بيان تحريم نكاح المتعة

معنى المتعة

قال الشافعي في "الأم" (5|79): «وجماع نكاح المتعة المنهي عنه: كل نكاح كان إلى أجل من الآجال، قَرُبَ أو بعد. وذلك أن يقول الرجل للمرأة "نكحتك يوماً" أو "عشراً" أو "شهراً" أو "نكحتك حتى أخرج من هذا البلد" أو "نكحتك حتى أصيبك فتحلين لزوج فارقك ثلاثاً" أو ما أشبه هذا مما لا يكون فيه النكاح مطلقاً لازِماً على الأبد أو يحدث لها فرقة».

 

بيان المتعة في السنة

اتفق العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجاز متعة النساء للمجاهدين مع قلة النساء. ثم ثبت عنه تحريمها. كل هذا لا خلاف فيه، لكن ذهب ابن عباس وحده –خلافاً لسائر الصحابة– إلى أن هذا التحريم غير دائم، بل هو نتيجة لذهاب الضرورة التي أباحت المتعة. وخالفه باقي الصحابة وقالوا بأن التحريم باق إلى يوم القيامة. فإذا اختلف الصحابة في مسألة، أخذنا بقول جمهورهم وأكابرهم وبخاصة الخلفاء الراشدين منهم. هذا إذا لم يكن من نص يحسم المسألة، فكيف والنص النبوي المُحكَم موجود مرويٌّ في الصحيح. فإن الواجب عند التنازع رد النزاع إلى الله ورسوله. قال مسلم في صحيحه (2|1023 #1406): حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير (ثبت): حدثنا أبي (ثبت): حدثنا عبد العزيز بن عمر (بن عبد العزيز الأموي): حدثني الربيع بن سبرة الجهني (ثقة)، أن أباه حدثه: أنه كان مع رسول الله r فقال: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء، فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً».

قال النووي: «وفي هذا الحديث: التصريح بالمنسوخ والناسخ في حديث واحد من كلام رسول الله r، كحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". وفيه: التصريح بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة، وأنه يتعين تأويل قوله في الحديث السابق أنهم كانوا يتمتعون إلى عهد أبي بكر وعمر، على أنه لم يبلغهم الناسخ كما سبق».

حديث سبرة هذا جاء من عدة روايات جميعها عن ولده الربيع. وعنه: عمر بن عبد العزيز، صالح، الزهري، عبد العزيز بن الربيع، عبد الملك بن الربيع، عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عمارة بن عزية، الليث بن سعد. وأقواها سنداً التي عن الزهري لكنها مختصرة. وأتمها: رواية عبد العزيز، لكن اختلف عنه إن كان ذلك في سنة حجة الوداع أم في عام الفتح. قال البيهقي: «رواية الجمهور عن الربيع بن سبرة أن ذلك كان زمن الفتح». وهو اختيار مسلم في صحيحه. قال ابن حجر: «والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر».

 

عبد العزيز هو ابن الخليفة الأموي الراشد عمر بن العزيز رحمه الله. وإليك أقوال العلماء فيه:

يحيى بن معين: «ثقة». وفي رواية: «ثبت، روى شيئاً يسيراً». وابن معين فيه تشدد، وعبارة "ثبت" هي أعلى درجات التوثيق.

أبو داود: «ثقة».

ابن عمار الموصلي: «ثقة، ليس بين الناس فيه اختلاف». وهذه عبارة مهمة، لأنه نقل إجماع الناس على توثيقه.

أبو نعيم: «هو ثقة».

أبو زرعة: «لا بأس به».

أبو حاتم: «يكتب حديثه».

أبو مسهر: «ضعيف الحديث».

و ذكره ابن حبان في "الثقات"، و قال: «يخطئ. يعتبر حديثه إذا كان دونه ثقات». قلت: لقد احتج به ابن حبان في صحيحه وأخرج له هذا الحديث. فهو ليس مما أخطأ فيه.

وقال ابن حجر في التقريب: «صدوق يخطئ». وقول ابن حجر صدوق ليس بجرح. لأن له اصطلاح خاص بكلمة صدوق في كتابه التقريب. فقد قال: «الصدوق، الثبت الذي يهم أحيانا - وقد قبله الجهابذة النقاد، وهذا يحتج به».

وقال الخطابي: «وقد ضعف أحمد بن حنبل هذا الحديث، وقال: "إن راويه عبد العزيز ليس من أهل الحفظ والإتقان"، وقال ابن المنذر: "لم يروه غير عبد العزيز بن عمر، وهو شيخ ليس من أهل الحفظ، وقد اضطربت روايته فيه"». قلت: كلامهما –إن صحت نسبته إليهما– هو عن حديث "هو أحق الناس به، محياه ومماته". وهو حديث ضعيف لكن الحمل فيه ليس على عبد العزيز بل على رجل مجهول (ابن موهب). قال ابن القطان: «وعبد العزيز هذا ليس به بأس، والحديث من أجل عبد اللّه بن موهب هذا لا يصح». وكذلك رجح الشافعي ويعقوب الفسوي والبخاري وغيرهم، أن الحمل على ابن موهب وليس على عبد العزيز.

وقول أحمد –إن صح عنه–: «ليس هو من أهل الحفظ و الإتقان». فسره ابن حجر: «يعني بذلك سعة المحفوظ، وإلا فقد قال يحيى بن معين: "هو ثبت روى شيئاً يسيراً"». لكن القول الذي نقله الخطابي عن أحمد لا يثبت عنه. لذلك قال ابن حجر في "مقدمة الفتح": «لم يثبت عن أحمد تضعيفه». ولذلك لم يذكر الذهبي قول أحمد أصلاً، فضلاً عن قول ابن المنذر.

قال الذهبي في "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب" (ص128): «وثقوه، ولينه أبو مسهر فقط بلا حجة». وقال في الميزان (4|369): «صح (علامة اعتماد توثيقه). عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي. وثقه جماعة، وضعفه أبو مسهر وحده». وقال الذهبي في الكاشف: «ثقة».

وروى عنه جمعٌ من الثقات ممن لا يروون إلا عن ثقة مثل شعبة ويحيى بن سعيد القطان.

وأخرج حديثه الجماعة.

 

أقول فلا يقبل الجرح المبهم غير المفسر مع توثيق الجماعة، خاصة أن توثيقهم قوي. فقد وثقه يحيى بن معين وأبو داود والنسائي وأبو زرعة وابن عمار وأبو نعيم وشعبة ويحيى القطان، واحتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما. فهذا ثقة بلا ريب، والحديث صحيح بإجماع علماء الحديث.

 

حجج من قال بتحليل المتعة

1-      احتجوا بأنه قد جاء في مصحف أبي: "فما استمتعتم به منهن إلى أجَلٍ مُسَمّى فآتوهن أجورهن".

إذ أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن سعيد بن جبير قال: «في قراءة أبيّ بن كعب: "فما استمتعتم به منهن إلى أجَلٍ مُسَمّى"». وقيل أن الذي أخبره بذلك ابن عباس. ورُوي ذلك عن السدّي الكبير كذلك.

قال إمام المفسّرين الطبري في تفسيره (5|13): «وأما ما رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"، فقراءةٌ بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين. وغير جائزٍ لأحدٍ أن يُلحِقَ في كتاب الله تعالى شيئاً لم يأتِ به الخبرُ القاطع الْعُذْر عَمَّنْ لَا يَجُوز خِلَافه».

