اشتراط الولي في عقد النكاح

أخرج أبو داود والترمذي وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ متصل عن أبي موسى الأشعري t أن رسول الله r قال: «لا نكاح إلا بولي». وهذا صححه البخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والذّهلي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم. وذكر البعض بأنه على شرط البخاري ومسلم.

وقد أسرف بعض فقهاء الحنفية المتأخرين في تضعيف هذا الحديث بالإرسال، رغم أن إمامهم أبا حنيفة قد رواه موصولاً عن أبي إسحاق. وقد احتج به صاحبه محمد بن الحسن الشيباني، ولم نجد أحداً من متقدميهم ضعفه. على أن متأخريهم يزعمون أن الحديث المرسل حجة عندهم. فهو حجة عندهم كيفما روي.

وروى ابن جريج عن سليمان بن موسى الأموي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله r: «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل. ثلاث مرات. فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها. فإن تشاجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له». سليمان بن موسى: وثقه بعضهم، ووثقه ابن معين عن الزهري. لكن قال عنه أبو حاتم: «في حديثه بعض الاضطراب». وقال البخاري: «عنده مناكير». وقال النسائي: «ليس بالقوي في الحديث». وقال ابن حجر: «فيه لين». فتفرد هذا بالرواية عن الزهري غير مقبول أبداً. فأين ذهب أصحاب الزهري الثقات في حديثٍ من أهمّ الأحاديث التي تُروى في النكاح والتي يحتاج إليها الناس؟ عدا أن سماعه من الزهري –لهذا الحديث– فيه خلاف.

وقيل أنه لم يتفرد، بل تابعه حجاج بن أرطأة، لكنه ضعيف مدلس ولم ير الزهري أصلاً باعترافه، كما في التهذيب. وتابعه جعفر بن ربيعة، لكن قال عنه أبو داود: «لم يسمع من الزهري». فرجع الحديث إلى ابن موسى! ولذلك اكتفى الترمذي بتحسينه، وهذا دلالة ضعف سنده. وقد صح عن الزهري وعن أمنا عائشة t خلاف ذلك، أي إجازة النكاح بغير رضى الولي.

وأخرج البخاري (#4843) ومسلم (#1419) من طرق عن يحيى بن أبي كثير، قال حدثنا أبو سلمة، قال حدثنا أبا هريرة أن رسول الله r قال: «لا تُنكَحَ الأيم حتى تُستَأمر، ولا تُنكَح البَكر حتى تُستأذَن». قالوا: «يا رسول الله، وكيف إذنها؟». قال: «أن تسكت». وقد روي كذلك بلفظ "الثيّب" بدلاً من "الأيم". ولعل أبو سلمة كان يروي الحديث بلفظ الأيم، والله أعلم. وسبب إعادة ذكر البكر –رغم أنها مشمولة بذكر الأيم– للتأكيد على أن إذنها قد يكون بسكوتها فقط، بينما لا يكفي السكوت للثيب. وكلاهما يجب أخذ إذنه.

وفي حديثٍ صحيحٍ آخر عند النسائي (6|84) من طرقٍ عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس مرفوعاً: «الأيم أحق بنفسها من وليّها، والبكر تستأذن في نفسها. وإذنها صماتها». رواه أكثر الرواة بهذا اللفظ. ورواه بعضهم بلفظ "الثيّب"، والظاهر أنه مرويٌّ بالمعنى. الأَيِّمُ في الأصل: «التي لا زوجَ لها، بِكْرًا كانت أَو ثَيِّبًا، مطلَّقة كانت أو مُتَوَفّى عنها»، كما في "لسان العرب". ومنه قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ...} (32) سورة النــور. لكن قال بعض العلماء أن المقصود هنا هي الثيب فقط.

واختلف العلماء في مسألة تزويج المرأة على مذاهب البالغة:

1– مذهب من قال بأن النكاح يستلزم موافقة الولي فحسب. أي للولي (وقيل الأب خصوصاً) تزويج المرأة لمن أراد: شاءت أم أبت. وأجمعوا على هذا في الصغيرة غير البالغة (عند من أجاز نكاحها، وهم الجمهور). على أن البعض قال بتخييرها عند البلوغ، قياساً على الجارية التي تخيَّر عند إعتاقها. وجعل بعضهم هذا الزواج القهري للبكر فحسب (بالغة كانت أم صغيرة).

