أحاديث الرايات السود

بسم الله الرحمان الرحيم

أولاً لا بد من الإشارة و التنبيه إلى أن المنهج الحديثي المتبع في أحاديث الفتن و أشراط الساعة يختلف –بلا ريب– عن المنهج المتبع في الأحاديث التي فيها حلال وحرام والتي نرتكز عليها في العقائد والأصول. فقد ضمنا وأمنا أن لا يكون حديث فيه حلال أو حرام إلا و سيصلنا بطريق متصل صحيح عبر رجال كلهم ثقات ضابطين، يقيم الله بهم الحجة علينا. و أما في أحاديث الفتن فهذا غير محقق بأي حال. وقد أخبر الرسول r حذيفة t بالفتن التي ستحصل إلى يوم القيامة، فلم يخبر حذيفة الناس بذلك. فدل على أن هذا مما لم يتكفل الله بنقله لنا، وأنه ليس من العلم الذي يأثم حامله بكتمانه. كما أن عدد من أهل الحديث لم يولوها أهمية بنفس المقدار الذي أعطوه للأحاديث الفقهية والعقائدية. حتى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يرى أن هناك ثلاثة أمور لم يصح فيهن شيء: التفسير و الفتن و الملاحم. فهذا يعني أن الإمام أحمد يرى أن عامة أحاديث الفتن معلولة، وليس كلها إذ أن البخاري ومسلم أخرجا في صحيحيهما شيئاً منها.

قال الحافظ ابن كثير الدمشقي عن حديث الرايات: «تفرد به ابن ماجة ، وهذا إسناد قوي صحيح». قلت: أخرجه الحاكم كذلك في مستدركه (4\510:#8480)، وكذلك (4\547) مختصراً بلفظ: «إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فأتوها ولو حبواً، فإن فيها خليفة الله المهدي». و صحّحه، وفي ذلك نظر. وقال البوصيري في المصباح (3\263) : «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات: رواه الحاكم في المستدرك من طريق الحسين بن حفص عن سفيان به، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ولفظه: إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي». قلت أخرجه أحمد في مسنده (5\277) بإسناد آخر عن وكيع عن شريك عن علي بن زيد عن أبي قلابة عن ثوبان. و شريك القاضي ضعف حفظه، و علي بن زيد الراجح ضعفه، و قد سقط أبو أسماء من الإسناد وهو موجود، لأن أبا قلابة لم يسمع من ثوبان.

وقد حكم الألباني في الضعيفة (85) على حديث خالد الحذاء بالنكارة وقال: «وقد ذهل من صححه عن علته، وهي عنعنة أبي قلابة، فإنه من المدلسين... لكن الحديث صحيح المعنى دون قوله: فإن فيها خليفة الله المهدي. فقد أخرجه ابن ماجة من طريق علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً نحو رواية ثوبان الثانية، وإسناده حسن. وليس فيه: خليفة الله. وهذه الزيادة "خليفة الله" ليس لها طريق ثابت» ا.هـ. قلت بل قد غفل من ضعّفه عن أن أبا قلابة قد ذكره الحافظ إبن حجر في الطبقة الأولى من المدلّسين الذين لا يضر تدليسهم. طبقات المدلسين (1\21). وفي تلك الطبقة أيضاً البخاري ومسلم، فهي علة غير مؤثرة. أما حديث إبن مسعود ففي تحسينه نظر، إذ إن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو شيعي كوفي ضعيف. كما أن تفرّده بهذا الإسناد يزيد الحديث ضعفاً. قال أبو أسامة: «حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات، لو حلف عندي خمسين يمينا قسامة ما صدقته»، كما في سير أعلام النبلاء (6\132). وقد توبع من إسناد وضعه حنّان بن سدير الرافضي، كما نص الذهبي في تلخيص المستدرك (4\511)، و لا تصح هذه المتابعة. ولذلك اتفق الحفاظ على ترك إسناد يزيد بن أبي زياد كوكيع وأحمد والذهبي كما في ميزان الاعتدال (7\241).

و قد ردّه إسماعيل بن علية دون أن يبين عِلّةً له، كما ذكر عبد الله بن أحمد: «حدثني أبي قال قيل لابن علية في هذا الحديث، فقال كان خالد يرويه فلم يلتفت إليه. ضعّف ابن علية أمره. يعني حديث خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي r في الرايات». العلل ومعرفة الرجال (2\325 #2443). و ظاهر كلامه أنه يضعّف خالد الحذاء، وليس كذلك. فهو ثقة احتج به مسلم عن أبي قلابة في باب الأمر بشفع الأذان (1\286)، و إسماعيل نفسه هو راوي الحديث عن خالد! و قد اتفق الأئمة (بما فيهم أحمد) على توثيق خالد إلا شعبة سراً و أبي حاتم الذي قال يكتب حديثه ولا يحتج به. ولم يبق تفسير لكلام ابن علية إلا أن خالد قد اختلط في آخر عمره وضعفه حفظه بعدما رجع من الشام أي أن هناك حكاية خاصة بهذا الحديث. لكنّه لم يتفرد به كما أشرنا سابقاً. و هذا القول ليس على ظاهره. وأما المتابعة فالظاهر أنها وهم، وهو محتمل لاجتماع ضعيفين في الحديث.

و لا يصح في الباب شيء، و الله أعلم.