شرح آية الحجاب وآية الخمار وآية القواعد

 

آية الحجاب

]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا (لما سلف منهن لترك الستر) رَحِيْمَاً (بهن إذ سَتَرهن)[

قال بعض المعاصرين: «إن قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} لا يستلزم ستر الوجه لغةً ولا عرفاً. ولم يرد باستلزامه ذلك دليلٌ من كتابٍ ولا سنة ولا إجماع. وقول بعض المفسرين: "إنه يستلزمه" معارضٌ بقول بعضهم "إنه لا يستلزمه". وبهذا سقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه». واختلفوا كثيراً في معنى الجلباب. والصواب أنه كل ما تستتر به المرأة من كساء أو غيره. والإدناء التقريب. يقال أدناني أي قربني. وضمن معنى الإرخاء أو السدل. وفي "الكشاف": معنى يدنين عليهن أي يرخين عليهن. ومن للتبعيض. والمراد بالبعض جزأ منه. أي معنى الآية: يُسدِلن عليهنّ مِن بعض ثيابهن. ونساء المؤمنين قد تشمل الإماء، لأنهن يتزوجن. ولكن الشائع هو إطلاقها على المرأة الحرة. فإماء المؤمنين غير داخلات في حُكم الآية. وعلى هذا إجماع الصحابة.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى (15|448): «قوله ]قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن[ الآية، دليلٌ على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء. لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك. ثم قال: ]ونساء المؤمنين[. والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين، كما لم يدخل في قوله ]نسائهن ما ملكت أيمانهن[ حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب. وهذا قد يقال إنما ينبئ على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث. وإلا فمن قال هي فيهما أو في الذكور، ففيه نظر. وأيضاً فقوله للذين يؤلون من نسائهم، وقوله ]الذين يظاهرون منكم من نسائهم[، إنما أريد به الممهورات دون المملوكات. فكذلك هذا. فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن. وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن. فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حيى، وقالوا: "إن حَجّبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه"، دَلّ على أن الحجاب كان مُختصّاً بالحرائر. وفي الحديث دليلٌ على أن أموّة المؤمنين لأزواجه دون سراريه». وقال كذلك (15|372): «والحجابُ مختصٌّ بالحرائر دون الإماء، كما كانت سُنّةُ المؤمنين في زمن النبي وخلفائه: أن الحُرَّةَ تحتَجِبُ، والأَمَة تبرُز. وكان عمر t إذا رأى أَمَةُ مُختَمِرة، ضرَبها وقال: "أتتشبهين بالحرائر؟"».

وأجمع المفسرون كلهم على أن الحجاب جاء للتفريق بن المرأة الحرة والمملوكة فقط. وأن الأَمَة لا يجوز لها الحجاب بعكس الحرة. واتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك. وإليك بعض أقوالهم:

أخرج ابن جرير الطبري (#21865) من طريق سعيد بن بشير الأزدي (صدوق)، عن قتادة (من أئمة البصرة) في تفسير هذه الآية قال: «أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب. {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}. قال: قد كانت المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء».

وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة (ابن إياس t): «أن دعاراً من دُعَّارِ أهل المدينة كانوا يخرجون بالليل، فينظرون النساء ويغمزونهن. وكانوا لا يفعلون ذلك بالحرائر، إنما يفعلون ذلك بالإماء. فانزل الله هذه الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} إلى آخر الآية».

وأخرج ابن جرير في تفسيره (22|46) وابن مردويه عن عطية بن سعد العوفي (ضعيف) عن ابن عباس t في الآية، قال: «كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهم من جلابيبهن. وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها».

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (#21864) وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله ]يدنين عليهن من جلابيبهن[ قال: «يتجلببن بها فيعلمن أنهن حرائر، فلا يعرض لهن فاسقٌ بأذىٌ من قولٍ ولا ريبة».

وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي مالك (غزوان الغفاري الكوفي، تابعي ثقة عالمٌ بالتفسير) قال: «كان نساء النبي r يخرُجن بالليل لحاجتهن. وكان ناسٌ من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذَين. فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا إنما نفعله بالإماء. فنزلت هذه الآية ]يا أيها النبي...[ فأمر بذلك حتى عُرفوا من الإماء». وقال الحافظ ابن سعد الطبقات الكبرى (8|176): أخبرنا محمد بن عمر (الواقدي) حدثنا أبو جعفر الرازي وهشيم (ثقة) عن حصين (ثقة) عن أبي مالك، ثم بمثل قوله السابق.