قال الجصاص في "أحكام القرآن" (3|97): «وأما احتجاج من احتج فيها بقوله تعالى {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن}، وأن في قراءة أبي: "إلى أجل مسمى"، فإنه لا يجوز إثبات الأجل في التلاوة عند أحد من المسلمين. فالأجل إذاً غير ثابت في القرآن. ولو كان فيه ذكر الأجل، لما دل أيضاً على متعة النساء. لأن الأجل يجوز أن يكون داخلاً على المهر. فيكون تقديره: "فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمى، فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل". وفي فحوى الآية من الدلالة على أن المراد النكاح دون المتعة ثلاثة أوجه. أحدها: أنه عطف على إباحة النكاح في قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. وذلك إباحة لنكاح من عدا المحرمات لا محالة، لأنهم لا يختلفون أن النكاح مراد بذلك. فوجب أن يكون ذكر الاستمتاع بيانا لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق. والثاني: قوله تعالى {محصنين}. والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح، لأن الوطئ بالمتعة لا يكون محصناً ولا يتناوله هذا الاسم. فعلمنا أنه أراد النكاح. والثالث: قوله تعالى {غير مسافحين}. فسمى الزنا سفاحاً لالتقاء أحكام النكاح عنه: من ثبوت النسب، ووجوب العدة، وبقاء الفراش، إلى أن يحدث له قطعاً. ولما كانت هذه المعاني موجودة في المتعة، كانت في معنى الزنا. ويشبه أن يكون من سماها سفاحاً ذهب إلى هذا المعنى: إذا كان الزاني إنما سمي مسافحاً لأنه لم يحصل له من وطئها –فيما يتعلق بحكمه– إلا على سفح الماء باطلاً من غير استلحاق نسب به، فمن حيث نفى الله تعالى بما أحل من ذلك وأثبت به الإحصان اسم السفاح، وجب أن يكون المراد بالاستمتاع هو المتعة، إذ كانت في معنى السفاح. بل المراد به النكاح. وقوله تعالى {غير مسافحين} شرط في الإباحة المذكورة. وفي ذلك دليل على النهي عن المتعة. إذ كانت المتعة في معنى السفاح من الوجه الذي ذكرنا».

 

2-      زعموا بأن قوله تعالى {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن}، يقصد به نكاح المتعة.

جاء في "نواسخ القرآن" (1|125): «وهذا القول ليس بشيء من وجهين. الأول: أن الآية سبقت لبيان عقدة النكاح بقوله {محصنين} أي متزوجين عاقدين النكاح. فكان معنى الآية: "فما استمتعتم به منهن على وجه النكاح الموصوف، فآتوهن مهورهن". وليس في الآية ما يدل على أن المراد نكاح المتعة الذي نهي عنه، ولا حاجة إلى التكلف. وإنما جاز المتعة برسول الله ثم منع منها».

قال ابن الجوزي في "زاد المسير" (2|53): وقد تَكَلَّفَ قومٌ من مفسِّري القُرّاء، فقالوا: "المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نُسِخَتْ بما رُوِيَ عن النبي r أنه نهى عن متعة النساء". وهذا تكَلّفٌ لا يُحتاجُ إليه، لأن النبي r أجاز المتعة ثم مَنع مِنْها. فكان قوله منسوخاً بقوله. وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: من الآية24). فدَلَّ ذلك على النِّكاحِ الصحيح. قال الزّجّاج (من كبار علماء اللغة): "ومعنى قوله {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}: فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت –وهو قوله {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: أي عاقدين التزويج– {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: أي مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ وجهل اللغة"».

وقال العلامة ابن المنظور في "لسان العرب" (8|329): «وأما قول الله –عز وجل– في سورة النساء بعقب ما حرم من النساء، فقال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: من الآية24) أي عاقدي النكاح الحلال غير زناة {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. فإن الزجاج ذكر أن: "هذه آية غلط فيها قوم غلطاً عظيماً لجهلهم باللغة. وذلك أنهم ذهبوا إلى قوله فما استمتعتم به منهن من المتعة، التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام! وإنما معنى فما استمتعتم به منهن فما نكحتم منهن –على الشريطة التي جرى في الآية– أنه الإحصان: تبتغوا بأموالكم محصنين، أي عاقدين التزويج. أي فما استمتعتم به منهن على عقد التزويج الذي جرى ذكره، فآتوهن أجورهن فريضة أي مهورهن. فإن استمتع بالدخول بها آتى المهر تاماً، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر"».

وقد أخرج الطبري في تفسيره (5|11): عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: من الآية 24) يقول: «إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صداقها كله. والاستمتاع هو النكاح. وهو قوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: من الآية 4)».

وقوله: "الاستمتاع" أي المذكور في الآية، وليس الكلام عن "متعة النساء". قال أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ (1|329): «فبيَّن ابن عباس أن الاستمتاع هو النكاح، بأحسن بيان. فالتقدير في العربية: فما استمتعتم به ممن قد تزوجتموه بالنكاح مرة أو أكثر من ذلك، فأعطوها الصداق كاملاً، إلاّ أن تهِبه له أو تهِبَ منه».

 

3-      ذهبوا إلى أن المتعة كانت جائزة في حالة الضرورة فقط مثل الخمر ولحم الخنزير، فلا تزال كذلك.

قال الجصاص: «فكان الذي شهر عنه إباحة المتعة من الصحابة عبد الله بن عباس. واختلفت الروايات عنه مع ذلك! فروي عنه إباحتها بتأويل الآية له، قد بينا أنه لا دلالة في الآية على إباحتها. بل دلالات الآية ظاهرة في حظرها وتحريمها من الوجوه التي ذكرنا. ثم روي عنه أنه جعلها بمنزلة الميتة ولحم الخنزير والدم، وأنها لا تحل إلا لمضطر. وهذا محال. لأن الضرورة المبيحة للمحرمات، لا توجد في المتعة. وذلك لأن الضرورة المبيحة للميتة والدم، هي التي يخاف معها تلف النفس إن لم يأكل. وقد علمنا إن الإنسان لا يخاف على نفسه، ولا على شيء من أعضائه، التلف بترك الجماع وفقده. وإذا لم تحل في حال الرفاهية –والضرورة لا تقع إليها– فقد ثبت حظرها واستحال قول القائل: "إنها تحل عند الضرورة كالميتة والدم". فهذا قول متناقض مستحيل. وأخلق بان تكون هذه الرواية عن ابن عباس وهماً من رواتها، لأنه كان –رحمه الله– أفقه من أن يخفى عليه مثله. فالصحيح إذاً: ما روي عنه من حظرها وتحريمها، وحكاية من حكى عنه الرجوع عنها».

 

4-      قالوا: إن كانت المتعة حراماً فلا يجوز أن تكون زنا، لأنها كانت حلالاً، والزنا محرم دوماً.

قال الجصاص في "أحكام القرآن" (3|96): «فإن قيل: لا يجوز أن تكون المتعة زنا، لأنه لم يختلف أهل النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله r، ولم يبح الله تعالى الزنا قط. قيل له: لم تكن زنا في وقت الإباحة. فلما حرمها الله تعالى، جاز إطلاق اسم الزنا عليها، كما روي عن النبي r أنه قال: "الزانية هي التي تنكح نفسها بغير بينة، وأيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر". وإنما معناه: التحريم، لا حقيقة الزنا. وقد قال النبي r: "العينان تزنيان والرجلان تزنيان. فزنا العين النظر، وزنا الرجلين المشي. ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه". فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه، على وجه المجاز إذا كان محرماً. فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة، فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم».