وشذّ الحسن البصري وإبراهيم النخعي فأطلقاه في سائر النساء، وهو خلاف الحديث المرفوع المتفق عليه، فلعله لم يبلغهما. وقد روي عن إبراهيم خلاف ذلك، مما يدل على رجوعه. قال إسماعيل: «لا نعلم أحداً قال في الثيب بقول الحسن. وهو قول شاذ. فإن الخنساء زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فرد رسول الله r نكاحه». قال ابن عبد البر: «وهو حديث مجمعٌ على صحته، و لا نعلم مخالفا له إلا الحسن».

هذا وقد جاءت الأحاديث الصحيحة المرفوعة في النهي عن إكراه المرأة البكر والثيب على الزواج ممن لا تقبل به. فلا يحل لمسلم يتقي الله ويؤمن بالله وما أنزل إلى رسوله r أن يفتي بهذا المذهب. وليُنظَر في صحيح البخاري (5|1974): «باب: لا ينكح الأب وغيره البكر أو الثيب إلا برضاها». وأخرج (#4845): من طريق مالك (وهي في الموطأ 2|535) عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد بن جارية، عن خنساء بنت خِذام الأنصارية t: أن أباها زَوَّجَها –وهي ثيّب– فكرهت ذلك. فأتت رسول الله r، فردّ نكاحه. فلم يستفسر رسول الله r هل هي ثيب أم بكر؟ ولا استفصل عن ذلك. ولو كان الحكم يختلف بذلك، لاستفصل وسأل عنه. أو لأخبر بذلك أصحابه، ولم يبهم الأمر. وتأخير البيان –بغير حاجة– متعذّر. والحديث قد رواه سفيان الثوري (من رواية ابن المبارك) –كما في سنن النسائي الكبرى (3|282 #5382)– عن عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد بن وديعة عن الخنساء، فنصت بنفسها على أنها كانت بكراً، وليست ثيباً كما ذكر مالك. وسفيان الثوري هو في أعلى مراتب الحفظ، وهو أحفظ من مالك حتى أنه كان يقول (كما في تاريخ بغداد 9|164): «مالك ليس له حفظ»، ويقصد مقارنة بطبقته من أئمة أهل الحديث الكبار. وقال الإمام يحيى بن معين –كما في تاريخ بغداد (9|164)–: «سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إليّ من مالك في كلّ شيء. يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد». وقد رواه يحيى بن سعيد عن القاسم، عن ابني يزيد مرسلاً (كما في سنن البيهقي، وأصله عند البخاري) ولم يذكر أنها ثيب، فخالف مالكاً في المتن والإسناد. انظر علل الدارقطني (15|434 #4128). وعبد الرحمن يقبل تعدد الأسانيد، فمن الممكن -إن كانت رواية مالك محفوظة- أن يكون روى مرة عن أبيه عن ابني يزيد، وروى مرة عن عبد الله عن الخنساء. ولا شك أن الخنساء أعرف بنفسها من ابني يزيد، فصح أنها كانت بكراً.

كما أن في إجبار المرأة على الزواج ممن تكره ظلمٌ وجورٌ لها. فكيف تُحرم من تحديد شريك حياتها وتُكْره على معاشرة من تبغض؟ وليس هناك ظلم مثل أن تغيب المرأة عن الاختيار الذي سيلزمها طوال الحياة.

2– مذهب من قال بأن النكاح يستلزم موافقة الولي والمرأة معاً، على أن يباشر هو عقدة النكاح. فأجمعوا (إلا قولاً شاذاً للحسن) بأن الثيب لا يزوجها وليها بغير رضاها. وقال جمهور العلماء بأن البكر كذلك لا يزوجها وليها بغير رضاها. واحتجوا بحديث «لا تُنكَحَ الأيم حتى تُستَأمر، ولا تُنكَح البَكر حتى تُستأذَن» على ضرورة موافقة المرأة. مع العلم بأن كثيراً من العلماء جعلوا السلطان برتبة الولي (خاصة في حالة التنازع أو العضل).

3– مذهب من قال بأن النكاح يستلزم موافقة المرأة فحسب، بشرط أن يباشر عقدة النكاح رجل. ولا عبرة بموافقة أقرب العصبة إليها. هذا طبعاً إن زوّجت نفسها بكفء. أما حديث «لا نكاح إلا بولي» فقد أوّلوا الولي بأنه مِن تولية المرأة من الرجال: قريباً كان منها أو بعيداً. وهذا معناه أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى عقد نكاح نفسها –وإن أمَرَها وليها بذلك– ولا عقد نكاح غيرها، ولا يجوز أن يتولى ذلك إلا الرجال. واحتجوا بحديث «الأيم أحق بنفسها من وليّها».