أخرج الجصاص في أحكام القرآن (5|245): حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع (هو الحسن بن يحيى بن الجعد، ثقة) قال أخبرنا عبد الرزاق (ثقة) قال أخبرنا معمر (ثقة) عن الحسن (إمام البصرة) قال: «كن إماء بالمدينة يقال لهن: "كذا وكذا"، يخرُجن فيتعرض بهن السفهاء، فيؤذونهن (أي بالغزل). وكانت المرأة الحرة تخرج، فيَحسبون أنها أَمَة، فيتعرضون لها، فيؤذونها. فأمر الله المؤمنات أن {يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن} أنهن حرائر {فلا يؤذين}». وقال الحافظ ابن سعد في الطبقات: أخبرنا محمد بن عمر (الواقدي) عن سعيد بن بشير (صدوق) عن قتادة (ثقة ثبت) عن الحسن في قوله ]يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين[ قال: «إماءٌ كُنَّ بالمدينة يتعرض لهنَّ السفهاء فيؤذَين. فكانت الحرة تخرج فتُحسب أنها أَمَة، فتؤذى. فأمرهن الله أن يدنين عليهن من جلابيبهن».

جاء من طريق الحسن بن يحيى (إن كان ابن جعد فحديثه جيد، وإن كان ابن كثير فهو ضعيف) عن عبد الرزاق (ثقة اختلط في آخر عمره) عن معمر (ثقة ثبت) عن الحسن البصري (من كبار أئمة التابعين) قال: «كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا، كن يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذوهن (أي بالغزل والكلام). فكانت المرأة الحرة تخرج، فيحسبون أنها أمّة، فيتعرضون لها ويؤذونها. فأمر النبي المؤمنات أن {يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن} من الإماء أنهن حرائر {فلا يؤذين}».

وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة بدليل أن الآية نزلت عند زواج الرسول r بأمنا زينب r. فقد أخرج البخاري و مسلم في صحيحهما أن أنس بن مالك قال:
«أصبح رسول الله r عروسا بزينب بنت جحش، وكان تزوجها بالمدينة. فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار. فجلس رسول الله، وجلس معه رجال بعد ما قام القوم. حتى قام رسول الله، فمشى فمشيت معه، حتى بلغ باب حجرة عائشة. ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم. فرجع، فرجعت الثانية، حتى بلغ حجرة عائشة. فرجع، فرجعت، فإذا هم قد قاموا. فضرب بيني وبينه بالستر، وأنزل الله آية الحجاب».

 

آية الخمار في سورة النور

]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[ (النور:30)

]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ (النور:31)

 

توقيت نزول الآية

الراجح و الله أعلم أن نزول آيات الحجاب في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...} كان قبل نزول آيات سورة النور {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...}. حيث ابتدأ الله تشريع الحجاب بسورة الأحزاب، و انتهى بسورة النور. ولا خلاف في أن سورة الأحزاب نزلت عند غزوة الأحزاب في سنة خمس للهجرة. فإن كانت غزوة الأحزاب قبل غزوة بني المصطلق، فمعناه أن أحكام الحجاب في الإسلام بدأت بالتعليمات التي وردت في سورة الأحزاب ثم تممت بالأحكام التي وردت في سورة النور.

يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى (2|63-65) أن غزوة بني المصطلق وقعت في شعبان في سنة خمس، و وقعت بعدها غزوة الأحزاب (غزوة الخندق) في ذي القعدة من السنة نفسها! و أكبر شهادة تؤيد ابن سعد في هذا البيان أن الطرق المروية عن أمنا عائشة t بشأن قصة الإفك قد جاء في بعضها ذكر المجادلة بين سعد بن عبادة t و سعد بن معاذ t.

لكن يقول إمام السِّيَر ابن إسحاق في الجانب الآخر: إن غزوة الأحزاب وقعت في شوال من سنة خمس، و غزوة بني المصطلق في شعبان من سنة ست. كذا نقله عنه ابن هشام في السيرة النبوية (3|165)، وفي طبعة دار الجيل (4|252)، وفي طبعة مؤسسة علوم القرآن (3|289).

و يؤيد ابن إسحاق في هذا البيان ما ورد عن عائشة و غيرها من الروايات المعتمد بها و هي أكثر قوة و كثرة. و تدل هذه الروايات على أن أحكام الحجاب كانت قد نزلت قبل قصة الإفك، أي في سورة الأحزاب. و توضح الروايات أن النبي r كان قد تزوج بأمنا زينب بنت جحش r قبل ذلك في ذي القعدة من سنة خمس، و جاء ذكره في سورة الأحزاب. كما تفيد هذه الروايات أن حمنة أخت زينب بنت جحش قد شاركت في رمي أمنا عائشة r، لأنها ضرة أختها. و الظاهر أنه لابد من أن تمضي مدة من الزمن و لو يسيرة على صلة الضرارة بين امرأتين حتى تنشأ في القلوب مثل هذه النزاعات. فهذه الأمور كلها مما يؤيد رواية ابن إسحاق و يقويها.