قلت: هذا صحيح. فالزنا هو العلاقة الغير شرعية بين الرجل والمرأة. فأي علاقة يحللها الشرع لا تكون زنا لأنها علاقة شرعية. فإن وقع التحريم، فهذه العلاقة تصبح زنا ولا ريب، لأن الزنا هو العلاقة الغير شرعية. فأي علاقة لا يحلها الشرع زنا. فإن قيل لماذا شرع الله المتعة ابتداءً ثم حرمها؟ قلنا: وكذلك سكت الله تعالى عن الخمر ابتداءً، وشرب منه الصحابة حلالا، ثم حرمه؟ فما يكون جوابهم على هذه، يكون جوابنا على سؤالهم الأول.

 

بعض حجج تحريم المتعة

قال الجصاص: «وأيضاً قد قال ابن عباس (عن المتعة): "إنها ليست بنكاح ولا سفاح". فإذا كان ابن عباس قد نفى عنها اسم النكاح، وجب أن لا تكون نكاحاً. لأن ابن عباس لم يكن ممن يخفى عليه أحكام الأسماء في الشرع واللغة. فإذا كان هو القائل بالمتعة من الصحابة، ولم يرها نكاحاً ونفى عنها الاسم، ثبت أنها ليست بنكاح».

وقد أجمع العلماء على أن المتعة ليست زواجاً، وأنها لا تحصن الرجل أو المرأة، وأن المتمتعة ليست زوجة ولا ملك يمين. قال الشافعي: «قد أجمعوا أنها ليست زوجة ولا ملك يمين». وهذا مروي عن ابن عباس كذلك. إذ أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد (وثقه العجلي) قال: «سألت ابن عباس عن المتعة: أسِفاحٌ هيَ أم نِكاح؟». فقال: «لا سفاح ولا نكاح». قلت: «فما هي؟!». قال: «هي المتعة كما قال الله». قلت: «هل لها من عدة؟». قال: «نعم. عدتها حيضة». قلت: «هل يتوارثان؟» قال: «لا».

ومن البعيد جداً أن يأتي تشريع علاقة حلال بين الرجل والمرأة ليس بزواج ولا بملك يمين، ثم لا نجد ما يبين أحكام هذا التشريع من قرآن أو حديث صحيح أو حتى حديث موضوع! فلا نجد ذكراً لبعض أحكامه، إلا في النقل السابق الموقوف على ابن عباس. إلا إن كان ذلك الحكم منسوخاً، فلا غرابة أن لا يصلنا أي حديث في تفصيله، إذ لا جدوى من ذلك بعد ثبات التحريم.

 

مواقف الصحابة وأعلام السلف من المتعة

ينسب الشيعة الإمامية تحليل المتعة إلى كثيرٍ من الصحابة والتابعين، بعد نهي عمر. وهذا كذبٌ صريحٌ كما سنرى عند التحقيق.

 

ابن عباس

لا يعرف عن صحابي بقي على المتعة بعد نهي عمر، إلا ابن عباس. ولم يظهر رأيه إلا في عهد متأخر كذلك. ومن الواضح أن ابن عباس لم يتابعه أحد من الصحابة، وإنما تفرد برأيه من بينهم. وإلا لما سار الركبان بفتوى ابن عباس، ورويت فيها الأشعار، وتندر بها الظرفاء.

فعن سالم بن عمر: قيل لابن عمر: «إن ابن عباس يرخِّص في متعة النساء». فقال: «ما أظن ابن عباس يقول هذا». قالوا: «بلى، والله إنه ليقوله». قال: «أما والله ما كان ليقول هذا في زمن عمر. وإن كان عمر ليُنَكّلَكُم عن مِثْلِ هذا. وما أعلمه إلا السِّفاح». وهذا غاية في الصحة. فانظر كيف يستبعد ابن عمر أن يقول ابن عباس مثل هذا. ولو كان قولاً شائعاً والخلاف فيه سائغاً، لما أنكر ذلك. وقد روي كذلك عن سالم: أتى ابن عمر فقيل له: «إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة». فقال: «معاذ الله! ما أظن ابن عباس يفعل هذا». فقيل: «بلى». قال: «وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله إلا غلاماً صغيراً؟». ثم قال ابن عمر: "نهانا عنها رسول الله. وما كُنَا مُسافِحين».

فهذا دليلٌ على أن ابن عباس لم يجرئ على البوح بمذهبه على عهد عمر. ولو كان عنده دليلٌ عليه لتكلم. وإنما أظهر مذهبه على عهد عليّ فأنكر عليه ذلك وعنّفه وقال له: «إنك امرؤٌ تائه» (كما في الصحيح)، ولم يستطع ابن عباس أن يجيبه. وكذلك قال له ابن الزبير: «إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة». ولم يكن كل هذا التعنيف من الصحابة والإنكار من التابعين عليه، لولا أنه تفرد بهذا الرأي.

على أن ابن عباس لم يكن يجيز المتعة بإطلاقها، بل قيدها بالجهاد والحال الشديد وطول العزبة وقلة النساء. قال البخاري في "صحيحه": حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس: سُئِلَ عن متعة النساء فرَخَّص، فقال له مولى له (لعله عكرمة): «إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة؟». - أو نحوه-. فقال ابن عباس: «نعم». قال أبو بكر الإسماعيلي في "مستخرجه": أنبأ يوسف القاضي: ثنا عمرو بن مرزوق: أنبأ شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: أنه سُئِلَ عن متعة النساء، فقال مولى له: «إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل؟!». قال: فقال ابن عباس: «صدق». ورواية الاسماعيلي أقوى، لأن الراوي لم يشك في اللفظ. فتعين أن ابن عباس لا يجيز المتعة إلا للرجل الذي يخرج للغزو والجهاد، ولا يجد امرأة، ويشتد عليه الأمر.

وقد روي عن ابن عباس كذلك رجوعه عن فتواه قبل وفاته. قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (3|158): وروينا في كتاب "الغرر من الأخبار" لمحمد بن خلف القاضي المعروف بوَكِيع، نا علي بن مسلم (بن سعيد الطوسي، ثقة)، نا أبو داود الطيالسي (ثقة)، نا حويل (تصحيف حميد) أبو عبد الله (حميد بن مهران، ثقة)، عن داود بن أبي هند (ثقة متقن)، عن سعيد بن جبير (ثبت فقيه)، قال: قلت لابن عباس: «ما تقول في المتعة؟ فقد أكثر الناس فيها حتى قال فيها الشاعر». قال: «وما قال الشاعر؟». قلت: قال:

قَدْ قُلْت لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَحْبِسُهُ + يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ؟

هَلْ لَك فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ + تَكُونُ مَثْوَاك حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ؟

قال: «وقد قال فيها الشاعر؟». قلت: «نعم». قال: «فكرهها أو نهى عنها». والقصة ليس فيها حديث مرفوع حتى نجدها في كتب السنة الستة، إنما هي من الأخبار المتفرقة. وجاء في مصنف عبد الرزاق (7|502 #14039): عن معمر عن الزهري قال: «ازدادت العلماء لها مقتاً حين قال الشاعر: "يا صاح هل لك في فُتيا ابن عباس..."». وقد رويت الأبيات بلفظ مشابه: «أقول للركب إذ طال الثواء بنا * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس. في بضة رخصة الأطراف ناعمة * تكون مثواك حتى مرجع الناس». وهذا شاهد لما سبق.