وروى مالك في الموطأ (2|555): عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي r زَوَّجَت حفصة بنت عبد الرحمن المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام. فلما قدم عبد الرحمن قال: «ومثلي يصنع هذا به؟ ومثلي يُفْتَاتُ عليه؟» (أي يُسبَق في تزويج بناته من غير أمره). فكلمت عائشة المنذر بن الزبير. فقال المنذر: «فإن ذلك بيد عبد الرحمن». فقال عبد الرحمن: «ما كنت لأرد أمراً قضيته». فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقاً. ورواه سعيد بن منصور في سننه (1|429) عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد بنحوه. وكذلك رواه ابن أبي شيبة من هذا الطريق. وفيه أن عبد الرحمن غضب، وأن أمنا عائشة t غضبت من إنكاره.

ومن الأدلة المشهورة قصة زواج بحرية بنت هانئ من القعقاع بن شور، رغم معارضة أبيها الذي كان مسيرة يوم في البادية، وقد أجاز علي t ذلك النكاح. والقصة مشهورة رواها أبو قيس الأودي (جيد ربما خالف) عن هزيل بن شرحبيل (ثقة مخضرم) عن علي بن أبي طالب t. ورواها أبو إسحاق الشيباني (ثقة ثبت فقيه) عن بحيرة نفسها، وعن زوجها القعقاع، كلاهما. تجد أسانيدها في المحلى (9|454) ومصنف عبد الرزاق (6|197).

وقد احتار الشافعية في كيفية رد هذه القصة. فقال البيهقي: «وهذا الأثر مختلف في إسناده ومتنه. ومداره على أبي قيس الأودي وهو مختلف في عدالته. وبحرية مجهولة». قلت: كلا ليس كذلك، فطرقه الصحيحة تشهد لبعضها البعض، وتقوي المتن الذي ذكرناه. وأما كثرة الطرق فهي تدل على شهرة القصة. وأما أبو القيس فلم يختلف أحد في عدالته وصدقه وصلاحه، وإنما انتقدوا له بعض الأحاديث التي خالف بها كحديث المسح على الجوربين. وهذا القصة فيها ما يدل على ضبطه، عدا عن موافقته لما رواه الشيباني عن بحرية (وقيل: بَحِيرَة) والقعْقاع.

أما قوله عن بحرية بأنها مجهولة (وقد سبقه بذلك الدارقطني)، فإن قصد برواية الحديث، فنعم ليست من رواة الحديث. وإنما هي تابعية جليلة معروفة، تزوجت اثنين من سادة قريش وصالحيهم. أبوها هو هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن أبي ربيعة، أحد سادة بني شيبان، وله خطبة شهيرة في موقعة ذي قار. وقد تزوجت أحد المبشرين بالجنة وأنجبت له عروة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي. ثم تزوجت التابعي الجليل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، حتى قتل في صفين مع معاوية، وكانت منحازة لعلي. فعادت إلى أهلها في الكوفة، وهناك تزوجت من القعقاع بن شور الشيباني في غيبة أبيها، قبل هروب القعقاع إلى معاوية. والقعقاع فارس مشهور، ويضرب به المثل في المجالسة، لقصة مشهورة عند معاوية. حتى قال فيه الشاعر:

ولا يشقى بقعقاعٍ جليس * وكنت جليس قعقاع بن شور

فالمقصود أن هؤلاء كلهم من المشاهير. وهذه القصة مشهورة كذلك. فمن المحال أن يرويها أبو إسحاق الشيباني وهو ثقة فقيه، وهي باطلة لم تحدث. لكن جاء في مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة ما يشعر بأن خالها هو الذي تولى عقدة النكاح، وهذا أقرب للصواب.

أما الاحتجاج بزواج الرسول r من أم سلمة t بغير ولي، مع توكيل طفلها بمباشرة العقد (كما فعل الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء 2|249) فهو مردود، لأن راوي القصة –وهو ابن أم سلمة– مجهول ليس فيه توثيق (بل حديثه منكر لمن تتبعه). ولو صحت، لكان فيها حجة قوية على أبي حنيفة الذي يجيز للمرأة تولي العقد بنفسها.

