تحريم شد الرحال إلى قبر النبي r

قال الفقيه ابن القاسم (صاحب مالك) في "المدونة الكبرى" (2|370): «قال مالك: وناس يقولون "زرنا قبر النبي r". قال (ابن القاسم): فكان مالك يكره هذا ويُعظِّمه أن يقال "إن النبي –عليه الصلاة والسلام– يُزار"».

قال القاضي المالكي عياض: «كراهة مالك له، لإضافته إلى قبر النبي (r)، لقوله (عليه الصلاة والسلام): "اللهم لا تجعل قبري وثَناً يُعبَد. اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك، قطعا للذريعة، وحسماً للباب».

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18|342): «وقد كره الإمام مالك –وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم– كَرِهَ أن يقال: "زرت قبر رسول الله". ولو كان هذا اللفظ ثابتاً عن رسول الله معروفاً عند علماء المدينة، لم يَكره مالك ذلك. وأما إذا قال: "سَلَّمْتُ على رسول الله r"، فهذا لا يُكره بالاتفاق».

يقول الإمام مالك في "المدونة الكبرى" (2|471): «من قال لله علي أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو المشي إلى المدينة أو إلى بيت المقدس، فلا شيء عليه. إلا أن يكون نوى بقوله ذلك أن يصلي بمسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس. فإن كانت تلك نيته، وجب عليه الذهاب إلى بيت المقدس أو إلى مسجد المدينة راكباً. ولا يجب عليه المشي إليه، وإن كان حلف بالمشي، ولا دم عليه».

فانظروا كيف حصر الإمام مالك سفر القربة إلى المدينة أو بيت المقدس فقط إذا كان بنية الصلاة في مسجديهما. وإلا فلا يجب عليه الوفاء بنذره، لأنه لا توجد قربة ينشأ لها سفرا إلى المدينتين إلا الصلاة في المسجدين. رغم أن النبي r مقبور في المدينة، وملاصق للمسجد. فلم يقل مالك "أو نوى زيارة قبره" كما يقرره كثير من متأخري المذاهب. وسبب فتوى مالك أن المرء إذا التزم قربة وطاعة، لزمته، وعليه أن يأتيها. فإن لم يكن ما التزمه قربة (وإن كان حلالاً)، لا يلزمه. قال ابن عبد البر في التمهيد (2|62): «أصل مالك الذي لم يخالفه فيه أحد من أصحابه: أن من نذر ما فيه لله طاعة بما لا طاعة فيه، لزمه الوفاء بما فيه طاعة وترك ما سواه، ولا شيء عليه لتركه. وذلك كمن نذر أن يمشي إلى بيت المقدس للصلاة فيه، فينبغي له أن يقصد بيت المقدس لما في ذلك من الطاعة، وليس عليه قصده ماشياً إذ المشي لا طاعة فيه ولا هدي عليه».

وحتى نتأكد من فهمنا لكلام الإمام مالك –رغم وضوحه–، ننظر إلى فهم أصحابه المتقدمين (وليس المتأخرين). قال ابن عبد الهادي في "الصارم المُنكي": «ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي، أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي r، بل قد قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثـلاثة مساجد". وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة. وقد صرح مالك –وغيره–، بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية: إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي r، وفّى بنذره. وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر –من غير صلاة في المسجد–، لم يف بنذره. قال: لأن النبي r قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد".

ذكره إسماعيل بن إسحاق (قاضي القضاة المالكي الجهضمي، ت282هـ) في "المبسوط". –ومعناه في "المدونة" و "الجلاب"، وغيرهما من كتب أصحاب مالك– يقول: "إن من نذر إتيان مسجد النبي r لزمه الوفاء بنذره، لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره، وإن قصد شيئاً آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره، لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة". وهذا الذي قاله مالك وغيره، ما علمت أحد من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم. وكذلك أصحاب مالك وغيرهم... فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب، كان من فعله –على وجه التعبد– مبتدعاً مخالفاً للاجتماع. والتعبد بالبدعة ليس بمباح».

والمقصود في هذا الموضوع بيان لفظ مالك، وإلا فالمسألة بحثها شيخ الإسلام بتوسع في كتابه العجاب "اقتضاء الصراط المستقيم".

وهذه مسألة أجمع السلف عليها ولم يختلفوا. قال الإمام العلامة محيي الدين محمد بير علي بن إسكندر البركوي الرومي الحنفي في "زيارة القبور" (ص18، ط دار الإفتاء). حاكياً إجماع المسلمين على بدعية السفر إلى زيارة القبور الأنبياء والصالحين: «... ومنها السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم. فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول رب العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين. فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة، فقد خالف الإجماع. ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد، يحرم بإجماع المسلمين». والبركوي إمام معروف أحد كبار علماء الحنفية وأحد قضاة العثمانية. من أشهر كتبه "الطريقة المحمدية". فقد تهافت الحنفية عليه وشرحوه بعدة شروح. وقد ألف رسالة "زيارة القبور" قطع بها دار القبورية وقلع شبهاتهم.