و ما هناك شيء يمنعنا قبول رواية ابن إسحاق إلا مجيء ذكر سعد بن معاذ في زمن الإفك. و كان سعد بن معاذ –كما تفيد جميع الروايات المعتمدّ بها– ممن قتل في غزوة بني قريظة التي تلت غزوة الأحزاب. فمن المستحيل أن يكون سعد بن معاذ حياً سنة ست. إلا أن هذه المشكلة تزول بأن الروايات المروية عن أمنا عائشة جاء في بعضها ذكر سعد بن معاذ، و في بعضها الآخر ذكر أسيد بن حضير مكان سعد. و الرواية الأخيرة تتفق تمام الاتفاق مع الحوادث المروية عن عائشة في شأن قصة الإفك. و إلا فلو سلمنا أن تكون غزوة بني المصطلق و قصة الإفك وقعتا قبل غزوة الأحزاب و غزوة بني قريظة، لمجرد أن نجعلهما تتفقان مع حياة سعد بن معاذ في زمن الإفك، لاستحال علينا أن نجد حلاً لمشكلة عظيمة أخرى: و هي أنه من اللازم إذن أن تكون آية الحجاب و نكاح زينب قد وقعتا قبل غزوة بني المصطلق و قصة الإفك، مع أن القرآن والروايات الصحيحة تشهد بأن نكاح زينب والآية التي فيها حكم الحجاب من الحوادث الواقعة بعد غزوة الأحزاب و غزوة بني قريظة.

فبناءً على ذلك قطع ابن حزم في جوامع السيرة (ص147) و ابن القيم في زاد المعاد (3|265)، و غيرهما من العلماء المحققين بصحة رواية ابن إسحاق، و رجّحوها على رواية ابن سعد. و ما ذهب إليه هؤلاء الأعلام من أن نزول آيات الحجاب في سورة الأحزاب كان قبل قصة الإفك و قبل آيات الحجاب في سورة النور. وهذا هو الأظهر، و الله أعلم.

 

تفسير الصحابة للآية

أخرج البخاري في صحيحه عن أمنا عائشة t قالت: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله ]وليضربن بخمرهن على جيوبهن[ شققن مروطهن فاختمرن بها». وعنها كذلك أنها قالت: «لما نزلت هذه الآية ]وليضربن بخمرهن على جيوبهن[ أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها». وأخرج عنها ابن أبي حاتم أنها قالت: «لما نزلت هذه الآية ]يدنين عليهن من جلابيبهن[ خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغِربان من السَّكِينَة وعليهن أكسية سود يلبَسْنها». شبهت أغطية شعر الرأس في سوادها بالغراب.

أقول: واتفاق الصحابة على تفسير واحد للآية حجة. والآية نزلت بعد الآية التي في سورة الأحزاب بسنة (أي في السنة السادسة بعد الهجرة)، فهي مكمّلةٌ لها. والمقصود من الآية هو تغطية جيب المرأة وهو فتحة صدرها. حيث كانت النساء يغطين رؤوسهن منذ السنة الخامسة، لكن كانت المرأة تترك شقاً في ثوبها من عند الرقبة إلى أسفل الصدر (أي بين ثدييها)، حتى تستطيع إرضاع ولدها. فلذلك قد تبدو فتحة صدرها (أي جيبها) من هذا الشق. ولذلك أمرها الله أن تغطي (أي تخمِّر) هذا الجيب. قال شيخ الإسلام: «والجيب هو شق في طول القميص». والآية في كل حال موضحة لآية الأحزاب شارحة لها. أما خمار الرأس فليس من الضرورة أن يكون أسوداً، ولو أنه أستر بالنظر لرقة أقمشة أهل المدينة آنذاك.

فبدأت الآية بأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن. و "من" أي من بعض أبصارهن. والسبب أوضحناه في ما نقلناه من جواز نظر المرأة للرجل بدون شهوة. ثم أمرهن بحفظ فروجهن. فهذا عورة مغلظة لا يجوز أن يراها أحد لا من المحارم ولا من النساء، اللهم إلا الزوج بما استثنى الله في سورة المؤمنون وبما جاء في الحديث الصحيح. قال أبو العالية: «كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا، إلا هذه الآية: {ويحفظن فروجهن}، أن لا يراها أحد».

 

معنى الزينة

اختلف العلماء في تحديد ما هي الزينة المقصودة بالآية، على ثلاثة أقوال:

1– الزينة هي الحلي نفسها. وما ظهر منها هو الكحل والخاتم، وقيل الثياب. وهذا تفسير يؤيده ما تعارف الناس عليه في تعريفهم للحلي. ولكنه لا يصح هنا لأن إبداء تلك الحلي جائزٌ في أي حال. ويستدلون بتفسير عبد الله بن مسعود t. فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3|546):

·      حدثنا وكيع (ثقة) عن سفيان (الثوري، ثبت) عن أبي إسحاق (هو عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي: ثقة اختلط، وقد سمع منه سفيان بن عيينة بعد اختلاطه) عن أبي الأحوص (هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي: صحابي) عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الثياب».

·      حدثنا أبو خالد الأحمر (سليمان بن حيان، صدوق) عن حجاج (بن أرطأة الأعور، ضعيف مدلس) عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: «الزينة زينتان: زينة ظاهرة، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج. وأما الزينة الظاهرة فالثياب. وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار».