قال ابن حزم: وصح عن ابن سيرين في امرأة لا ولي لها فولت رجلا أمرها فزوجها، قال ابن سيرين: «لا بأس بذلك. المؤمنون بعضهم أولياء بعض». ومن طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: «وَلّى عمر بن الخطاب ابنته حفصة أم المؤمنين ماله وبناته ونكاحهن، فكانت حفصة أم المؤمنين t إذا أردات أن تزوج امرأة أمرت أخاها عبد الله فيزوج». وعن عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن امرأة نكحت بغير إذن ولاتها وهم حاضرون فقال: «أما امرأة مالكة أمر نفسها، إذا كان بشهداء، فإنه جائز بغير أمر الولاة». وقال أبو ثور: «لا يجوز أن تزوج المرأة نفسها، ولا أن تزوجها امرأة. ولكن إن زوجها رجل مسلم، جاز. المؤمنون أخوة بعضهم أولياء بعض». وهو مذهب الأوزاعي. وقال داود الظاهري (أبو سليمان): «البكر لا يزوجها إلا وليها، وأما الثيب فتولّي أمرها من شاءت من المسلمين ويزوجها، وليس للولي في ذلك اعتراض». قلت: وقال الزهري والشعبي عن التزويج بغير ولي: «إن كان كُفُؤاً جاز». أخرجه ابن أبي شيبة (3|457) عنهما بإسنادين صحيحين.

4– مذهب من قال بأن النكاح يستلزم موافقة المرأة فحسب، ويجوز أن تعقد العقد بنفسها. وهذا هو مذهب أبي حنيفة (وقد خالفه صاحباه)، لكن مباشرة المرأة للعقد مكروه عنده. ويجوز للولي الاعتراض على غير الكفء. جاء في البحر الرائق (3|117): «إنما يطالب الولي بالتزويج، كيلا تنسب إلى الوقاحة. ولذا كان المستحب في حقها تفويض الأمر إليه. والأصل هنا: أن كل من يجوز تصرفه في ماله بولاية نفسه، يجوز نكاحه على نفسه. وكل من لا يجوز تصرفه في ماله بولاية نفسه، لا يجوز نكاحه على نفسه. ويدل عليه قوله تعالى {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ...} (230) سورة البقرة. أضاف النكاح إليها. ومن السنة حديث مسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها». وهي من لا زوج لها: بكراً كانت أو ثيباً. فأفاد أن فيه حقَّين: (1) حقه وهو مباشرته عقد النكاح برضاها، (2 حقها) وقد جعلها أحقّ منه. ولن تكون أحق إلا إذا زوّجت نفسها بغير رضاه». كما احتج أبو حنيفة بالقياس على البيع، فإنها تستقل به.

قال الحنفية: لا خلاف في أن المرأة البالغة العاقلة لها أن تتصرف في مالها بكافة التصرفات المالية من بيع وإيجار ورهن وغيرها. فيكون لها كذلك أن تتصرف في نفسها بالزواج. لأن الكلّ حقٌّ خالِصٌ لها. وإذا كان إعطاء المرأة هذا الحق يترتب عليه الخوف من لحوق الضرر بالولي، فقد تداركنا ذلك باشتراط الكفاءة فيمن تختاره المرأة زوجاً لها، محافَظَةٌ على كيان الأسرة وسمعتها.

ويرد عليهم ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3|10): حدثنا محمد بن خزيمة قال ثنا يوسف بن عدي قال ثنا عبد الله بن إدريس عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة t: أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها، جاريةً من بني أخيها، فضربت بينهما بستر ثم تكلمت. حتى إذا لم يبق إلا النكاح، أمرت رجلاً فأنكح. ثم قالت: «ليس إلى النساء النكاح». قلت: و علة هذا الأثر كثرة تدليس ابن جريج، ولم يصرح بالسماع من عبد الرحمان. قال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (2|249): «حديث ابن جريج فاسد. لأن أحمد بن حنبل يقول (في إسناده إلى ابن جريج): أُخبِرتُ عن عبد الرحمن بن القاسم، فصار من بينه وبين عبد الرحمن مجهولاً. والأخرى أن ابن إدريس يرويه عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة مرسلاً، لم يذكر فيه عن أبيه».

