آيات قرآنية أشكل تفسيرها على المفسرين بسبب الإسرائيليات

هناك عدة آيات بالقرآن الكريم أشكلت على المفسّرين بسبب تركهم لظاهر الآية ومحاولتهم تفسيرها بالإسرائيليات، مما أعطاها معنى مخالف لمعناها الحقيقي وبعيد عن المراد من السياق القرآني للآية. راجع موضوعي عن الإسرائيليات.

تفسير: وظن داوود أنما فتناه

وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25) ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)

التفسير:

في سياق ذكر الله عز وجل لنعمه على عبده داود وثناءه على عبادته وتسبيح الجبال والطير معه، وحسن تدبيره للحكم، يذكر مثالا على التوازن بين العبادة وبين إدارة الحكم، فيذكر أن داود قد خلى لتعبد في مكان عبادة له سور، وتخاصم رجلان حول خرافهما، ولم يجدا داود، فتسلقا السور ودخلا عليه، فتفاجئ بهما، فأخبراه قصتهما وأنهما يطلبان الحكم الشرعي بالمسألة {واهدنا إلى سواء الصراط}. فحكم بينهما بالعدل، ثم ظن أنه مقصر بالاعتزال عن الناس الذين يحتاجونه للحكم وتعلم الشرع، فاستغفر ربه، فغفر له ربه وأثنى على عدله وحسن إدارته لرعيته.

الذين فسروا هذه الآية بدون الإسرائيليات قد اختلفوا في السبب الذي دعا داود للاستغفار:

1- يذهب الرازي وابن حبان وتبعه الطنطاوي أن السبب هو ظن داود عليه السلام أن هذين الخصمين أتيا لاغتياله. والجواب أن هذا الظن ليس ذنباً ليستغفر منه، فمن حقه أن يخاف عندما يتفاجئ باثنين في محرابه المغلق.

2- يذهب قوم منهم سيد قطب إلى أن السبب هو تعجل داود هو حكمه على واحد دون أن يسمع من الآخر، حيث كان متفاجئا بهما وذهنه غير صاف. واستدلوا على هذا بأن سرد الشكاية وسرد الحكم الذي حكم به داوود عليه السلام يدل على أن الحكمة من هذا السياق أبعد من مجرد التنبيه على خطورة الاعتكاف عن الناس، فكان يمكن الاكتفاء بذكر التسور فقط. وقد رد ابن حبان على من يقول ذلك بقوله: «{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} ليس هذا ابتداء من داود، عليه السلام، إثر فراغ لفظ المدعي، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب، فقيل ذلك على تقدير، أي لئن كان ما تقول، لقد ظلمك. وقيل: ثم محذوف، أي فأقر المدعى عليه فقال: لقد ظلمك، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه، لأنه معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه».

3- ويذهب قوم إلى أن السبب هو إدراك داود عليه السلام أنه انشغل بالعبادة عن الحكم. فقد اعتزل في محراب له سور ومنع الناس من دخوله. وقد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن داود أعبد البشر. فجاءت الخصوم، ولم يجدوا له طريقًا، فتَسَوَّرُوا إليه، وليسوا بملائكة، إنما هم قومٌ تخاصموا في النِّعاج على ظاهر الآية، فحكم بينهم بالعدل. ثم ظن أن هذا كان تنبيهاً من الله عز وجل، فاستغفر ربه من انشغاله عن القضاء بين الناس.

ولعل القول الأخير أصح لأنه موافقٌ لظاهر القرآن، فقد قال الله عز وجل قبل القصة مباشرة {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}، فقد أثنى على عدله وحسن حكمه لمُلكه، ثم ذكر الله القصة، ثم ختمها بقوله: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...} فالله تبارك وتعالى يحذره من أن يُقصّر في الحكم بين الناس بالعدل.

------------

ان تأملت هذا تجد ظاهر الآية منسجما مع السياق القرآني العام للسورة وفيه من الفوائد ما لا يخفى، وأين ذلك عن القصة المزورة التي ينقلها مفسرون عن الإسرائيليات مما يستحي المرء من نقله لما فيه من طعن بالأنبياء؟

الداخلان على داود عليه كانا خصمين من البشر ، والنعاج حقيقية وليست مجازية. وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي ان يكونا ملكين. وبعيد على الملائكة أن يكذبون ويدعون أن بينهما خصومة وأن أحدهما قد أخذ نعجة الثاني، ويكون كل ذلك كذب لم يحصل. فهذا بعيد كل البعد. وليس ظاهر الآية يدعم هذه الأسطورة ولا فيها حديث مرفوع، وإنما أكذوبة يهودية لا حاجة لنا بها.

 

تفسير: هم يوسف عليه السلام بامرأة العزيز

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ ‏رَبِّهِ}

من لم يفسر القرآن بالإسرائيليات، فسر الآية بأحد قولين:

- أن يوسف عليه السلام قد هم بها، والهم هو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم.

