؤية فضلاً عن رواية، فقد يقال: أدركه، ولم يره، ويقال: أدركه، ولم يسمع منه، ويقال: رآه، ولم يسمع منه. كما أن الذين مثَّل بهم الشارح ليسوا على حدٍ سواء. فأبو حنيفة: قال عنه الذهبي في (( التذكرة )) (1|168): (( رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم الكوفة )). فهو يدخل في التابعين على حد تعريف الشارح له، فأي توسع عند الذهبي فيه. وأما ابن جريج: فقال عنه (1|169): (( وأدرك صغار الصحابة، ولكن لم يحفظ عنهم )). وأما عبدالله بن طاووس: فقال عنه في (( السير )) (6|103): (( ولم يأخذ عن أحدٍ من الصحابة، ويسوغ أن يُعَدَّ في صغار التابعين لتقدم وفاته )). فنفى عنه الرواية لا الرؤية والإدراك، ثم جعل المسوِّغ لعده من صغار التابعين تقدم وفاته، والله أعلم.

 

39- قال الشارح (ص153): (( وقد أفرد السفاريني ثلاثيات الإمام أحمد وشرحها، وثلاثيات البخاري، وثلاثيات مسلم )).

أقول: هذا الكلام يفهم منه أمور:

الأول: أن السفاريني هو الذي أفرد ثلاثيات أحمد.

الثاني: أن السفاريني شرح ثلاثيات المذكورين.

الثالث: أن للإمام مسلم ثلاثيات.

أما الأول: فقد سبق في المقدمة بيان خطئه في ذلك، وبلا ريب.

وأما الثاني: فالمعروف أنه شرح ثلاثيات أحمد فحسب، ولم يذكر من مؤلفاته شرح ثلاثيات البخاري فيما أعلم.

وأما الثالث: فالمعلوم عند الطلبة أن أعلى ما وقع للإمام مسلم هو الرباعيات، والله الموفق.

ثم أوقفني الشيخ ساعد غازي زاده الله علما على كلام للشارح في كتابه (( الفتاوى الحديثية )) (ص63) أثبت أن أعلى ما وقع لمسلم هو الرباعيات، فالحمد لله على ذلك.

 

40- قال الشارح (ص163): (( أو يكون مسلسلاً بأهل جهة معينة، كأهل الحجاز، أو المصريين. وهذا يكثر، فيقول المحدث: هذا حديث إسناده كلهم شاميون، وقد ألف الطبراني كتابه (( مسند الشاميين )) )) اهـ.

أقول - وبالله التوفيق -: ذكرُ الشارحِ لكتاب الطبراني في هذا السياق يوهم أن معنى (( مسند الشاميين )) أن أسانيده مسلسلةٌ بالشاميين، وهذا ليس بصواب، ويدُرك ذلك بأدنى نظر في كتاب الطبراني، وقد قال محققه الشيخ حمدي السلفي مبينًا ذلك (1|7): (( أما (( مسند الشاميين )) فقد روى فيه الحافظ الطبراني أحاديث بعض الرواة والمحدثين الشاميين، ولم يستوعب كل الرواة والمحدثين، فقد ذكر الذين رووا الأحاديث منهم من التابعين وأتباعهم... )) الخ كلامه. إذًا ؛ فهو يأتي مثلاً إلى راوٍ من التابعين وهو شامي، وليكن أولَ واحد ذكره - وهو إبراهيم بن أبي عبلة، عده الحافظ من الطبقة الخامسة - فيذكر عنه ما رواه عن جمع من شيوخه، سواء كان شيخه شاميًّا أو مدنيًّا أو بغداديًّا، كما أن في السند إليه من يكون شاميًّا أو مدنيًّا أو بغداديًّا … وهكذا، فهو يجمع مسند ذلك الشامي - أي أحاديثه التي أسندها - ولا يشترط التسلسل بالشامية، فافهم ! والله الموفق.