أخرج أبو عوانة في صحيحه (3|22)، من طرق عن عبد الله بن وهب (ثبت)، قال : أخبرني يونس (ثقة): قال ابن شهاب (ثبت): وسمعت الربيع بن سبرة (ثقة) يحدث عمر بن عبد العزيز، وأنا جالس أنه، قال: «ما مات ابن عباس حتى رجع عن هذه الفُتيا». وهذا غاية في الصحة. قال أبو عوانة (#4057): حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، ثنا عمي، ح وحدثنا محمد بن يحيى، ثنا هارون بن معروف، وأبو سعيد الجعفي، قالا: أنبا ابن وهب، ح وحدثنا محمد بن عوف، ثنا أصبغ بن الفرج، عن عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب... أقول: عبد الله بن عباس وسبرة بن معبد كلاهما مدنيان. الأول توفي سنة 70هـ وعمره 72 سنة. والثاني توفي في خلافة معاوية أي قبل سنة 60، وهو أقدم من ابن عباس لأنه كان شاباً في عام الفتح (في الصحيح: "و كنت أَشَبُّ منه فإذا نظرت إلى رداء صاحبى أعجبها، و إذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت أنت و رداؤك يكفيني"). والربيع قد روى عن أبيه وعن عمرو بن مرة اللذان توفيا في خلافة معاوية. فلا ينكر عليه أن يحدث عن بلديه ابن عباس، وقد حدّث عمن هم أقدم وفاة منه.

قال الجصاص في "أحكام القرآن" (3|96): «ومما يدل على رجوعه عن إباحتها، ما روى عبد الله بن وهب (ثقة ثبت فقيه) قال: أخبرني عمرو بن الحارث (ثقة فقيه) أن بكير بن الأشج (أبو يوسف المدني، ثقة ثبت فقيه) حدثه أن أبا إسحاق مولى بني هاشم (أحسبه ثقة) حدثه أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: "كنت في سفر ومعي جارية لي ولي أصحاب، فأحللت جاريتي لأصحابي يستمتعون منها". فقال: "ذلك السفاح". فهذا أيضا يدل على رجوعه».

 

علي بن أبي طالب

روى الطبري أنه سُئِلَ "الحكم" الشيعي عن الآية التي يزعمون كذباً أنها نزلت في المتعة: «أمنسوخة هي؟». قال: «لا. قال علي: "لولا أن عمر t نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي"». قلت: وهذا الذي قاله الحكم الشيعي كذبٍ صريح، وأن علياً t ما قال ذلك، بل الثابت عنه في الموطأ والصحيحين وغيرهما أنه كان يرى المتعة محرمة وأنه أنكر بشدة على ابن عباس إباحتها حتى قاله له: «إنك أمرؤٌ تائه». والراوي عنه للتحريم هو ابنه، وهو أعلم الناس به. وأما الحكم فكوفيٌّ ضعيفٌ عند أهل الحديث، عدا أنه –باتفاقهم– لم يلق علياً، وروايته عنه منقطعة.

مع العلم أن السنة والشيعة يتفقون على أن علياً قد روى عن رسول الله r تحريم المتعة. إلا أن الشيعة الإمامية يحملون ذلك على التقية، بينما ينكر ذلك أهل السنة وكذلك الشيعة الزيدية والإسماعيلية.

وأخرج عبد الرزاق (7|501): عن معمر عن الزهري: أن حسناً وعبد الله ابني محمد أخبراه: عن أبيهما محمد بن علي (ابن الحنفية) أنه سمع أباه علي بن أبي طالب يقول لابن عباس –وبلغه أنه يرخّص في المتعة– فقال له علي: «إنك امرؤٌ تائه. إن رسول الله r نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية». وأخرجه مسلم في صحيحه (3|1535 #1407)، من طريق مالك عن الزهري بإسناده أن رسول الله صلى r نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. والحكمة في جمع علي بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معاً، فرد عليه علي في الأمرين معاً وأن ذلك يوم خيبر. فإما: أن يكون النهي عنهما وقع في زمن واحد، أي أن الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ علياً لقصر مدة الإذن وهو ثلاثة أيام. وإما أن يكون تحريم الحمر الأهلية في غزوة خيبر، ثم وقع تحريم المتعة بعدها بقليل في عام الفتح.

قال ابن عيينة: «يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة». قال ابن عبد البر: «وعلى هذا أكثر الناس». وقال أبو عوانة في صحيحه: سمعت أهل العلم يقولون: «معنى حديث علي أنه: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها. وإنما نهى عنها يوم الفتح».

أما عن زمن وقوع تحريم المتعة فقد قال ابن حجر: «لا يصح من الروايات شيء بغير علة، إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر –وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة– ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء، فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك، فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديما ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي، أو كان النهي وقع قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك. على أن في حديث أبي هريرة مقالا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار، وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر، فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع، فهو اختلاف على الربيع بن سبرة. والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر. فإن كان حفظه، فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله –صلى الله عليه وسلم– أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن –كما قلنا– صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح. وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم».

 

جابر بن عبد الله:

أخرج مسلم: حدثنا حامد بن عمر البكراوي: حدثنا عبد الواحد –يعني ابن زياد–، عن عاصم، عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: «ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين». فقال جابر: «فعلناهما مع رسول الله r، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما».

قال النووي: «هذا محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ. وقوله "حين نهانا عنه عمر" يعني حين بلغه النسخ». قال ابن حجر: «فإن كان قوله "فعلنا" يعم جميع الصحابة، فقوله "ثم لم نعد" يعم جميع الصحابة، فيكون إجماعاً! وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيناها... وإنما قال جابر "فعلناها" وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة، بل يصدق على فعل نفسه وحده».

فإن قيل: هل يمكن تغيب سنة عن جابر وهو صحابي؟ أقول: نعم. لقد غاب عن علم عمر حكم الاستيذان، ووعاه أبو موسى وأبو سعيد وأبي. وكان حكم تحريم المتعة عند عمر وعلي وغيرهما، وغاب عن ابن عباس. وكان حكم الإجلاء عند ابن عباس، نسيه عمر سنتين فلما ذكر أجلى أهل الذمة. وكان حكم الجدة عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، ولم يعلمه أبو بكر وعمر. وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان، وغفل عنه عمر. وابن عمر لم يلتفت إلى رواية إجارة كلب الزرع، وكان ذلك عند أبي هريرة محفوظاً. ولذلك قال الشافعي: «ما منا من أحد إلا وتعزب (أي تغيب) عنه سُنّة».

وقد سبق النقل أن عمر بن الخطاب إنما نهى عنها بسبب تحريم رسول الله r لها. فقال: «والله لا أعلم أحداً يتمتّع وهو محصنٌ إلا رجمته بالحجارة، إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلّها بعد إذ حرّمها». قال الطحاوي: «خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي r، فلم ينكر عليه ذلك منكر. وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه».

ولا يعرف عن صحابي أظهر خلاف عمر، إلا ابن عباس. ولم يظهر رأيه إلا في عهد متأخر كذلك. وبيان ذلك في كلامنا عن ابن عباس.

 

عبد الله بن الزبير:

أخرج مسلم من طريق ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: «إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة»، يعرض برجل (يعني ابن عباس). فناداه (يعني ابن عباس) فقال: «إنك لجلف جاف. فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين»، يريد رسول الله r. فقال له ابن الزبير: «فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك».