- أن يوسف عليه السلام كاد أن يهم بها لولا برهان ربه. أي لم يهم أصلا.

وهنا أذكر رأي اللغوي المفسّر ابن حيان، فقال : ( طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق . والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله...) ، ثم بيّن الخلاف في مسألة تقدم جواب "لولا" عليها ، وذكر أنه وإن كان جائزاً عند جماعة من النحويين ، إلا أنه لا يقول به هنا ، بل يقول: إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه.

وذكر الشنقيطي أن ما قرره أبو حيان هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، قال: ( لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه... وعلى هذا القول فمعنى الآية: وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه، أي: لولا أن رآه همّ بها. فما قبل {لَوْلاَ} هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة. ونظير ذلك قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص: من الآية10) فما قبل {لَوْلاَ} دليل الجواب. أي: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به).

ويضاف إلى هذا ما ذكره ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (2|345) تحت فصل "ومن تلاعب الشيطان بهم"

فقال: ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال : يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء فقام حينئذ. ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة.

وقال شيخ الإسلام: يوسف عليه السلام لم يفعل ذنباً ذكره الله عنه. وهو سبحانه وتعالى لا يذكر عن أحد من أنبيائه ذنباً، إلا ذكر استغفاره من ذلك الذنب. ولم يذكر عن يوسف عليه السلام استغفاراً من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفاراً من مقدمات الفاحشة. فعلم أنه لم يفعل ذنباً في هذا ولا هذا، بل هم هماً تركه لله فأثيب عليه.

تفسير قصة سليمان مع الجياد

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)

نبدأ بالآية: {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب ردوهَا على فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق}. فمعناها أن سليمان عليه السلام قد عرضت عليه بعض الأحصنة الجيدة، فأعجب لها ليستخدمها في الجهاد وفي طاعة ربه، وهذا الإعجاب صادر عن ذكره لله عز وجل {حب الخير عن ذكر ربي} حتى ابتعدت الخيل خلف ساتر يمنعه من رؤيتها. فأمر بإعادتها إليه وراح يمسح بيده المباركة على أعناقها وعلى سوقها محبة بها، شاكرا ربه على نعمه. هذا هو تفسير الآية على ظاهرها.

قال ابن حزم عن بعض من ينقل عن اليهود: وتأولوا ذَلِك على مَا قد نزه الله عَنهُ من لَهُ أدنى مسكة من عقل من أهل زَمَاننَا وَغَيره -فَكيف بِنَبِي مَعْصُوم مفضل-، فِي أَنه قتل الْخَيل اذا اشْتغل بهَا عَن الصَّلَاة! وَهَذِه خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة سخيفة بَارِدَة، قد جمعت أفانين من القَوْل. وَالظَّاهِر أَنَّهَا من اختراع زنديق بِلَا شكّ. لِأَن فِيهَا معاقبة خيل لَا ذَنْب لَهَا والتمثيل بهَا، واتلاف مَال منتفع بِهِ بِلَا معنى، وَنسبَة تَضْييع الصَّلَاة إِلَى نَبِي مُرْسل، ثمَّ يُعَاقب الْخَيل على ذَنبه لَا على ذنبها. وَهَذَا أَمر لَا يستجيزه صبي ابْن سبع سِنِين، فَكيف بِنَبِي مُرْسل؟

قال: وَمعنى هَذِه الْآيَة ظَاهر بَين، وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أخبر أَنه أحب حب الْخَيْر من أجل ذكر ربه، حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب أَو حَتَّى تَوَارَتْ تِلْكَ الصافنات الْجِيَاد بحجابها. ثمَّ أَمر بردهَا فَطَفِقَ مسحا بسوقها وأعناقها بِيَدِهِ برا بهَا وإكراماً لَهَا. هَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَة الَّذِي لَا يحْتَمل غَيره. وَلَيْسَ فِيهَا إِشَارَة أصلا إِلَى مَا ذَكرُوهُ من قتل الْخَيل وتعطيل الصَّلَاة. وكل هَذَا قد قَالَه ثِقَات الْمُسلمين.

 

تفسير {وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه جسداً ثمَّ أناب}

وأي ابتلينا سليمان بمرض شديد، حتى أصبح جالسا على كرسيه ضعيفا كجسد بلا روح، فصبر حتى شفي وعاد. أما قصة الخاتم السحري فمن خرافات اليهود الذين لا يعترفون بنبوته ويتهمونه في توراتهم بالشرك! قال ابن حزم الأندلسي: فَهَذِهِ فتْنَة الله تَعَالَى لِسُلَيْمَان إِنَّمَا هِيَ اختباره، حَتَّى ظهر فَضله فَقَط. وَمَا عدا هَذَا فخرافات وَلَدهَا زنادقة الْيَهُود وأشباههم.