 

41- قال الشارح (ص180-181): (( تنبيه: وبهذه المناسبة أحب أن أنبه على كتاب (( طبقات الحفاظ )) للحافظ السيوطي، فقد أفرد فيه الذين وصفوا بالحفظ ورتبهم على الطبقات، وهذا يختلف عن كتاب (( تذكرة الحفاظ )) للذهبي، وإن كان (( تذكرة الحفاظ )) مرتبًا على الطبقات ؛ لكن كتاب السيوطي فعلاً أراد الحُفاظ الذين عُرفوا بحفظ الحديث، وأما كتاب الذهبي فإنه لا يقصد بالحفاظ الذين عُرفوا بقوة الحافظة للحديث، ولكنه نبه في المقدمة أنه يقصد الرجال الذين أثر عنهم الكلام في الرواة جرحًا وتعديلاً، وفي الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، حتى وإن كان حفظهم ضعيفًا … )) الخ كلامه، ثم مثّل بابن لهيعة وأبي حنيفة.

قال مُقيِّدُه - فتح الله عليه -: لا أدري ما أقول للأخ سعد وقد نصَّب نفسه حكمًا بين كتابين مبيّنًا ميزات أحدهما على الآخر ! أسأله فأقول: هل قرأت مقدمة كلٍّ منهما فقط؟ أم أنك كلَّفت بعض أحبابك أن يقوم بمقارنة بين الكتابين ثم يخبرك بالنتيجة التي ألقيتها دون وعي على طلابك؟! وأقول هنا: ليس بين الكتابين ذلك الفرق الجوهري الثمين الذي ادعاه الشيخ هدانا الله وإياه !

وقد قال السيوطي في مقدمة كتابه (ص11): (( أما بعد: فهذا كتاب طبقات الحفاظ ومعدّلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتجريح والتضعيف والتصحيح، لخصتها من طبقات إمام الحفاظ أبي عبد الله الذهبي، وذيلت عليه من جاء بعده )) اهـ. فظهر من كلامه جليًّا - لكل من يقرأ هذه المقدمة - أن كتابه إنما هو تلخيص لكتاب الذهبي، أي أن كل من ذكره الذهبي ذكره السيوطي، وإنما حذف بعض أخبارهم والأسانيد إليهم، كما أنه زاد على كتاب الذهبي من جاء بعده، فهذا هو الفرق لا ما ادعاه الشارح هداه الله ! لذا ؛ فإن اللذيْن مثّل بهما وبوجودهما في كتاب الذهبي - وهما أبو حنيفة وابن لهيعة - موجودان في كتاب السيوطي: الأول برقم (156) (ص80)، والثاني برقم (213) (ص107). ولذا فإن السيوطي لما انتهى من تلخيص ما ذكره الذهبي قال (ص521): (( قلت: هذا آخر ما أورده الحافظ الذهبي، وها أنا أذيِّل عليه بمن جاء بعده )). بل ذكر السيوطي (ص68) رقم (131) يزيد بن أبي زياد الهاشمي، ونقل فيه قول أحمد: لم يكن بالحافظ. وقال يحيى: لا يحتج بحديثه. ولم أجد يزيدًا في (( تذكرة )) الذهبي ( ط. المعلمي )، فإما أن أكون لم أهتد إليه، أو يكون مذكورًا في نسخة السيوطي من (( التذكرة ))، أو غير ذلك.

ولكن الذي يجزم به كل من قرأ الكتابين أنه من الباطل أن يقال: إن السيوطي أفرد كتابه للحفّاظ فحسب ! فهذا مثال بيّن أن معلومة الأخ الشارح خطأ محض لا أدري ما مصدره، وأنصحه أن يجدِّد معلوماته ويراجعها قبل إلقائها على الطلبة، والله الموفق.

 

42- ذكر الشارح (ص193) مراتب التعديل، فذكر من أرفعها قولهم: فلان لا يسأل عنه، ثم ذكر مرتبة ثالثة فقال: (( ما وصف دون تأكيد، مثل: فلان ثقة، أو: فلان حافظ، ونحوها )) اهـ.