وأخرج الطبراني في المعجم الكبير (9|228):

·         حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نُعَيم (الفضل بن دكين الكوفي الملائي، ثقة ثبت) ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الثياب».

·         حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم (ضعيف) ثنا الفريابي (ثقة) عن إسرائيل (ثقة) عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة».

·      حدثنا محمد بن علي الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا حديج بن معاوية (ضعيف) عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله: في قوله ولا يبدين زينتهن، قال: «الزينة: السوار والدملج والخلخال والأدب والقرط والقلادة. وما ظهر: هي الثياب والجلباب».

وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار (4|332):

·      حدثنا سليمان قال ثنا عبد الرحمن بن زياد قال ثنا زهير بن معاوية (ثقة، إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد اختلاطه) عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الزينة القرط والقلادة والسوار والخلخال والدملوج. ما ظهر منها الثياب والجلباب».

ويستشهدون بقوله تعالى ]خذوا زينتكم عند كل مسجد[، إذ ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أنها نزلت في المشركين الذين كانوا يطوفون في المسجد الحرام عراة. فصح أن معنى الزينة هو الثياب التي تستر العورة، لا الثياب الفاخرة. وقد ذكر ذلك ابن خزيمة في صحيحه (4|208). قلت: إن كانت الزينة في الآية الثانية معناها الثياب، فلا يعني هذا أن الزينة لا تعني في القرآن إلا الثياب. قال الله تعالى: ]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[.

ثم لو فرضنا أن المقصود بالزينة هنا الثياب، لما استقام معنى الآية. إذ لصار المعنى لا يبدين ثيابهن إلا ما ظهر منها! فما معنى الاستثناء الأخير؟ أليس بهذا التفسير الخاطئ يصبح استثناء ما ظهر منها لا فائدة منه؟ وحاشى كلام ربنا –سبحانه وتعالى– من ذلك. فإن الاستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير. ومعلومٌ أن ظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاية ونحوهما، أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير.

وماذا يفعل أنصار هذا التأويل بقوله تعالى في حق أمهات المؤمنين (في سورة النور 60) أن يخرجن ]غير متبرجات بزينة[. فكيف يفسرونها وهم يقولون بأن الزينة هي الثياب؟! وأما لو زعموا أن الزينة هي الحلي لكان تحريمهم لذلك مخالفاً لما اتفق عليه علماء المسلمين من جواز لبس المرأة للحلي. وكانت النساء يخرجن لصلاة العيد في حليهن، فيعظهن رسول الله r فيلقين من حليهن ويتصدقن بها. ولم ينهاهن رسول الله r عن لبس الحلي. بل إنهم عاجزون عن تفسير قوله تعالى ]ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن[. لأن معناه سيكون: ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من ثيابهن!! وهذا تفسير لا يقوله عاقل.

قال المحدث العلامة الألباني في كتابه "جلباب المرأة المسلمة": «مناط الحكم إذن في الآية ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة ـ فهذا مما لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضاً اتفاقاًـ وإنما هو فيما ظهر دون إذن من الشارع الحكيم. فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها –سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما– فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد، لأنه مأذون فيه كإظهار الجلباب، تماماً كما بيَّنتُ آنفاً».

وقال أيضا في نفس الكتاب: «قلت: فابن عباس ومن معه من الأصحاب والتابعين والمفسرين إنما يشيرون بتفسيرهم لآية {إلا ما ظهر منها} إلى هذه العادة التي كانت معروفة عند نزولها وأقروا عليها. فلا يجوز معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود –الذي لم يتابعه عليه أحد من الصحابة– لأمرين اثنين:

الأول: أنه أطلق الثياب. ولا قائل بهذا الإطلاق، لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة، كما تفعله بعض السعوديات كما تقدم. فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها.

الثاني: أن هذا التفسير –وإن تحمس له بعض المتشددين– لا ينسجم مع بقية الآية وهي: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن...}. فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية، كما هو معروف في الأسلوب العربي: أنهم إذا ذكروا اسما معرفاً ثم كرروه، فهو هو. فإذا كان الأمر كذلك، فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة؟! ولذلك قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن (3|316): "وقول ابن مسعود في أن {ما ظهر منها} هو الثياب، لا معنى له. لأنه معلوم أنه ذكر الزينة، والمراد العضو الذي عليه الزينة. ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها؟ فعلمنا أن المراد مواضع الزينة، كما قال في نسق الآية بعد هذا: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}، والمراد موضع الزينة. فتأويلها على الثياب لا معنى له، إذ كان مما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها، كما يراها إذا لم تكن لابستها"».

