مصطلح الحديث بين المتقدمين والمتأخرين

الأئمة الحفاظ المتقدمون، كان لهم كلام كثير في كتبهم في إعلال الأحاديث، لكنه منثور مشتت. فقام العلماء المتأخرون بتقريب كلام الحفاظ وجمعه على شكل قواعد اصطلاحية بما يسمى "مصطلح الحديث". فمثلا: أهل العلم يردّون الحديث المنقطع، كما تراه منثوراً في كلام احمد وكثير من الحفاظ، إلا حالات نادرة قبلها الحفاظ مع انقطاعها مثل سعيد عن عمر. فجاء أهل الاصطلاح، وقالوا للتقريب: بما أن الحديث المنقطع مردود في الغالب عند الحفاظ، سنجعل المنقطع في قسم الضعيف، والشاذ على القاعدة لا حكم له. ثم مع تقادم العهد، صارت كتب المصطلح هي المرجع. ثم نُسِيَ الشاذ عنها وعُمّمت القاعدة على الجميع! وصار المتأخّر يُخطّئ المتقدّم.

فعلماء الحديث المتأخرين كتبوا كتب "مصطلح الحديث" لتقريب وتوفير الجهد في الطلب. والهدف منها فهم كلام المتقدمين، لا استعمالها للحكم على الحديث. ولذلك كان ابن الصلاح (أهم واضع لكتب المصطلح) يرى إغلاق باب الحكم على الأحاديث. فهي لا يصح أن تُستعمل لهذا الغرض، مع أن هذا ما حصل فعلاً لاحقاً. لكن إذا كانت تلك الكتب للتقريب، ألا تعجب أن ترى كتاب في المصطلح في خمس أو ست مجلدات ضخمة؟ لقد وقع هؤلاء بما هربوا منه. فتقرئ فيها: الحديث ينقسم إلى أقسام منها: مشهور، وعزيز، واختلاف العلماء في تعريفهما والأقوال في وجود العزيز، وبعضهم يأتيك بسبعين قولاً. والسؤال: ما الفائدة من هذا التقسيم؟ هل سمعتم أحداً من الحفاظ، قال هذا حديث عزيز؟! وماذا تستفيد إن حكمت على حديث بأنه عزيز؟ ثم تراهم يقولون: اختلف العلماء في العدد للمتواتر: قيل انه اثنا عشر، لأن أسباط موسى اثنا عشر. وقيل أربعون، لأن حضور الجمعة أربعون. وقيل ثلاثمائة، لأن الصحابة في غزوة بدر كانوا ثلاثمئة. وهذا كله من العجائب، وأستغرب أن أرى عاقلاً يردده. ثم تقرئ: اختلف أهل العلم في قبول توثيق المرأة للراوي. والسؤال: أين نجد أن المرأة عدلت رجل؟ وما فائدة معرفة "المسلسل" أو "المدبّج"؟ ثم ترى هذه المسائل النظرية وأمثالها، تُسوّد لها عشرات بل مئات الصحف.

ولقد رأيت المهتمّين بعلم "المصطلح" فترى أحدهم يحفظ كتب المصطلح عن ظهر قلب، فإذا جاء وقت التطبيق العملي والحكم على الحديث وجدته لا شيء. والمشكلة حقيقة هي بسبب تأثر المتأخرين (وغالبهم أشاعرة وماتريدية) بكلام الفلاسفة، أو بمعنى أدق "علم الكلام". ولذلك أدخلوا الكثير من المناقشات الفلسفية التي لا طائل لها في كتب المصطلحات. وهذا ليس خاصاً بمصطلح الحديث، بل تجد أمثاله كثيرا في كتب أصول الفقه. ولو تأملت الفرق بين كتابي الأم والرسالة للشافعي، وبين المستصفى للغزالي (يفترض أنه شافعي) لوجد الفرق الكبير. فكم نجدهم يتجادلون على مسائل غير موجودة أصلاً. بل هناك شيء أخطر من هذا، وهو كثرة الأحاديث الضعيفة في كتب الأصول. والذي أراه أنه لا يصح في أصول الفقه إلا الاستشهاد بالقرآن وما جاء في الصحيحين. وإلا فعندما تبني قاعدة فقهي على حديث ضعيف، ويقوم آخر بإظهار ضعف هذا الحديث، تنهار القاعدة ومعها أحكام كثيرة، والله المستعان.

فالأصوليين لم يقعدوا، بل افسدوا علينا المصطلح. وكثير من فصول المصطلح هي غث لا سمين. وحفظ كتب المصطلح هو هدر للوقت. والمصطلح هو ورقات لا مجلدات. وما بقي هو غثاء ضيعت به الأعمار. وهناك كتاب جيد لحاتم العوني بعنوان"المنهج المقترح لفهم المصطلح" عن هذا. وليست هذه دعوة لإتلاف كتب المصطلح، ففيها المباحث المفيدة والأمثلة الكثيرة. لكن أقول: كثير من مسائل المصطلح، لا حاجة لها. ولا بد أن نعلم المسائل التي تشذ عن تلك القواعد. فكثير من طلبة العلم يدرس المصطلح سنوات، ثم لا نجده يجيد التطبيق. فالمصطلح الآن بحاجة إلى تنقية، فقد توسع فيه العلماء بما لا يفيد إطلاقا، وقد بدأ به الحفاظ كالرامهرمزي والحاكم والخطيب، للتقريب. وما كتبوه جيد، لكنه خطوة أولى يحتاج لتحرير وتلخيص وزيادة في بعض المباحث، لكن ليس كما فعل المتأخرون. فالمصطلح بحاجة لمن يعيده لمقصوده، ويطوي كثير من مسائله التي لا طائل تحتها، فلا تروى ولا تذكر بتاتا.  ثم فليعلم طالب العلم أنه لو أمضى سنوات عمره في كتب المصطلح، فلن يتعلم علم الحديث إلا بإدمان كتب العلل والنظر في أقوال أئمة المتقدمين. اللهم علمنا ما جهلنا وانفعنا بما عملتنا إنك أنت السميع العليم.