 

أبو هريرة:

قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3|26): حدثنا أبو بكرة قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل (ليّن) قال ثنا عكرمة بن عمار (جيد إلا في يحيى بن أبي كثير) عن سعيد بن أبي سعيد المقبري (ثقة) عــن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله r في غزوة تبوك فنزل ثنية الوداع. فرأى مصابيح ونساء يبكين، فقال: «ما هذا؟». فقيل: «نساء تمتع بهن أزواجهن وفارقوهن». فقال رسول الله r: «إن الله حرم –أو هدر– المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث». وأخرجه البيهقي في سننه (7|207) من طريق مؤمل. والحديث حسّنه ابن حجر، وله شاهد عند الطبراني من حديث جابر من طريق صدقة بن عبد الله. ومذهبنا أن لا نحتج بالحديث الحسن.

 

عمران بن حصين:

أما حديث عمران بن حصين، فهو ليس في زواج المتعة، بل هو في متعة الحج! ولهذا أورده البخاري مختصراً برقم 1496 في "باب الحج" بهذا النص: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا همام، عن قتادة قال: حدثني مطرف عن عمران t قال: «تَمَتَّعْنَا على عهد رسول الله r. فنزَل القرآن. قال رجلٌ برأيه ما شاء». وأخرجه مسلم في "باب الحج" كذلك: حدثنا حامد بن عمر البكراوي ومحمد بن أبي بكر المقدمي قالا: حدثنا بشر بن المفضل: حدثنا عمران بن مسلم، عن أبي رجاء قال: قال عمران بن حصين: «نزلت آية المتعة في كتاب الله -يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله r، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها r، حتى مات قال رجل برأيه بعد ما شاء».

وهو عند النسائي في "مناسك الحج". وكذلك أخرجه الدارمي في "المناسك". وأخرجه البيهقي في "باب من اختار التمتع بالعمرة إلى الحج". قال: «حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك: أنبأ عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني: ثنا يونس بن حبيب: ثنا أبو داود: ثنا شعبة: أخبرني حميد بن هلال العدوي: سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير، يحدث عن عمران بن حصين قال: قال لي: ألا أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفعك به؟ إن رسول الله r جمع بين حجة و عمرة، ثم لم ينه عنه، و لم ينزل قرآن يحرمه. و إنه قد كان يسلم علي، فلما اكتويت، انقطع عني. فلما تركت عاد إلي، يعني الملائكة. أخرجه مسلم في الصحيح من حديث شعبة».

فيتضح من جمع طرق الحديث أنه يتحدث بشكل خاص على متعة الحج التي هي الجمع بين الحجة والعمرة، وليس عن متعة النساء. وهذا بإجماع أئمة الحديث الذين هم أهل هذا الشأن.

 

عبد الله بن مسعود:

لم يذكر أحد من العلماء أن ابن مسعود قد اختلف مع عمر في المتعة. بل هو من أتبع الناس لعمر. والمنقول عنه تحريم المتعة.

أخرج عبد الرزاق في مصنفه (7|506 #14048): عن ابن عيينة (الإمام الثبت المشهور) عن إسماعيل (بن أبي خالد، ثقة ثبت) عن قيس (بن أبي حازم، ثقة مخضرم احتج به الشيخان) عن عبد الله بن مسعود قال: «كنا نغزو مع رسول الله r، فتطول عزبتنا. فقلنا: "ألا نستخصي يا رسول الله؟". فنهانا، ثم رَخَّصَ أن نتزوج المرأة إلى أجلٍ بالشيء. ثم نهانا عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية».

وأخرج مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني: حدثنا أبي و وكيع وابن بشر، عن إسماعيل، عن قيس قال: سمعت عبد الله يقول: «كنا نغزو مع رسول الله r ليس لنا نساء. فقلنا: "ألا نستخصي؟". فنهانا عن ذلك. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل». ثم قرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. و حدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن إسماعيل بن أبي خالد، بهذا الإسناد مثله.

قال البيهقي: «(أخبرنا) أبو عمرو الأديب أنبأ أبو بكر الاسماعيلي - فذكر الحديث بإسناده عن عبد الله بن مسعود في المتعة (قال عقبه:) و روى أبو معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن عبد الله، هذا الحديث، و قال في آخره: "ثم ترك ذاك". (قال: و في حديث) ابن المصفى، عن ابن عيينة، عن إسماعيل، في آخره: "ثم جاء تحريمها بعد". (و في حديث) عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل، عن قيس: بنسخ ذلك، يعني المتعة». قال ابن حجر: «وقد بينت فيه (حديث ابن مسعود) ما نقله الإسماعيلي من الزيادة فيه المصرحة عنه بالتحريم. وقد أخرجه أبو عوانة، من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفي آخره: "ففعلنا ثم ترك ذلك"».

وظاهر من هذا أن الخلاف في لفظ الحديث هو من إسماعيل بن أبي خالد، حيث ينشط في بعض الأحيان فيذكر الحديث كله، وأحياناً يختصره. وهنا تبرز أهمية جمع طرق الحديث، حتى أن أحمد بن حنبل يقول: «الحديث إذا لم تجمع طرقه، لم تفهمه. والحديث يفسر بعضه بعضاً». وقال يحيى بن معين:  «لو لم نكتب الحديث من مئة وجه، ما وقعنا على الصواب». وقال أبو حاتم الرازي: «لو لم يُكتب الحديث من ستين وجهاً، ما عقلناه». وكل الذين نقلوا عنه تلك الألفاظ عن قيس هم من الثقات. وبجمع ألفاظ الحديث يتبين بوضوح أن المتعة قد جازت في الجهاد مع طول العزبة، ثم نسخها رسول الله r، ونهى عنها. ولهذا شواهد عديدة نقلها فقهاء الكوفة عن ابن مسعود.

فمنها ما رواه محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) في كتاب الآثار (1|152): باب المتعة (#698) حدثنا يوسف عن أبيه (قاضي القضاة) عن أبي حنيفة (الإمام) عن حَمَّاد (فقيه الكوفة) عن إبراهيم (النخعي، أعلم الناس بحديث ابن مسعود) عن عبد الله بن مسعود t أنه قال: «شكونا العزوبة فأُحِلَّت لنا المتعة ثلاثاً قط، ثم نسختها آية النكاح والعدة والميراث». قلت: هذا إسنادٌ رجاله كلهم أئمة فقهاء مشاهير، وهو يصلح في الشواهد.

 

أمنا عائشة:

قال ابن عبد البر في التمهيد (10|116): «وأجمعوا أن المتعة نكاح لا إشهاد فيه ولا ولي، وأنه نكاحٌ إلى أجَلٍ تقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما. وهذا ليس حكم الزوجات في كتاب الله ولا سنة رسوله r». ثم روى عن الحارث بن أبي أسامة (وهو في زوائده للهيثمي ص537) قال: حدثنا بشر بن عمر (ثقة) قال حدثنا نافع بن عمر (ثقة ثبت) عن ابن أبي مليكة (ثقة ثبت فقيه): أن عائشة كانت إذا سَئِلَت عن المتعة، قالت: «بيني وبينكم كتاب الله. قال الله –عز وجل–: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}. فمن ما زوجه الله أو ما ملكه فقد عدا».