2– قيل: المراد بالزينة مواضعها، لا الزينة نفسها. لأن النظر إلى أصل الزينة مباحٌ مطلقاً. فالرأس موضع التاج، والوجه موضع الكحل، والعنق والصدر موضعا القلادة، والأذن موضع القرط، والعضد موضع الدملوج، والساعد موضع السوار، والكف موضع الخاتم، والساق موضع الخلخال، والقدم موضع الخضاب. واستثنى الأحناف الظهر والبطن والفخذ لأنها ليست بموضع للزينة، وجعلوها عورة للمرأة عن باقي النساء. فالذي ظهر من هذه الزينة هو الكحل والخاتم (أي الوجه واليدين) وقيل الخلخال كذلك (أي القدمين). وهذا فيه إشكال، إذ أن الكحل موضع العينين أو أعلى الوجه، لا الوجه كله. ودليل هذا التفسير القول الضعيف المنسوب لابن عباس t، والقول الحسن المنسوب لأمنا عائشة t. وقولٌ صحيحٌ لأنس t، وما جاء عن بعض التابعين.

فقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار (4|332) والبيهقي في سننه الكبرى (7|85) من طريق مسلم الملائي بن كيسان الأعور (ضعيف) عن سعيد بن جُبَيْر عن بن عباس: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الكحل والخاتم». وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (2|225): أخبرنا أبو طاهر الفقيه أنبأ أبو بكر القطان ثنا أبو الأزهر ثنا روح (بن عبادة، ثقة) ثنا حاتم هو بن أبي صغيرة (ثقة) أنبأ خصيف (ضعيف) عن عكرمة (ثقة) عن بن عباس: في قوله ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، قال: «الكحل والخاتم».

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3|546): حدثنا وكيع (إمام ثقة) عن حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (حسن الحديث) عن أم شبيب (ثقة) عن عائشة قالت: «الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ». وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (7|85): أخبرنا أبو طاهر الفقيه (محمد بن محمد محمش، ثقة) أنبأ أبو بكر القطان (محمد بن الحسين بن الحسن، ضعفه السهمي) أنبأ أبو الأزهر (أحمد بن الأزهر بن منيع، ثقة يخطئ من غير كتابه) ثنا روح ثنا حماد حدثتنا أم شبيب قالت: سألت عائشة t عن الزينة الظاهرة، فقالت: «القلب والفتَخة» وضَمَّت طرف كمها. القلب: السوار، كما في "لسان العرب". والفتخة: الخاتم يلبس في أصابع اليد أو الرجل، وقيل هو الخلخال الذي لا يجرِس. وطرف الكم ينتهي عند المعصم، فثبت أن المراد هو الكف لا الخاتم نفسه.

وقد انتصر لهذا الرأي الزّمخشري في تفسيره الكشاف إذ قال: «الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب. فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس بإبدائه للأجانب. وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر. لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن. فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إليها، إذا لم يحل لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر ملابسة لها لا مقال في حله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر ثابت القدم في الحرمة شاهداً على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها».

وقوله تعالى ]ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن[ –على هذا التفسير– فيه أن المقصود من الزينة هو موضعها وهو الساقين، وليس المقصود هو الخلخال. قلت: هذا مخالف للآية، إذ لو كان كذلك، لقال الله تعالى "ولا يكشفن عن أرجلهن"! لكنه منع الضرب على الأرض بهن، حتى لا تلفت النظر إليها، فيعرف الناس وينتبهون إلى الزينة الظاهرة التي تبديها وهي الوجه والكفين وقوام المرأة. وليس المقصود أن لا يعرفوا أنها تخفي خلخالاً في رجلها تحت الثياب!

3– الزينة هي جسم المرأة نفسه وما فيه من مفاتن ومحاسن. وما ظهر منها هو الوجه والكفان. ويكون إبداء الزينة جائز لكل محرم ولنسائهن ولمن استثنتهم الآية، إلا العورة المغلظة –وهي الفرج– فعليها حفظها إلى من الزوج كما هو مستثنى في سورة المؤمنون، وكما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وأما قوله تعالى ]ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن[ فالمقصود أن تكون المرأة مقتصدة في مشيها، لا تحاول أن تلفت الأنظار إليها. ولذلك لا يجوز لها لبس الخلخال ولا الكعب العالي الذي يصدر صوتاً أثناء مشيها بالطريق.

واستثنى الأحناف البطن والظهر والفخذين من الزينة. وليس معهم دليلٌ على ذلك الاستثناء. بل إن ذلك يفتح إشكالاً أكبر وهو إن لم تكن هذه المواضع من الزينة، فما الدليل على تحريم النظر إليها؟ و لِمَ لَمْ يستثنوا الساقين والرجلين من الزينة طالما أن دليلهم هو العقل دون النص؟!

ودليل هذا التفسير أقوالٌ صحيحة لجمعٍ من الصحابة. قال ابن حزم في المحلى (3|221): «وقد روينا عن ابن عباس في {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال: "الكف والخاتم والوجه". وعن ابن عمر: "الوجه والكفان". وعن أنس: "الكف والخاتم". وكل هذا عنهم في غاية الصحة. وكذلك أيضا عن عائشة، وغيرها من التابعين». وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3|546):

·         حدثنا شبابة بن سوار (ثقة) قال نا هشام بن الغاز (ثقة) قال نا نافع (ثقة ثبت) قال ابن عمر: «الزينة الظاهرة: الوجه والكفان».