النبوة لا تكون في خاتم، ولا يسلبها النبي، ولا تنزع عنه. وهذه المعجزات قد أتت سليمان لأنه نبي لا لأن معه خاتم سحري! كما أن الناس يتبعوه لأنه نبي يأتي بالهدى من رب العالمين وليس لمجرد امتلاكه خاتماً. واليهود لا يعتبرون سليمان نبياً وإنما كان ساحراً قد دان له الجن بفعل القوة السحرية لخاتمه. و في الفرية اليهودية أن جميع الناس أنكروه لمجرد أنه لم يعد بيده الخاتم، حتى نساءه أنكرنه! ثم إن الله تعالى لا يُمكّن الجني من التمثل بصورة النبي، ولا يمكن الشيطان بأن يحكم الناس بإسم النبي. ولو كان ذلك لفسدت الشرائع كلها، ولفتحنا الباب على مصراعيه أمام الملاحدة للطعن في الدين، وهو بالذات ما أراده اليهود من هذه الفرية العظيمة. فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة إبراهيم وموسى وعيسى ما كانوا أولئك، بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال، ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية.

والغريب أن ابن عباس قد روى تلك الخرافة اليهودية بتفاصيلها بما فيها أن الشيطان قد زنى بنساءه وجامعهن حتى في حيضهن. وقد أخذ سعيد هذه القصة فرواها كذلك مع ما فيها من الطعن بشرف المؤمنات الشريفات. وتبعه عدد من المفسرين المتأخرين، مع العلم أنهم لما وصلوا لقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) سورة التحريم. اتفقوا على أن الخيانة ليست الزنا أبداً لأن الله لا يمكن امرأة نبي من الزنا تكريماً له، وإنما الخيانة هي الشرك!

أما الحسن فقد أنكر هذا من القصة وقال بأن الشيطان لن يسلطه الله على نساء النبي. لكنه للأسف بدلاً من أن يستدل بذلك على سقوط القصة كلها، حذف هذا الجزء فحسب، ثم أضاف لنهاية الأسطورة قصة لو حُكيت لأطفال لسخروا منها. وكذلك مجاهد اكتفى بحذف هذا الجزء من القصة وتابع الباقي. مع أن أصل القصة هو ابن عباس عن وهب بن منبه عن كتب اليهود. ومع ذلك كل واحد يعدل فيها على كيفه حتى يشوق الناس أكثر لها ويضيف ويزيد ثم يقرر أن هذا ما حدث!

وما أبعد تلك القصة عن ظاهر الآيات. فإنها ذكرت ابتلاء سليمان في مكان المديح. ثم كافأه الله بعد صبره فأعطاه ملكا لا ينبغ لأحد من بعده. وبعد ذكر تلك النعم العظيمة، ذكر ابتلاء أيوب بمرضه، فكأن ابتلاء سليمان من نفس البلاء، وهو المرض الشديد.

فإن قيل فما بالك بما رواه البخاري في صحيحه #3424 عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قال: سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئا إلا واحدا، ساقطا أحد شقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله".

أقول: هذا ليس تفسيرا للآية وإنما هو ابتلاء آخر لسليمان عليه السلام أن أنساه أن يقول إن شاء الله، فكان ما ذكر الحديث.

تفسير هاروت وماروت

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)

اختلف المفسرون من هم هاروت وماروت. فصح عن علي بن أبي طالب قوله: «كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا». وهذا من الإسرائيليات. وقد رواه ابن عمر عن كعب الأحبار، فهو أصل الكذبة.

والصواب أن هاروت وماروت كانا ملكين من ملائكة السماء أنزلهما الله –عز وجل– إلى الأرض فتنة للناس وامتحاناً، وأنهما كانا يعلمان الناس السحر بأمره لهما. ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء. فالضمير في {يُعَلِّمَانِ} وفي {مِنْهُمَا} عائد على الملكين. وقولهما {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} دليل واضح على أنهما كانا يعلمان السحر، ويحذران الناس من تقليدهما. وقيل أن الحكمة من تعليم الملكين الناس السحر، أن السحرة كثروا في ذلك العهد واخترعوا فنوناً غريبة من السحر، وربما زعموا أنهم أنبياء، فبعث الله تعالى المَلكَيْن ليعلما الناس وجوه السحر حتى يتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة كذباً إنما هم سحرة لا أنبياء كما في قصة موسى مع سحرة فرعون.

 


ملاحظة: استفدت في هذا البحث بتفاسير كثيرة ولم أذكر المصادر. فعدا عن التفاسير القديمة مثل الطبري وابن أبي حاتم ومن مشى على نهجهما مثل ابن كثير والدر المنثور، فهناك تفاسير كانت أكثر نقدا للإسرائيليات مثل مفاتيح الغيب للرازي ومثل تفسير المراغي. كما استفدت من بعض تفاسير بسام جرار.