 

عمر بن الخطاب:

وزعم بعض الشيعة أن نهي عمر عن المتعة كان لمجرد أنها لم يكن لها شهود. واحتجوا بذلك بخبرٍ موضوعٍ أخرجه عبد الرزاق (#14031) عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم (جيد) أن محمد بن الأسود بن خلف (الخزاعي) أخبره (عن رجلٍ مجهول): «أن عمرو بن حوشب استمتع بجارية بكر من بني عامر بن لؤي فحملت. فذكر ذلك لعمر، فسألها. فقالت: استمتع منها عمر بن حوشب. فسأله، فاعترف. فقال عمر: من أشهدت؟ قال: –لا أدري أقال أمها أو أختها أو أخاها– وأمها. فقام عمر على المنبر فقال: ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولاً ولم يبينها إلا حددته؟». قال (الخزاعي): «أخبرني هذا القول عن عمر من كان تحت منبره سمعه حين يقوله. قال فتلقاه الناس منه». انتهى. قلت: أي أخبره بذلك شخص مجهول. فهذا باطلٌ بلا ريب، خاصة أنه يخالف رواية الثقات.

وقريب منه ما أخرجه عبد الرزاق (7|503 #14038): عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن ربيعة بن أمية بن خلف تزوَّجَ مولدةً من مولدات المدينة بشهادة امرأتين، إحداهما خولة بنت حكيم –وكانت امرأةً صالحة–. فلم يفجأهم إلا الوليدة قد حَمَلت. فذكرت ذلك خولة لعمر بن الخطاب، فقام يجرّ صنفة ردائه من الغضب حتى صعد المنبر فقال: «إنه بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج مولدة من مولدات المدينة بشهادة امرأتين، وإني لو كنت تقدمت في هذا لرجمت». وهذا منقطع، إذ لم يسمع عروة من عمر ولا من عثمان ولا من علي.

وهو كذلك يخالف ما رواه مالك في الموطأ (2|542): عن ابن شهاب (الزهري، ثبت) عن عروة بن الزبير (ثبت): أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب، فقالت: «إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه». فخرج عمر بن الخطاب فَزِعَاً يجُرّ رِداءَهُ، فقال: «هذه المتعة! ولو كنت تقدمت فيها لرجمت». ورواية معمر تخالف كذلك رواية يونس، أخرجها ابن شبة في تاريخ المدينة (2|717) عن هارون بن معروف عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة، وفيه: فلما حملت المولدة من ربيعة ابن أمية فزعت خولة فأتت عمر بن الخطاب فأخبرته الخبر، ففزع عمر، فقام يجر من العجلة ضفة ردائه في الأرض حتى جاء المنبر، فقام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج امرأة سرا فحملت منه، وإني والله لو تقدمت في هذا لرجمت فيه». فلم تكن خولة شاهدة على النكاح لكنها هي التي شكت عمرواً، وليس في هذه الرواية ذكر المتعة بل النهي عن نكاح السر. والصواب ما رواه مالك.

أما الصحيح الثابت عن عمر بن الخطاب، فهو ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3|551): حدثنا عبد الله بن إدريس (ثقة فقيه) عن يحيى بن سعيد (الأنصاري، ثقة ثبت) عن نافع (ثقة ثبت) عن ابن عمر قال: «قال عمر: "لو تَقَدَّمْتُ فيها لَرَجَمْتُ". يعني المُتعة». يقصد: لو أني بيّنتُ لهم التحريم من قبل، لرجمت الذي فعل المتعة. وإسناده صحيح كالشمس، وهو يشهد لما رواه مالك.

وزعم بعض الشيعة أن عمر t قد منع متعة النساء منعاً إدارياً (!) أي لأنه كرهها كما كره متعة الحج، وليس لأنه يرى تحريمها. وهذا هو الكذب الوقح الصريح {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. فكيف يقسم عمر –وهو الصادق البار– على رجم الذي يفعلها إن كان منعه لها لمجرد كراهية؟! بل هو أعلن بصراحة أن سبب رجمه من يفعلها هو أن رسول الله r قد حرّمها تحريماً دائماً إلى يوم القيامة.

وأخرج ابن ماجه في سننه (1|631): حدثنا محمد بن خلف العسقلاني (جيد) ثنا الفريابي (محمد بن يوسف، ثقة) عن أبان بن أبي حازم (جيد) عن أبي بكر بن حفص (ثقة) عن ابن عمر قال: لما وُلِّيَ عمر بن الخطاب، خَطَب الناسَ فقال: «إن رسول الله r أَذِنَ لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرّمَها. والله لا أعلم أحداً يتمتّع وهو محصنٌ إلا رجمته بالحجارة، إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلّها بعد إذ حرّمها». وهذا حديث قال عنه ابن حجر في تلخيص الحبير (3|154): إسناده صحيح. وهو كما قال.

قال الجصاص في "أحكام القرآن" (3|102): «وقال (عمر) في خبر آخر: "لو تقدمت فيها لرجمت". فلم ينكر هذا القول عليه منكر، لا سيما في شيء قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول الله r. فلا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها، فاتفقوا معه على حظرها. وحاشاهم من ذلك، لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمر النبي r عياناً. وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبي r. ولأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام. لأن من علم إباحة النبي r للمتعة، ثم قال: "هي محظورة" من غير نسخ لها، فهو خارج من الملة. فإذا لم يجز ذلك، علمنا أنهم قد علموا حظرها بعد الإباحة، ولذلك لم ينكروه. ولو كان ما قال عمر منكراً، ولم يكن النسخ عندهم ثابتاً، لما جاز أن يقروه على ترك النكير عليه. وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة. إذ غير جائز حظر ما أباحه النبي r إلا من طريق النسخ».

وأخرج عبد الرزاق (#14035): عن معمر، عن الزهري، عن سالم (بن عمر، ثقة ثبت): قيل لابن عمر: «إن ابن عباس يرخِّص في متعة النساء». فقال: «ما أظن ابن عباس يقول هذا». قالوا: «بلى، والله إنه ليقوله». قال: «أما والله ما كان (ليتجرأ) ليقول هذا في زمن عمر. وإن كان عمر ليُنَكّلَكُم عن مِثْلِ هذا. وما أعلمه إلا السِّفاح (أي الزنا)». إسناده في غاية الصحة. وروى ابن أبي شيبة (3|551): حدثنا مروان بن معاوية (ثقة) عن العلاء بن المسيِّب (ثقة) عن أبيه (ثقة) قال: قال عمر: «لو أُتِيتُ بِرَجُلٍ تمتّعَ بامرأةٍ لرجَمتُهُ إن كان أَحصَنَ. فإن لم يكن أحصن ضربتُه».

وروى عبد الزراق (#14024) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس قال: «لم يُرِعْ عمر –أمير المؤمنين– إلا أم أراكة، قد خَرَجَتْ حبلى. فسألها عمر عن حملها فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية بن خلف». قال عمر بن شبة في "أخبار المدينة": «واستمتع سلمة بن أمية من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي. فولدت له، فجحد ولدها... فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة»، ولم يذكر سنده.

لكن روى عبد الزراق (7|500 #14029): عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «قَدِمَ عمرو بن حريث من الكوفة فاستمتع بمولاة. فأتى بها عمر وهي حبلى، فسألها، فقالت: "استمتع بي عمرو بن حريث". فسأله، فأخبره بذلك أمراً ظاهراً. قال فهلا غيرها. فذلك حين نهى عنها». وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بلفظ: «حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث». وأخرجه ابن شبة (2|716) من طريق الأجلح عن أبي الزبير بمتن مخالف، مما يظهر اضطراب أبي الزبير. والرواية شاذة غير محفوظة، وهي من أوهام أبي الزبير. وله نظيرها في طلاق ابن عمر لزوجته كما في سنن أبي داود (2|256). والمعروف –عند أهل السير والتاريخ– أن نهي عمر عن المتعة كان لما سمع أن أحد ابني أمية بن خلف قد فعل المتعة بجهل. قال ابن حجر: «وأما سلمة ومعبد (ربيعة) فقصتهما واحدة، اختلف فيها: هل وقعت لهذا أو لهذا؟».