أقول - وبالله التوفيق -: وهنا ملاحظتان:

الأولى: أن قولهم: فلان لا يسأل عنه، وإن كان أصلها في التوثيق كما ذكر، فقد تأتي لغير ذلك، وأذكر هنا مثالين:

الأول: في ترجمة عقيل الجعدي من (( الجرح والتعديل )) (6|219): (( فلا يحتاج أن يسأل عنه )). مع أن أبا حاتم قد قال: هو منكر الحديث ذاهب.

والثاني: في (( تاريخ بغداد )) (4|394) في ترجمة محمد بن أيوب أبو جعفر الوراق: (( فسئل عنه علي بن المديني وأحمد فلا يعرفاه، وقالا: لا يُسأل عنه )).

والملاحظة الثانية: أن الوصف بالحفظ فقط قد لا يدل على التوثيق والعدالة.

وقد نبه على ذلك السخاوي في (( فتح المغيث )) (2|111) قائلاً: (( كأن يقال فيه: حافظ، أو ضابط، إذ مجرد الوصف بكلٍّ منهما غير كافٍ في التوثيق، بل بين العدل وبينهما عموم وخصوص من وجه ؛ لأنه يوجد بدونهما ويوجدان بدونه وتوجد الثالثة. ويدل لذلك أن ابن أبي حاتم سأل أبا زرعة عن رجل فقال: حافظ. فقال له: أهو صدوق؟ وكان أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني من الحفاظ الكبار، إلا أنه كان يُتَّهم بشرب النبيذ وبالوضع، حتى قال البخاري: هو أضعف عندي من كل ضعيف )) اهـ كلام السخاوي.

وأقول: ومثل الشاذكوني محمد بن يونس الكديمي، قال الذهبي في (( الميزان )) (4|74): (( البصري الحافظ أحد المتروكين )). وعمر بن هارون البلخي من كبار التاسعة متروك، وكان حافظا كما تجده في (( التقريب ))، وكذا نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق، والله المستعان.

 

43- ذكر الشارح (ص197) قصة شعبة مع المنهال بن عمرو، ثم قال: (( عقب المزي بعد ذلك فقال: هلاّ سألته، لعله لا يعلم )).

قلت: لم يعقِّب بهذا الكلام المزي يا شيخ سعد ! وإنما الذي قال له هذا الكلام هو الراوي عنه، وهو وهب بن جرير أو غيره، والقصة رواها العقيلي في (( الضعفاء )) (4|237) فقال: (( حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن غيلان، قال: حدثنا وهب، عن شعبة قال: أتيت منـزل منهال بن عمرو فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعتُ ولم أسأله. قلتُ: وهلا سألته فعسى كان لا يعلم ! )) اهـ. قال الإمام الألباني في (( تحريم آلات الطرب )) (ص104): (( وإسناده إلى شعبة صحيح )).

فأنت ترى أن المتعقب ليس المزي، ولكن الذي أوقع الشارح في هذا هو عدم الرجوع للأصول، وكذا لقوله في آخره: (( قلتُ ))، فظن أنها من قول المزي ؛ لأنه أورد القصة في (( تهذيب الكمال )) (28|571)، والله الموفق لا رب سواه.

 

44- ذكر الشارح - وفقه الله - (ص204) الكتب المصنفة في رجال بعض الكتب، فقال: (( والكتب كثيرة مما أُلف في رجال الترمذي ورجال أبي داود ورجال النسائي ؛ لكنها غير موجودة الآن، ولا نعرف عنها شيئًا )).

قلت: حبذا لو أشار لكتاب الإمام الذهبي، وهو (( المجرد في أسماء رجال سنن ابن ماجة ))، وهو مطبوع بتحقيق الأخ باسم بن فيصل الجوابرة، نشر دار الراية. فهو كتاب مجرد في رجال إحدى السنن، إلا أن الذهبي ذكر فيه رجال ابن ماجة الذين انفرد بإخراجهم عن البخاري ومسلم، والله أعلم.

