تقوية الحديث بتعدد الطرق والشواهد

الطريق: هو مجيء نفس الحديث من رواية نفس الصحابي، لكن باختلاف في الرواة. والشاهد: هو مجيء الحديث من رواية صحابي آخر، وهنا يعتبر حديثاً آخر.

ليست هناك قاعدة معينة عند المتقدمين لتقوية الأحاديث بمجموعها. وهذا في أي حالٍ قليلٌ عندهم. وغالباً تكون الشواهد ليست شديدة الضعف كما عند المتأخرين. وأحسن مثال هو ما يخرجه مسلم في الشواهد للأحاديث في أصل الباب. والحاكم مكثر لذلك في المستدرك، لكن قد عُرف شدة تساهل الحاكم في مستدركه. وكقاعدة أساسية عند المتقدم، فإن كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث شيئاً، فإذا تبيّن أنها مناكير (أي راجعة لوهم أو كذب أو خطأ بيّن)، فهذه عنده لا يَشدّ بعضها بعضاً، في حين أن المتأخر، قد يتوفر عنده إسنادان أو ثلاثة، رأى أنها اعتضدت ورفعت الحديث إلى درجت القبول.

فالأسانيد الضعيفة إذا تعددت، قد تقوي الحديث وقد لا تقويه. مثل حديث «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» طرقه كثيرة رغم ضعف الحديث. وقد أنكره البخاري وأحمد وجمع من الحفّاظ. وكذلك حديث «صلوا خلف كل من قال لا إله إلا الله» طرقه كثيرة، ولا يزال معلولاً عند أهل هذا الشأن. فالسلف لا يكثرون جداً من تحسين الأحاديث بالشواهد، إلا إذا قويت طرقها، ولم يكن في رواته كذاباً ولا مُتهم، ولم تعارض أصلاً. وهذا الضابط مهم، إذ حتى لو قويت طرقها واستقامت بمفردها، فإذا عارضت أصلاً تُطرح. ومن المهم معرفة من روى الحديث. فتجد من المتأخرين من يصحح أحاديث في أجزاء بن عرفة وغيره وهذا غلط، لأن هذا ليس من مظان الحديث الصحيح، وإنما مظانه دواوين أهل الإسلام المشهورة مثل الصحيحين والسنن والمُسنَد.

والمتأخرون قد توسعوا في تقوية الأحاديث بالطرق والشواهد توسعاً غير مرضي، إلا ابن حزم فإنه أغلق الباب كله. وكلا الطرفين مخطئ، والتوسط هو الصواب. والشاهد إذا كان مختلف المخرج، ولا يعود إلى الحديث الضعيف الذي أريد تقويته، و اطمأن قلب الناقد إلى أنه شاهد حقيقي ليس وهميا، عندها يمكن أن ينفع في تقوية الحديث الضعيف. وكلما اتحد اللفظ في الشواهد أو تقارب تقاربا كبيرا، وكان الضعف خفيفاً، كلما كان ذلك أدعى للانتفاع بشهادته. والناظر إلى صنيع المتقدمين يجد أن تلك الشواهد التي يستعملونها هي من جنس الحديث الحسن عند المتأخرين. وهنا نشير أن تقوية الحديث هي أنواع، منها: تقوية الحديث الضعيف المعتبر به بالضعيف مثله أو أحسن منه، ومنها تقوية الحديث الضعيف بالصحيح، مثل أن يأتي بقصة قد جاءت بإسناد في ضعف معتبر، ويكون أصلها صحيحاً لكنه مختصر، وهو الذي كثر عند المتقدمين، والله أعلم.

وكثير من المتأخرين يتفقون نظرياً مع هذا. لكن حصل في هذا بعض التساهل. فهناك من صرح بتقوية الحديث بالطرق الشديدة الضعف، كما قال السيوطي في "النكت البديعات": «المتروك والمنكر إذا تعددت طرقه، ارتقى إلى درجة الضعيف القريب، بل ربما يرتقي إلى الحسن»! فأين قوله هذا من قول الإمام أحمد: «المنكر أبداً منكر». فأما التطبيق فهو كثير جدا، وفيه يتبين الخلل. لأن الكثير ممن كتب في علوم الحديث وكتب المصطلح، تجده قد قرر عدم تقوية الحديث بالطرق الضعيفة، إلا أنه لما أتى إلى التطبيق، خالف ما قرر. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. فالخلاصة أنه قد وقوع التساهل بنسبة كبيرة جداً بين المتأخرين في تطبيق قاعدة تقوية الحديث. قد حصل تساهل في تنظيرها عند بعضهم كذلك. ومعظم الأحاديث الضعيفة التي خالف بها المتأخرون المتقدمين هي في هذا الباب، فتأمل هذا. والله الموفق للصواب.