ويرد عليهم ما أخرجه الشافعي في مسنده (2|28) عن ابن عيينة عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة t: «لا تُنْكِحُ (تُزَوِّجُ) المرأةُ المرأةَ. إنما البغيّ (الزّانية) تُنْكِحُ نفسَها». وقد روى ابن أبي شيبة (3|458) عن ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين بنحوه. ورواه عن أبي أسامة عن هشام عن ابن سيرين بنحوه. وأبو هريرة t من فقهاء الصحابة، وقد ولاه عمر t، وشرطه في الرجال معروف.

5– مذهب من أجاز للمرأة أن تعقد العقد بنفسها، لكن بشرط موافقة الولي. وقد نسبوا هذا القول لأبي ثور، ولا يصح عنه، فهو لا يجيز للمرأة أن تعقد العقد بنفسها. فلعل هذا القول غلط لا يقول به أحد. والله أعلم.

وقد مزج بعض العلماء (كالشافعي بين هذه المذاهب)، والسبب هو الخلاف في علة الإجبار. فقد قال البعض –ومنهم أبو حنيفة كما قد سلف– بأن العلة هي البلوغ (قياساً على التملك المالي). فالصغيرة (بكراً كانت أم ثيباً) يجوز للأب إجبارها بدون أخذ رأيها (لأنه لا رأي لغير بالغ). فأما اليتيمة (الصغيرة) فهناك خلاف في جواز أن يجبرها غير الأب، إلا أني لا أعلم خلافاً في وجوب تخييرها عند بلوغها عند من أجاز ذلك النكاح. أما لو أجبرها الأب، فقد أجازوا النكاح واختلفوا في تخييرها عند بلوغها. أما الكبيرة فلا يجوز إجبارها (بكراً كانت أم ثيباً). هذا هو قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام.

وقال البعض –ومنهم الشافعي– بأن العلة هي سبق الزواج (لأن المراد منه الخبرة). فيجوز للآباء فقط إجبار البكر (صغيرة كانت أم كبيرة)، ولا يجوز للأب إجبار الثيّب (صغيرة كانت أم كبيرة). والبعض ألحق الجدّ بالأب. فإن لم يكن للأب ولاية (كأن يكون كافراً أو يكون ميتاً) فقد أجمع المسلمون على أنه يجب تخييرها. قال شيخ الإسلام: «البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين. فأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها».

وخلاصة القول في هذا الموضوع: أنه لا خلاف بين العلماء في إجبار البكر الصغيرة (إلا عند ابن شبرمة)، ولا خلاف بينهم في عدم إجبار الثيب الكبيرة (إلا عند الحسن)، واختلفوا في غير ذلك اختلافاً بيناً. وأصح الأقوال أنه يجوز تزويج الصغيرة من قبل أقرب العصبة لها، من غير أخذ رأيها، لكن لا يجوز الدخول بها حتى البلوغ، حيث تخيّر، فإن قبلت جاز للزوج الدخول بها، وإلا كان ذلك طلاقاً. ولا يجوز إجبار الكبيرة على الزواج من أحد (بكراً كانت أم ثيباً). ولا تتولى بنفسها إنشاء العقد، ولكن توكل رجلاً. ولا يشترط موافقة أقرب العصبة لها إن زوجت نفسها كفء (والكفاءة تكون في الدين فقط، لا في اللون ولا في العرق ولا في المال). فإن لم يكن كفأً لها، كان لا بد من موافقة أقرب العصبة لها. فإن اشتجروا رفعوا أمرهم إلى السلطان. ومن يتوكل على الله فهو حَسبُه.

 

اشتراط بلوغ المرأة قبل الدخول بها

لا يخفى بأن زواج الصغار لا يخلو من محاذير صحية، لأن أجهزتهم التناسلية لا تكون مهيأة للجماع بعد، كما أن الصغار لا يكونون مهيئين نفسياً لممارسة الجنس، وبخاصة البنت الصغيرة التي يغلب أن تتضرر جسدياً ولاسيما إذا كان زوجها رجلاً كبيراً! فقد يسبب جماعها مضاعفات نفسية وجسدية سيئة ترافقها طوال حياتها وتؤثر في مستقبلها الجنسي. ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الزوجة الصغيرة التي لا تحتمل الوطء لا تُسلَّم إلى زوجها حتى تكبر وتصبح في سـن تتحمل فيه الوطء، حتى وإن كان الزوج عاقلاً أميناً وتعهد ألا يقربها، لأن هيجان الشهوة فيه قد يحمله على وطئها فيؤذيها.