 

45- ذكر الشارح (ص212) نوعين من الولاء، وهما الولاء بالعتق وبالحلف، لكن قال: (( أو أعتق بالحلف )). وهذا إما سبق لسان وإما خطأ في الطبع، والصواب: أو مولى بالحلف، أو نحو هذه العبارة. فليس هناك عتق بالحلف.

 

قال أبو العباس - وفقه الله -: وبهذا ينتهي ما أردت تعليقه على وجه العجلة أثناء قراءة (( شرح النخبة )) لأخينا سعد الحميد، والمرجو من الأخ سعد أن يراجع معلوماته، ويعيد البحث والقراءة، ولا يكتفي - ككثير من أبناء العصر- بالشهادة، وهذه التعليقات كانت على عجل وانشغال البال، فإن أصبتُ فمن فضل الله عليَّ، وإن أخطأتُ فمن نفسي وتقصيري أُتِيتُ، وحسبي أني اجتهدت لإخواني في النصح حسب ما ظهر لي، والله نسأل أن يرزقنا - وجميع إخواننا - العلم النافع والعمل الصالح، والله الهادي إلى سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 

 

بعض الأخطاء المطبعية في الشرح لتداركها

 

الصفحة السطر الخطأ الصواب

41 2 ما يخدم يخدش أو يخرم

41 9-10 الذي يمكن الذي لا يمكن

42 16-17 ليث ( هو ابن أبي سليم ) ليث بن أبي سليم

48 12-13 عبد الله بن عمر عن نافع عبيد الله مصغّرًا هو الذي روى له مسلم

78 14 الرواية الراوية

100 13 أبي سفيان عن طلحة أبي سفيان طلحة

142 3 أو تصريحه تقريره

142 20 أنه صلى الله عليه وسلم تحذف الصلاة ؛ لأن الكلام عن عليّ

158 5 التحقيق والإيضاح التقييد والإيضاح

181 5، 6، 9 ابن اللهيع ابن لهيعة

206 17، 18 سهدي صفدي

706 1 سهدي صفدي

213 8 الجوابري الجوابرة

224 11 قفال قال

 

 


 

 وبعد أن قمت على وجه النصيحة والاستفسار بطرح هذا الموضوع في ملتقى أهل الحديث، هاج أنصاره وماجوا، وتسببوا في إغلاق الموضوع، وكأن الشيخ سعد معصوم لا يخطئ. وقد وصلتني رسالتين من تلاميذ الشيخ سعد، تثني على ما جاء في هذا المقال. وأنا أنشر الرسالتين بدون ذكر الأسماء للسبب الواضح:

الرسالة الأولى:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
هل أنت من نقد سعد الحميد في ملتقى أهل الحديث ؟ إن كان الجواب نعم
لماذا لا تناصح إدارة جامعة الملك سعود في عدم السماح له بتدريس مرحلة الماجستير والدكتوراه والله يا أخي كان يسومنا سوم العذاب كان حشف وسوء كيل ولا نستطيع الشكوى لأن رئيس القسم صديقه ومقرر جداول الدراسات العليا ذنبه فكيف نشتكي ولكن الشكوى لله وحده
أخي الكريم شكر الله لك ما بينت من أخطاء وقد كنت أدعوا الله دائماً أن يكشف ستره ويبين عيبه هذا الظلوم الكنود
والحمد الله رب العالمين

الرسالة الثانية:

بسم الله
فضيلة الشيخ
السلام عليكم
كتبتم فيما مضى نقد لبعض كتب سعد الحميد
وحيث أنه سيناقش واحدة من زميلاتي نريد هذا النقد لكي نعرف مواطن القوة والضعف عنده
مع أن الكتاب واضح من عنوانه !!!
بحثت عن الموضوع كثيراً إلا أنني لم أفلح في الحصول عليه فصفحاتك تبارك الله كثيرة ولا أدري أي صفحة
هل تتكرم وتضعه لي على وصلة هنا في الخاص
وفي موعد المناقشة إن شاء الله ساخبرك إن كنت ترغب في الحضور

لكي تتفرج على الدكتور المتميز !!!

جزاك الله خيراً