·         حدثنا زياد بن الربيع (ثقة) عن صالح الدهان (هو ابن إبراهيم: ثقة) عن جابر بن زيد (ثقة مُفسّر) عن ابن عباس: ]ولا يبدين زينتهن[ قال: «الكف و رُقْعة الوجه». قال الشيخ الألباني: «وهذا إسناد صحيح، لا يضعفه إلا جاهل أو مُغرض».

وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (44|432): ثنا الأشج، ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ]ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ قال: «وجهها وكفاها، والخاتم». وقال أبو بكر المروزي في "جزء يحيى بن معين": حدثنا يحيى بن معين، حدثنا ابن نمير بنحوه.

وقد روى ابن وهب (كما في التمهيد 6|368) عن جرير بن حازم (ثقة عن غير قتادة) قال: حدثني قيس بن سعد أن أبا هريرة كان يقول في قوله تعالى ]ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ قال: «القلب والفتحة». قال جرير بن حازم: «القلب: السوار. والفقخة: الخاتم».

ولذلك يرى ابن حزم الظاهري إباحة كشف المرأة لوجهها وكفيها، ويذكر قول الله تعالى: ]وليضربن بخمرهن على جيوبهن[ قال: «لو كان ستر الوجه واجباً لقال: "وليضربن بخمرهن على وجوههن"!». وقال في المحلى (3|216): «فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب. وهذا نصٌّ على ستر العورة والعنق والصدر. وفيه نصٌّ على إباحة كشف الوجه. لا يمكن غير ذلك أصلاً».

 

عورة المرأة أمام الرجال الأجانب

قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (6|364) في المرأة: «كلها عورة إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم –وهو قول الأوزاعي وأبي ثور–: "على المرأة أن تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها". وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (ومن يكون هذا؟!): "كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها"». ثم رواه بإسناده عنه ثم قال: «قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة، ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به. وأجمعوا على أنها لا تصلي متنقبة ولا عليها أن تلبس فقازين في الصلاة. وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة. وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه. وأما النظر للشهورة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة؟! وقد رُوِيَ نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن عن أحمد بن حنبل».

ثم قال ابن عبد البر: «اختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. فروي عن ابن عباس وابن عمر: "إلا ما ظهر منها: الوجه والكفان". وروي عن ابن مسعود: "ما ظهر منها الثياب"، قال: "لا يبدين قرطا ولا قلادة ولا سوارا ولا خلخالا إلا ما ظهر من الثياب"». ثم روى عن أبي هريرة وعن أمنا عائشة مثل ما روى عن ابن عباس. ثم قال: «واختلف التابعون فيها أيضا على هذين القولين. وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب. فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها». وقد ذكر  قريباً من هذا في الاستذكار (2|201) فليراجع. ومعنى الكلام أن جماهير الصحابة والفقهاء يقولون بأن وجه المرأة وكفيها ليسا عورة، ويجوز للمرأة إبدائهما في صلاتها وغير صلاتها. وأن قول من يزعم بأن المرأة عورة كلها، هو قول خارج عن أقاويل أهل العلم.

قال الشوكاني في نيل الأوطار (6|245) (بعد ذكر حديث أسماء): «وهذا فيه دليل لمن قال إنه يجوز نظر الأجنبية. قال ابن رسلان: وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة: اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق. وحكى القاضي عياض عن العلماء: أنه لا يلزمها ستر وجهها في طريقها، وعلى الرجال غض البصر للآية». فقد حكى القاضي عياض عن جماهير العلماء أن المرأة لا يلزمها ستر وجهها في طريقها، وقيد ذلك ابن رسلان بعدم كثرة الفساق.

روى ابن جرير في تفسيره (18|119) بإسناد صحيح عن التابعي العابد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182هـ) قال: «{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} من الزينة: الكحل والخضاب والخاتم. هكذا كانوا يقولون، وهذا يراه الناس». تأمل قوله "وهذا يراه الناس"، فهذا يدل على جريان العمل من الناس على ذلك. وعلى هذا جرى العمل منذ أيام الصحابة والتابعين إلى عصر ابن عبد البر إلى عصر القاضي عياض فما بعده.

قال ابن جرير في تفسيره: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: "عنى بذلك: الوجه والكفان". يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسوار والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل، لإجماع الجميع على أن: على كل مصل أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها. إلا ما روي عن النبي أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف. فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعاً، كان معلوماً بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كما ذلك للرجال. لأن ما لم يكن عورة، فغير حرام إظهاره. وإذا كان لها إظهار ذلك، كان معلوماً أنه مما استثناه الله –تعالى ذِكرُه– بقوله: {إلا ما ظهر منها} لأن كل ذلك ظاهر منها». وقال ابن كثير في تفسيره عن هذا التفسير: «وهذا هو المشهور عند الجمهور». وهو مذهب الأئمة الأربعة.