 ونحن بدورنا ننصح من الوجهة الطبية بعدم الزواج قبل البلوغ على أقل تقدير لأن البلوغ مؤشر فطري يدل على أن الجسم أصبح مهيأً لممارسة الجنس، كما أن الإنسان بالبلوغ يصل إلى درجة مقبولة من الوعي الاجتماعي الذي يساعده على تكوين الأسرة. علماً بأن معظم القوانين المعمول بها في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية تمنع الزواجَ قبل سِنِّ الرُّشْدِ، أو سنِّ ثماني عشرة سنة. وإن كانت المرأة –عادة– قادرة على الزواج قبل ذلك السن.

ويختلف سن بلوغ المرأة حسب العرق وحسب المناخ. فمعروف أنه في المناطق الحارة، تبلغ المرأة وعمرها تسع سنين، كما هي الحال في كثير من مناطق جزيرة العرب. وأما في المناطق القطبية الباردة، فتتأخر حتى سن 21 كما هي الحال عند الأسكيمو. قال الترمذي: قالت عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة». قال البيهقي (1|319): «تعني –والله أعلم–: (إذا بلغت الجارية تسع سنين) فحاضت فهي امرأة». والمقصود أن هذا أدنى سن للأنثى لتبلغ وتصير امرأة بالغة. وهذه هي الحال مع أمنا عائشة t. إذ أخرج البخاري (5|1973) عن عائشة t: «أن النبي t تزوجها وهي بنت ست سنين، وأُدْخلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً». وفي رواية أخرى: وزُفَّتْ إليه وهي بنت تسع سنين و لُعَبُهَا معها، ومات عنها وهي بنتُ ثمانَ عشرة.

وهذه هي العادة في كثير من بلاد العرب: قال الإمام الشافعي –كما في سير أعلام النبلاء (10|91)–: «رأيت باليمن بنات تسع يحضن، كثيراً». يقصد: رأيت باليمن الكثير من البنات يحضن في سن التاسعة. وروى البيهقي (1|319) عن الشافعي قال: «أعجل من سمعت به من النساء يحضن: نساء بتِهامة يحضن لتسع سنين». وقال الشافعي كذلك: «رأيت بصنعاء: جَدَّةٌ بنت إحدى وعشرين سنة! حاضت ابنة تسع، وولدت ابنة عشر، وحاضت البنت ابنة تسع، وولدت ابنة عشر». ويذكر مثل هذه الأخبار عن الحسن بن صالح وعن عباد بن عباد المهلبي وعن ابن عقيل وغيرهم. انظر التحقيق في أحاديث الخلاف (2|267).

تزويج النساء بمجرد العقد عليها جائزٌ عند أكثر العلماء، لقوله تعالى في سورة الطلاق: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم –إن ارتبتم– فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن. وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}. فقوله {واللائي لم يحضن} دليلٌ على جواز الزواج من امرأة ليست بحائض. وشذ أحد فقهاء العراق، فقال بعدم جواز العقد.

 قال ابن شبرمة: إنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا، لقوله تعالى {حتى إذا بلغوا النكاح}. فلو جاز التزويج قبل البلوغ، لم يكن لهذا فائدة. ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة، لحاجة المولى عليه. حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة، لا تثبت الولاية، كالتبرعات. ولا حاجة بهما إلى النكاح، لأن مقصود النكاح طبعاً هو قضاء الشهوة وشرعاً النسل. والصغر ينافيهما. ثم هذا العقد يعقد للعُمر، وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ. فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك، إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ.

وهذه الحجج التي ذكرها ابن شبرمة –رحمه الله– كلها حجج قوية صحيحة. لكن يرد عليها أن الكلام عن جواز العقد، وليس الدخول. فإذا مات الرجل، ورثته زوجته الطفلة. لكن لا يجوز الدخول عليها، حتى تبلغ لما فيه من إيذاء لها، ولكون الدخول على غير البالغة مناف لغرض النكاح كما أوضح ابن شبرمة. ولهم في رسول الله r أسوة حسنة، كما تقدم في قصته مع أمنا عائشة t. وأما أن الولي لا يملك أن يلزمها بزواج يمتد لبعد النكاح، فصحيح. ولذلك يجب تخيير المرأة عند بلوغها، إن كانت تريد البقاء معه أم لا.