ثم لم أجد ما يثبت لهذين الصحبة سوى حديث ضعيف، "فذكره لأجله في الصحابة من لم يمعن النظر في أمره" كما قال ابن حجر في الإصابة (2|520). والصواب أن ذلك الحديث عن أمية وليس عن ابنه، وقد وَهِمَ من أثبت لهما الصحبة. كما أنه قد ثبت أن ربيعة بن أمية بن خلف قد هرب من عمر إلى قيصر فتنصّر وارتد عن الإسلام. فإن كانوا يحتجون بعمله في المتعة، فلبئس القدوة هو، نسأل الله أن يحشرهم معه جميعاً {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الحجر:25). {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} (الصافات:22).

 

عبد الله بن عمر

قال ابن حجر في تلخيص الحبير (3|154): «وروى الطبراني في الأوسط (9|119) من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري عن سالم: أتى ابن عمر فقيل له: "إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة". فقال: "معاذ الله! ما أظن ابن عباس يفعل هذا". فقيل: "بلى". قال: "وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله إلا غلاماً صغيراً؟". ثم قال ابن عمر: "نهانا عنها رسول الله. وما كُنَا مُسافِحين" إسناده قوي». والحديث قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (4|265): «رجاله رجال الصحيح، خلا المعافى بن سليمان وهو ثقة».

وروى ابن أبي شيبة (3|551): حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه (ابن عمر) قال: سُئِلَ عن متعة النساء، فقال: «لا نعلَمُها إلا السِّفَاحَ». فهذا صريحٌ في أن ابن عمر يرى أن المتعة هي الزنا بعينه. فإن قيل: لا يجوز أن تكون المتعة زنا لأنها كانت مباحة في أول الأمر، ولم يبح الله تعالى الزنا قط. قيل له: لم تكن زنا في وقت الإباحة، فلما حرمها الله تعالى جاز إطلاق اسم الزنا عليها.

وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عُبَيدة عن عُبَيْدِ الله عن نافع عن ابن عمر، سُئِلَ عن المتعة، فقال: «حرام». فقيل له: «إن ابن عباس يُفتي بها». فقال: «فهلا تَرَمْرَمَ (أي تكلّم) بها في زمانِ عُمَر؟». قلت: فهذا دليلٌ على أن ابن عباس لم يجرئ على البوح بمذهبه على عهد عمر. ولو كان عنده دليلٌ عليه لتكلم. وإنما أظهر مذهبه على عهد عليّ فأنكر عليه ذلك وعنّفه وقال له: «إنك امرؤٌ تائه» (كما في الصحيح)، ولم يستطع ابن عباس أن يجيبه.

 

معاوية بن أبي سفيان:

أخرج عبد الرزاق (7|499): عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله t يقول: «استمتع معاوية ابن أبي سفيان مقدمة من الطائف على ثقيف بمولاة ابن الحضرمي يقال لها "معانة"». قال جابر: «أدركَتْ معناة خلافة معاوية حَيّة». قلت: فهذا صريحٌ أن استمتاع معاوية t كان قبل التحريم، وليس في عهد عمر (وهو من أسمع الناس له) وليس في عهد خلافته.

 

أبو سعيد الخدري:

وروى عبد الرزاق في مصنفه (7|498): عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: وأخبرني من شئت (رجل مجهول)، عن أبي سعيد الخدري قال: «لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقاً». قلت: إسناده ضعيف لأن عطاء يأخذ من الضعفاء. قال ابن حجر: «وهذا –مع كونه ضعيفا للجهل بأحد رواته– ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبي r».

 

سعيد بن المسيب

روى ابن أبي شيبة (3|551): حدثنا عَبدة عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيِّب أنه قال: «رحِمَ الله عمر، لولا أنه نهى عن المتعة صار الزنا جِهاراً».

وقال: حدثنا ابن إدريس عن داود (بن أبي هند، ثقة متقن) عن سعيدِ بن المُسيِّب قال: «نَسَخَت المُتعةَ آية الميراثُ» (إذ المتعة لا ميراث فيها بالإجماع). وأخرجه عبد الرزاق (7|505 #14045): عن الثوري عن داود، بمثله. وأخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ (1|326). وآية الميراث هي: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...} (النساء: من الآية12).

قال أبو جعفر النحاس: «وذلك أن المتعة لا ميراث فيها. فلذلك قال فيها بالنسخ. وإنما المتعة أن يقول لها: "أتزوّجك يوماً –وما أشبه ذلك– على أنه لا عِدَّةَ عليكِ ولا ميراثَ بيننا ولا طلاق ولا شاهداً يشهد على ذلك". وهذا هو الزنا بعينه! ولذلك قال عمر t: "لا أوتى برجُلٍ تزوَّجَ متعةً إلا غيّـبته تحت الحجارة". قُرِئَ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل (بن خالد، ثقة ثبت) عن ابن شهاب قال: قال لي سالم بن عبد الله –وهو يُذاكرني–: "يقولون بالمتعة هؤلاء! فهل رأيتَ نِكاحاً: لا طلاقَ فيه، ولا عِدّةَ له، ولا ميراثَ فيه"؟!».

 

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق

روى عبد الرزاق (#14036) عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: «إني لأرى تحريمها في القرآن». فقلت (الزهري): «أين؟». فقرأ عَلَيَّ هذه الآية {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}. قال أبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" (1|327): «وهذا قولٌ بيّنٌ لأنه: إذا لم تكن تطلَّق ولا تعتدّ ولا ترِث، فليست بزوجة!».

 

مجاهد

وقد ذكر الطبري في تفسيره (5|12): ثلاثة روايات عن مجاهد:

قلت: فهذا اختلاف بيّنٌ بين الروايات عن مجاهد، فالروايتين الأوليتين عن النكاح الدائم، والثالثة عن نكاح المتعة. فنظرنا فإذا الأصل واحدٌ وهو صحيفة القاسم بن أبي بزة عن مجاهد. قال ابن حبان: «ابن أبي نجيح نظير ابن جريج في كتاب القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في التفسير: رويا عن مجاهد من غير سماع». وقد جاء عن ابن جريج أنها النكاح الدائم، واختلف النقل عن ابن أبي نجيح. فنظرنا، فوجدنا التفسير المسند المتصل عن مجاهد هو في النكاح الدائم مطابقاً لقول الجمهور، والغلط من عيسى. قال ابن عبد البر في التمهيد (10|122): حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أصحاب الفضل بن الحباب قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن منصور (ثقة ثبت) عن مجاهد في قوله {فما استمتعتم به منهن} قال: «النكاح». فثبت أن الصواب عن مجاهد هو أن تلك الآية نزلت في النكاح الدائم لا نكاح المتعة، أي مع قول الجمهور. وهذا ما تقتضيه لغة العرب كما اتفق علماء اللغة.