1– مذهب الحنفية

قال أبو جعفر الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2|392): «أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرَّم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي r. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى».

وجاء في "المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشيباني (3|56): «وأما المرأة الحرة التي لا نكاح بينه وبينها ولا حرمة ممن يحل له نكاحها، فليس ينبغي له أن ينظر إلى شيء منها مكشوفاً، إلا الوجه والكف. ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها وإلى كفها. ولا ينظر إلى شيء غير ذلك منها. وهذا قول أبي حنيفة. وقال الله تبارك وتعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. ففسر المفسرون أن ما ظهر منها: الكحل والخاتم. والكحل زينة الوجه، والخاتم زينة الكف. فرخص في هاتين الزينتين. ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها وكفها، إلا أن يكون إنما ينظر إلى ذلك اشتهاء منه لها. فإن كان ذلك، فليس ينبغي له أن ينظر إليها».

وقال شمس الأئمة السرخسي في كتابه المبسوط (10|152) عن النظر إلى الأجنبية: «... فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها. ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة –يعني لا لكونه عورة– وعامة محاسنها في وجهها، فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء».

2– مذهب الشافعية

قال الإمام الشافعي في كتابه "الأم" (1|89): « وكل المرأة عورة، إلا كفيها ووجهها. وظهر قدميها عورة». وذكر البيهقي  في "السنن الكبرى" (7|85) وفي "الآداب": عن الشافعي في تفسير قول الله تبارك وتعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}، قال: «إِلا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا». وقال البغوي الشافعي في "شرح السنة" (9|23): «فإن كانت أجنبية حرة، فجميع بدنها عورة في حق الرجل. لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها، إلا الوجه واليدين إلى الكوعين. وعليه غض البصر عن النظر إلى وجهها ويديها أيضاً عند خوف الفتنة».

3– مذهب المالكية

جاء في " الموطأ" رواية يحيى (2|935): «سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ فقال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يُعرفُ للمرأة أن تأكل معه من الرجال قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله». قال الباجي في" المنتفى شرح الموطأ" (7|252) عقب هذا النص: «يقتضي أن نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها مباح لأن ذلك يبدو منها عند مؤاكلتها». قال ابن القطان في النظر في أحكام النظر (ص143) بعد أن ذكر هذا النص عن مالك: «وهذا نص قوله. وفيه إباحة إبدائها وجهها وكفيها للأجنبي. إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا. وقد أبقاه الباجي على ظاهره». وقد جاء في كتاب "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد عن مالك أنه سئل عما يظهر من وجه المرأة، فأدار عمامته تحت ذقنه وفوق حاجبيه معلناً بذلك جواز ظهور دائرة الوجه.

4– مذهب الحنابلة

اختلفت الروايات عن الإمام أحمد. فقد جاء عنه –في إحدى الروايات– أن المرأة كلها عورة حتى ظفرها، سواء في الصلاة أم خارج الصلاة. وهذا القول مخالفٌ لإجماع العلماء في عدم وجوب تغطية المرأة وجهها وكفيها في الصلاة (وقد سبق رد ابن عبد البر عليه)، فلعله أراد الاستحباب. ولا يقال أنه قد سبقه ابن مسعود t، فليس هذا بصحيح. وقال شيخ الإسلام (ص26): «وابن مسعود t لما قال "الزينة الظاهرة هي الثياب" لم يقل "إنها (أي المرأة) كلها عورة حتى ظفرها". بل هذا قول أحمد، يعني به أنها تستره في الصلاة».

وقد جاء عن الإمام أحمد أن المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وهذه هي الرواية المشهورة التي اختارها الخرقي واعتمدها ابن قدامة المقدسي. جاء في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل" للإمام المرداوي (1|452): «الصحيح من المذهب أن الوجه ليس من العورة».

 

آية القواعد

قال الله تعالى في سورة النور (60:24): ]وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[.

القواعد: أي العُجَّز اللواتي قَعِدْنَ عن التصرف من السِّن، وقعدن عن الولد والمحيض. وقوله تعالى ]يضعن ثيابهن[ أي كل الثياب، ليس فيه تبعيض. ومن عجائب المفسرين ما قاله الطبري (رغم جلالته في هذا الشأن): «فليس عليهن حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهن، يعني جلابيبهن، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء الذي يكون فوق الثياب». وهذا غلط، لأنه نفى أن يضع النساء الثياب بل جعل ذلك لما هو يلبس فوق الثياب، وهذا بخلاف ما قاله الله تعالى. فإن الله –عز وجل– يقول: ]يضعن ثيابهن[، والطبري –رحمه الله– يقول: لا يضعن ثيابهن ولكن يضعن ما يلبسن من فوق الثياب. وحجته هو تفسير عبد الله بن مسعود t للثياب بالجلباب. وليست هذه بحجة له لأن الجلباب هو من الثياب بلا شك في لغة العرب.

