حديث أنهار الجنة الأربعة، والرد على من طعن به

في الصحيحين من حديث مالك في حادثة المعراج: «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك».

وقد قال أحد العلماء (كما في الأنوار الكاشفة): لا ريب أن كل ما رآه النبي ﷺ ليلة الإسراء حق، لكن منه ما كان بضرب من التمثيل يحتاج إلى تأويل، وقد ذكر في بعض الروايات أشياء من هذا القبيل. وقد يقال: إن سدرة المنتهى -مع أنها حقيقة- ضُرِبت مثلاً لكلمة الإسلام على نحو قوله تعالى {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}، وجعل مغرسها مثلاً للأرض التي ستثبت فيها كلمة الإسلام في الدنيا والأرض التي يرثها أهله في الجنة، فرمز إلى الأولى بما فيه مثال النيل والفرات، وإلى الثانية بما فيه مثال النهرين اللذين في الجنة. أي هذان (الفرات والنيل) أنهار أهل الجنة وهم المسلمون، والحديث بشارة بفتح هذه البلاد، وهو ما حصل بعهد عمر. وهذا ما أراه التأويل الصحيح، لأن مناسبة هذا الحديث كان في حادثة الإسراء والمعراج، وبذلك يكون بشارة للنبي عليه الصلاة والسلام وتخفيفا عما يلقاه من أذى من قومه. وهناك من أول هذا الحديث بأنه ثناء على نقاء مياه هذه الأنهار بتشبيهها بأنهار الجنة. وأستبعد هذا لأن تخصيص هذين النهرين غير متجه، عدا عن عدم مناسبة هذا مع حادثة الإسراء.

قال ابن حزم بالمحلى (5|330): وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة، هذا باطل وكذب؛ لأن الله - تعالى - يقول في الجنة {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى - وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}. فهذه صفة الجنة بلا شك. وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الروضة، ورسول الله -عليه السلام- لا يقول إلا الحق. فصح أن كون تلك الروضة من الجنة (يقصد حديث «بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي») إنما هو لفظها، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة؛ وكما قيل في الضأن: إنها من دواب الجنة، وكما قال -عليه السلام-: «إن الجنة تحت ظلال السيوف» فهذا في أرض الكفر بلا شك، وليس في هذا فضل لها على مكة. انتهى.

وهذا تأويل جائز، وعليه أمثلة كثيرة، وإن كنت أرى أن التأويل الأول هو الأصح، لأن مناسبة ذكر الأنهار هو بشارة للنبي ﷺ.

وفي صحيح مسلم #2839 عن عبيد الله، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، مرفوعا: «سيحان وجيحان، والفرات والنيل كُلٌّ من أنهار الجنة». لكن في علل الدارقطني (10|271) أن شعبة رواه عن خبيب عن حفص عن أبي هريرة موقوفا. ولا شك أن شعبة أحفظ من عبيد الله بن عمر العمري. ورواه محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعاً عند أحمد (7544)، وخالفه عبد الملك بن عمير، وهو أوثق. إذ روى الحديث الخطيب في تاريخ بغداد (3|24) عن مسعر عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة موقوفاً. وهو أصح.

فالحديث لا يصح مرفوعا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو قول أبي هريرة، وغالبا أنه أخذه من كعب. إذا جاء في مسند الحارث (2|944 #1042) عن سعيد بن شُرحبيل، عن ليث (بن سعد)، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير (مرثد بن عبد الله اليزني) قال: قال كعب: "نهر النيل نهر العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ونهر سيحان نهر الماء في الجنة".

وكعب غير دقيق بما ينقله عن التوراة. إذ أن فيها (سفر التكوين 2): 10 وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير اربعة رؤوس: 11 اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع ارض الحويلة حيث الذهب. 12 وذهب تلك الارض جيد. هناك المقل وحجر الجزع. 13 واسم النهر الثانى جيحون، وهو المحيط بجميع ارض كوش. 14 واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي اشور. والنهر الرابع الفرات.

فِيشُونُ أصبح عند كعب هو سيحون. بينما علماء اليهود مختلفين في تحديده حتى أن بعضهم يقول أنه كان في الأرض قبل طوفان نوح ثم جف. جيحون يقال أنه النيل الأزرق لأن مملكة كوش هي في السودان حاليا، والبعض جعل الكوش هي في أفغانستان حيث ينبع نهر جيحون الذي يسير في أوزبكستان. حِدَّاقِلُ هو دجلة. الفرات هو الذي نعرفه اليوم. نلاحظ أن كعب قد كذب حتى في النقل عن التوراة. وهذا يؤكد أنه لم يكن حبرا لهم وكان إما يكذب على الصحابة بادعاء النقل عن التوراة وهو يؤلف من رأسه، وإما أنه يردد أساطير شعبية وخرافات ويزعم أنها من التوراة وهو لم يقرأها.

العودة للصفحة