 

ابن جريج:

روى الأبار في تاريخه (كما في تاريخ بغداد 7|255) عن زنيج (ثقة) أنه سمع جرير بن عبد الحميد الضبي (ت188هـ) يقول: «رأيت بن جريج ولم أكتب عنه شيئاً... فإنه أوصى بنيه بستين امرأة، وقال "لا تزوجوا بهن فإنهن أمهاتكم"، وكان يرى المتعة». ومن روى غير هذا الرقم فقد أخطأ. وكان يتزوج من بنات الموالي الذين يزورون مكة. إذ أن الأسر الحجازية ما كانت ترضى بالنهاريات ونكاح النهاريات، فما بالك بالمتعة؟ كما أن الأسر العلية ذات النسب والحسب، لم تكن لتعطي ابن جريج المولى الرومي. ولذلك احتاج لأن يوصي بنيه. على أنه رجع في آخر حياته لما سمع حديث عبد العزيز بن عمر الذي أخرجه مسلم في صحيحه.

أخرج أبو عوانة في مستخرجه على الصحيح (3|31 #4087): حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ويحيى بن أبي طالب قالا: ثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: أنبا عبد الملك بن جريج، عن عبد العزيز بن عمر، أن الربيع بن سبرة، حدثه عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله (ص) حتى إذا كنا بعسفان قال استمتعوا بهذه النساء. فجئت أنا وابن عمي إلى امرأة ببردين فنظرت فإذا برد ابن عمي خير من بردي وإذا أنا أشب منه. قالت برد كبرد. فتزوجتها فاستمتعت منها على ذلك البرد أياما، حتى إذا كان يوم التروية قام النبي (r) بين الحجر والركن فقال: ألا إني كنت أمرتكم بهذه المتعة، وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان استمتع من امرأة فلا يرجع إليها، وإن كان بقي من أجله شيء فلا يأخذ منها مما أعطاها شيئا. قال ابن جريج يومئذ: "اشهدوا أني قد رجعت عنها بعد ثمانية عشر حديثاً أروي فيها لا بأس بها". وهذا إسناد صحيح. فابن جريج يروي في هذه الراوية عن عبد العزيز بن عمر، وقد كان واليا على الحرمين. وابن جريج أكبر منه سنا. وقد توفي عبد العزيز سنة 150 تقريبا، وابن جريج قريب من هذا التاريخ أو بعده. وقد روى عنه ابن جريج بصيغة الإخبار في بعض الروايات، فثبت سماعه منه. فهذا يعني أن ابن جريج سمع الحديث من عبد العزيز بآخرة وتراجع، حيث أن ابن جريج قد رحل إلى البصرة في آخر حياته وحدث بها. وعبدالوهاب لحق ابن جريج في أواخر حياة ابن جريج، فيكون هذا آخر قول لابن جريج رحمه الله.

 

جعفر الصادق:

أخرج البيهقي في سننه الكبرى (7|207): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد ثنا محمد بن عبد الله (بن سليمان المطين الكوفي، ثقة) الحضرمي ثنا إسماعيل بن بهرام (جيد) ثنا الأشجعي (إمام ثبت) عن بسام الصيرفي (شيعي جيّد) قال: سألت جعفر بن محمد (هو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب) عن المتعة، فوصفتها. فقال لي: «ذلك الزنا».

 

 

 

 

 

وفي النهاية أحب أن أعلق مقاطع من كتاب "المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي"، تأليف الشيعي توفيق الفَكيكي، وتحقيق الشيعي هشام همدَر، وذلك لأبيّن أدلة الخصوم التي لم أذكرها أعلاه، لأنها مبنية على التزوير والادعاء الكاذب.

فقد ذكر ص59 «جملة من أسماء الصحابة الذين أباحوا المتعة». لكنه ذكر من بينهم أقواماً متفق بين السنة والشيعة على أنهم ليسو من الصحابة، وما ذاك إلا محاولة رخيصة مفضوحة لاستهبال القراء والكذب عليهم. فيذكر مثلاً السدي الكبير، وهو رافضي كذاب، فما قيمة أقواله؟! ويذكر أقواماً ليسو من التابعين كذلك (رغم أن هذا البحث مخصص للصحابة). فقد نسب –على سبيل المثال– فتوى إباحة المتعة للإمام مالك بن أنس!! مع أن الجميع يعرف أن هذه تهمة افتراها عليه خصومه من الأحناف المتأخرين تشنيعاً عليه وتشويهاً لصورته. وقد أنكرها المالكية كلهم، وهم أدرى به. بل إنه قد نص على تحريمها في "المدونة" و "الموطأ".

وأحياناً يقوم الكاتب بإعادة إسم الشخص لأكثر من مرة بغرض تكثير العدد. فيذكر "ابن جريج" ثم يذكر "عبد الملك بن عبد العزيز المكي". مع أنهما شخص واحد! مع العلم أنه قد ثبت في صحيح ابن عوانة رجوعه عن إباحة المتعة. ويذكر أقواماً مجاهيل كذلك، مثل "زفر بن أوس المدني" وهو تابعي مجهول، عدا أنه لم يثبت عنه أصلاً إباحة المتعة. ويذكر أقواماً من الكفار ويحتج بفعلهم، حشره الله معهم. فمن ذلك احتجاجه بـ"ربيعة بن أمية الثقفي" الذي شرب الخمر ثم ارتد وتنصّر وهرب لبلاد الروم أيام عمر. فكيف يكون حجة في دين الله؟ وقد احتج الكاتب كذلك بفعل أخيه "معبد بن أمية الجمحي" الثقفي، مع العلم أنه مجرد رجل عامي جاهل، قد فعل المتعة عن جهل، فنهاه سيدنا عمر t فانتهى. فأين الحجة؟ ثم ذكره الكاتب مرة أخرى تحت اسم "سلمة بن أمية الجمحي"، وهو نفس الشخص لكن الكاتب الشيعي يستهبل قراءه.

ويذكر من هؤلاء كذلك "الحكم"، وهو كوفي شيعي ضعيف، ليس من العلماء ولا من الصالحين، فما قيمة رأيه؟ ثم إن الكاتب يعتمد على المراجع الشيعية المعروفة بالكذب، كما في نسبته إباحة المتعة لسيدنا الزبير t (وحاشاه من ذلك) استناداً إلى مصدر شيعي في النوادر! مع العلم أن راوي القصة معروف بالكذب عند أهل السنة، فلذلك لم يذكر المصدر السني.

ومن الطرائف أيضاً أن يحتج بفعل معاوية بن أبي سفيان t. ومنذ متى كان الشيعة يحتجون بمعاوية؟! مع العلم أن معاوية t قد تمتع في عهد النبوة، ثم انتهى مع النهي، ولم يتمتع لا في عهد عمر ولا في خلافته. كما يقوم بخلط الأقوال كما غير قول ابن عباس فنسبه لخالد بن المهاجر المخزومي. ويحتج بصحابة قد استمتعوا في عهد النبوة قبل التحريم كجابر بن عبد الله t، وهذا احتجاج في غير موضع الخلاف.

كما يعتمد على البتر والتدليس، فيذكر كلام عمران بن الحصين t وأبو ذر الغفاري t عن المتعة، مع أن تمام كلامهما عن متعة الحج لا عن متعة النساء، كما في صحيح مسلم. وكذب بشكل صريح (ص108) فقام بتغيير كلمة "متعة الحج" (في مسند أحمد) إلى "متعة النساء"، معتمداً على أن غالبية قراء كتابه لا يدققون نقله من الكتب الأصلية. وفعل ذلك كذلك (ص143) فقام بتحريف حديث في صحيح مسلم، فغير "تنسخ آية متعة الحج" إلى "تنسخها" ليوهم القارئ أنها متعة النساء. فالكاتب يكذب بصفاقة، ويشير إلى المراجع مع أرقام الصفحات رغم أنها تفضح كذبه. ويراهن على أن أحداً من قراء كتابه لن يجرب أن يرجع إلى تلك المراجع.