الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين

 

الصواب أن عصر السلف الصالح ينتهي بحدود عام 300هـ، فيكون النسائي (وهو آخر الأئمة الستة أصحاب الكتب المشهورة في السنة) هو خاتمة السلف حيث توفي سنة 303هـ. وكل من توفي بعد ذلك لا يعتبر من السلف. هذا نهاية عهد السلف وليس السلفيين، فلا تنافي بين بقاء طائفة على منهج السلف، وبين انقضاء عهد السلف أنفسهم. وقد ذكر الذهبي في مقدمة الميزان أن نهاية زمن المتقدمين هو رأس الثلاثمئة. وإذا نظرنا فإن الجيل الرابع وهو جيل الآخذين عن أتباع التابعين ومن كبارهم أحمد ومن صغارهم النسائي، فإنه ينتهي بنهاية القرن الثالث. وفي حديث "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..." لم يدر الصحابي –رضي الله عنه– أذكر قرنا أم قرنين. أي أن القرون المفضلة ثلاثة أو أربعة، فإن كانت أربعة فنهاية الرابع تكون بانقضاء المئة الثالثة. والمقصود بالقرن هو الجيل من الناس بلا شك. دليل ذلك «ثم الذين يلونهم» فهو يتكلم عن البشر لا السنين. و الجيل من الناس لا يبلغ قرناً، بل هو ثلاثة أرباع القرن، فإنك تجد التابعين ينتهي عهدهم سنة 150 (في المتوسط) وأتباع التابعين في الربع الأول من القرن الثالث، أما من روى عن أتباع التابعين فينتهي عهدهم بنهاية القرن الثالث. إذا الأجيال الأربعة الأولى تنتهي بسنة 300. (ملاحظة: هذا في المتوسط وإلا فآخر الصحابة موتاً كان سنة 110 وهو الطفيل رضي الله عنه. وآخر التابعين موتاً: خلف بن خليفة سنة 180، وآخر من كان في أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود 220).

 

وهذا الرأي وجيه وله حظ من القوة، ففي تلك القرون عاش الجهابذة الذين كان لهم قصب السبق في حفظ السنة والذب عنها وبيان صحيحها من معلولها، وكان لهم المؤلفات الضخمة في الحديث والرجال والعلل وغيرها. إلا أنه وجد بعد الثلاثمئة من الأئمة من سار على منهج المتقدمين وحذا على قواعدهم وطرائقهم، فهو ملحق بهم. وإذا نظرنا نجد أنه أول ما بدئ الخلل في المنهج، بدئ من الطبري حيث مشى على منهج المتأخرين وأهمل الكثير من علل الحديث. فأول شخص نجد عنده تبلور لمنهج المتأخرين هو ابن جرير الطبري (والبعض يعتبره من الفقهاء وليس من المحدثين)، ثم يأتي بعده ابن خزيمة حسب ترتيب تاريخ الوفاة. وابن خزيمة –طبعاً– لم يأخذ منهجه من الطبري. لكن ابن حبان قد أخذ منهجه من شيخه ابن خزيمة على الأرجح، ومال أكثر إلى منهج المتأخرين من الناحية العملية في صحيحه، رغم أنه في مقدمة صحيحة قد ذكر عدة أمور نظرية مشابهة لمنهج المتقدمين. ومثله تلميذه الحاكم، الذي تبع منهج المتقدمين في كتبه النظرية مثل "علوم الحديث" وغيره. لكن المستدرك كان تطبيقاً لقواعد المتأخرين وليس المتقدمين خاصة في أمور زيادة الثقة وما شابه ذلك.

 

ولا يعني هذا أبداً وجود حفاظ تابعوا السير على نهج المتقدمين فاعتبروا منهم، كأبي بكر الإسماعيلي والعقيلي والدارقطني وغيرهم، ممن وصلتهم الطرق التي وصلت للمتقدمين، ولو أنها كانت مكتوبة مدوّنة. فهؤلاء مشوا على نفس منهج المتقدمين تماماً. وانتهاء عصر المتقدمين لا يعني انتهاء الذين يمشون على هذا المنهج، كما أن انتهاء عصر السلف لا يعني انتهاء السلفيين.