حكم الشرع في تبرج النساء وتزينهن أمام الرجال

 

الله –تبارك وتعالى– يقول في حق القواعد من النساء {غير متبرجات بزينة} [النور 60]. فإذا كان هذا في حق اللاتي لا يرجون نكاحاً –لكبر سنهن- فهو أولى بالتحريم على اللواتي يردن النكاح (أي اللاتي لم يبلغن سن اليأس). الزينة هي جسم المرأة نفسه وما فيه من مفاتن ومحاسن. والمراد بالزينة هنا: الزينة الخفية. أما الزينة الظاهرة (أي الوجه والكفين، وقيل الرجلين كذلك) فلا تأثم المرأة بإظهارها أمام الأجانب لقوله تعالى في سورة النور: {ولا يُبْدين زِينَتَهُنَّ إلا ما ظهَر منها}. والتبرج هو أن تُخرج المرأة زينتها ومحاسنها الخفيّة أمام الرجال. وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى. وقيل أنه في هذا الموضع هو: التبختُر والتكسُّر (وهذا داخل في المعنى السابق). وهذا يوافق تفسير السلف لهذه الآية.

أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (22|4) والحاكم في مستدركه (2|598) بإسنادٍ قوّاه ابن حجر في الفتح (8|520): عن عكرمة عن ابن عباس t أنه قال: «كانت فيما بين نوح وإدريس ألف سنة. وإن بَطنَين من ولد آدم، كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة. وكانت نساء السهل صِباحاً، وفي الرجال دمامة. وإن إبليس أتى رجُلاً من أهل السهل في صورة غلام. فأجر نفسه منه، فكان يخدمه. فاتخذ إبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرُّعاء، فجاء فيه بصوتٍ لم يسمع الناس مثله. فبلغ ذلك من حَوله فانتابوهُم يسمعون إليه. واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال، ويتزين الرجال لهن. وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصَباحتهن. فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك. فتحولوا إليهن ونزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهن. فذلك قول الله عز وجل: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}».

قال مجاهد: «كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية». وقال قتادة: «إذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسّرٌُ وتغنّج، فنهى الله تعالى عن ذلك». فكل ذلك دلّ أنه لا يحِلّ للمرأة التبرج بأن تمشي بتكسّر وتغنّج أمام الرجال. وأما للزوج داخل البيت فمستحب. وإلى هذا يدل قوله تعالى: ]ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن[ أي المقصود أن تكون المرأة مقتصدة في مشيها، لا تحاول أن تلفت الأنظار إليها. ولذلك لا يجوز لها لبس الخلخال ولا الكعب العالي الذي يصدر صوتاً أثناء مشيها بالطريق. أما إن كانت تتزين (بالكحل والخضاب وأمثال ذلك) بغرض النكاح، فإنه يجوز لها ذلك. وكذلك يجوز لها لبس الخاتم والقلادة والأساور والثوب الأحمر.

روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم أن الصحابية ُسبَيْعَةَ بنت الحارث t توفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك t، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح؟ وفي الحديث أنها أخبرت النبي عليه الصلاة والسلام، فأقرها ولم ينكر عليها تزينها.

فماذا يقول المنكرون عن هذا الحديث؟ وقد جاء في حجة الوداع، أي بعد نزول آية الحجاب بخمسة سنين. قال ابن حجر في فتح الباري (9|475): «وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، لأن في رواية الزهري التي في المغازي: فقال "ما لي أراك تجملت للخطاب". وفي رواية ابن إسحاق: "فتهيأت للنكاح واختضبت". وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد: "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت". وفي رواية الأسود (مرسلة): "فتطيبت وتصنعت"». فقد اكتحلت وتطيبت واختضبت وتهيئت وتصنعت وتجمّلت، أي تزيّنت. وأبو السنابل ليس محرماً لها، بل هو ممن خطبها فلم ترضه.

وقد جاءت آثار كثيرة عن السلف في جواز ذلك. وهو تفسير قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. فجعلوا الاكتحال والتخضب من الزينة الظاهرة المباحة. وقد روى ابن المنذر في "تفسيره" عن أنس بن مالك t قال: «الكحل والخاتم». قال ابن حزم: «هذا عنه في غاية الصحة». وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء قال: «الزينة الظاهرة: الخضاب والكحل». وروى ابن معين في فوائده بإسناد صحيح عن عكرمة قال: «ثيابها وكحلها وخضابها». وروى روى ابن جرير في تفسيره بسند صحيح عن ابن جريج قال: قال مجاهد: «الكحل والخضاب والخاتم». وابن جريج إنما ينقل عن كتاب القاسم بن أبي بزة (ثقة) عن مجاهد، كما ذكر ابن حبان في الثقات (7|331). وروى ابن جرير في تفسيره (18|118) بإسناد صحيح عن قتادة قال: «الكحل والسواران والخاتم». وروى ابن جرير بإسناد صحيح عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم (ت 182هـ) قال: «الكحل والخضاب والخاتم. هكذا كانوا يقولون. وهذا يراه الناس». تأمل قوله "وهذا يراه الناس" فهذا يدل على جريان العمل من الناس على ذلك.