أخرج الطبري في تفسيره قال:

·      حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان (الثوري)، عن علقمة بن مرثد (ثقة)، عن ذر (زر بن حبيش أبو مريم الأسدي، ثقة مخضرم)، عن أبي وائل، عن عبد الله، في قوله: { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } قال: الجلباب أو الرداء. شك سفيان.

·      حدثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان (الثوري، ثقة ثبت)، عن الأعمش (سليمان بن مهران، ثقة يدلس)، عن مالك بن الحارث (السلمي، ثقة)، عن عبد الرحمن بن يزيد (النخعي)، عن عبد الله: { ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } قال: الرداء.

·      حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي (صدوق)، قال: ثنا أبي، عن أبيه (محمد بن أبي عبيدة بن معن المسعودي، صدوق)، عن جده (أبو عبيدة)، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث (السلمي، ثقة)، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله في هذه الآية: { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } قال: هي الملحفة.

·      حدثنا الحسن بن يحيى (إن كان ابن جعد فحديثه جيد، وإن كان ابن كثير العنبري، فهو ضعيف)، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، في قوله: { أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة } قال: هو الرداء.

·      حدثنا محمد بن المثنى (ثقة)، قال: ثنا محمد بن جعفر (ثبت)، قال: ثنا شعبة (إمام ثقة ثبت)، عن الحكم (بن عتيبة، ثقة ثبت يرسل)، قال: سمعت أبا وائل (شقيق بن سلمة الأسدي، ثقة ثبت مخضرم) قال: سمعت عبد الله يقول في هذه الآية: { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } قال: «الجلباب». قال الطبري: حدثنا يحيى بن سعيد (ثبت)، عن شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، مثله.

قلت والقول الأخير (أي الجلباب) هو الصواب في هذه المسألة، وإسناده صحيح كالشمس. والجلباب اختلف العلماء واللغويون كثيراً في تفسيره، كما تجده في تفسير قوله تعالى ]يدنين عليهن من جلابيبهن[ وكما تجده في معاجم اللغة العربية. فقيل بأنه غطاء الرأس، وقيل بأنه الثوب الذي تلبسه المرأة، وقيل بأنه أي نوع من الثياب، وقيل غير ذلك، والله أعلم بمراده. قال ابن القطان الفاسي في "النظر في أحكام النظر" (2|35): «الثياب المذكورة هي الخمار (غطاء الشعر) والجلباب، رُخِّص لها أن تخرج دونهما وتبدو للرجال (أي يجوز أن تكشف شعرها للرجال)... وهذا قول ربيعة بن عبد الرحمن، وهذا هو الأظهر. فإن الآية إنما رخصت في وضع ثوبٍ، إن وضعته ذات زينة أمكن أن تتبرج...» إلى آخر كلامه، وهو نفيس جداً. وقد أيد هذا الشيخ الألباني في كتابه "الإفحام..." ونقل عن ابن عباس t في تفسير: ]ثيابهنَّ[ أنه: «الخمار»، وقال: «وهو الأصح عن ابن عباس».

قال الحنابلة: العجوز التي لا يشتهى مثلها، لا بأس بالنظر إلى ما يظهر منها غالباً، لقوله تعالى: ]والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا[. وفي معنى العجوز الشَّوْهَاءُ التي لا تُشْتَهَى، ومن ذهبت شهوته من الرجال لِكِبَرٍ أو عُنَّةٍ أو مرض لا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْخَصِيُّ والشيخ وَالْمُخَنَّثُ الذي لا شهوة له، فحُكمه حُكم ذَوِي المحارم في النَّظر، لقوله تعالى: ]أو التابعين غير أولي الإربة[.

قال الزمخشري في تفسيره "الكشاف" في تفسير هذه الآية: «فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: (التبرج هو) تَكَلُّف إظهار ما يجب إخفاؤه. من قولهم: سفينة بارج، لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء. إلاّ أنه (أي التبرج) اختصّ بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. والعرب تقول: امرأة واضع للتي كَبُرَتْ، فوضعت خمارَها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب أَلاَّ يقصدنَ به التَّبَرُّجَ وإبداءَ الزينة. فرُبَّ عجوزٍ يبدو منها الحِرْصُ على أَنْ يظهر لها جمال. والتبرج: طلب البُدُوِّ والظهورِ للعين، ومنه: بُرُوجٌ مُشَيَّدة. ثم ذكر تعالى أَنَّ تَحَفُّظَ الجميعِ مِنْهُنَّ، واستعفافَهُنَّ عن وضع الثياب، والتزامهنَّ ما يلتزم الشَّوَابُّ من الستر، أفضلُ لَهُنَّ وخير. وقوله تعالى: {واللّه سميع عليم} أي: سميع لما يقولُ كُلُّ قائلة وقائلة عليم بمقصد كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير.