الرد على فتوى د. عفانة "صلاة المرأة في البناطيل الضيقة"

 

بسم الله الرحمان الرحيم

لا يخفى أن فضيلة الدكتور حسام الدين عفانة (أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس) من كبار فقهاء أهل السنة في فلسطين، لكن قد وقعت منه هنات في مسائل فقهية فرعية، فرأينا من باب الأمانة العلمية ضرورة توضيح ما أخطأ به الشيخ وفقه الله ورعاه. فقد أجاب في موقع "إسلام أون لاين" على سؤال عنوانه: "هل يجوز للمرأة أن تصلي في بيتها وهي تلبس البنطلون الضيق، ولا يراها أحد من الرجال الأجانب؟" فقال:

نص أهل العلم على أنه يجب على المرأة إذا صلت أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين ومن ضمن شروط لباس المرأة أن يكون لباسها فضفاضاً غير ضيق فيصف شيئاً من جسمها . ويدل على ذلك ما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال :( كساني رسول الله قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي . فقال : مالك لم تلبس القبطية ؟ قلت : كسوتها امرأتي . فقال : مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها ) رواه أحمد والبيهقي والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني.  ففي هذا الحديث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع وصف بدنها والأمر يفيد الوجوب كما هو معلوم عند الأصوليين.

أقول: كان الأفضل أن يقول: "نص بعض أهل العلم"، لأن هناك من العلماء (كالإمام أبي حنيفة والإمام سفيان الثوري) من أجاز للمرأة أن تظهر رجليها في الصلاة، وهو الصواب الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما شرط أن يكون اللباس فضفاضاً، ففيه خلاف معروف بين أهل العلم كذلك بيّناه في مقالنا عن الثياب الضيقة. والحديث الذي يحتج به فضيلة الدكتور، هو حديث ضعيف بكل شواهده، ولا يصلح للاحتجاج، كما أوضحناه بتفصيل.

ثم سرد فضيلة الدكتور الكثير من الأثار التي يرى أنها تؤيده. فاحتج أولا بحديث أمنا أم سلمة t أنها سألت الرسول r: «أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ فقال: «إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها ) ثم قال الدكتور بعده: «رواه أبو داود بإسناد جيد كما قال الإمام النووي. ورواه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. وهذا مع أن هذا الحديث متفق بين علماء الحديث (كالحافظ الدارقطني وغيره) على ترجيح الوقف على الرفع، كما أوضحناه في مقالتنا عن عورة المرأة أثناء الصلاة. وهذا واضحٌ فقد رواه مالك وابن أبي ذئب وهشام بن سعد وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق وأبو عسال محمد بن مطرف والدراوردي عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة موقوفاً. ورواه عثمان بن عمر عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة مرفوعاً. وعبد الرحمن هذا ضعيف. ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به، وقال عنه ابن حجر صدوق يخطئ. وقد خالف الجمع الكبير ممن هم أوثق منه. ثم الغريب أن الشيخ قد عاد واحتج بالأثر موقوفاً وقال: «رواه مالك في الموطأ. وسكت موهماً صحته، مع أن شيخه الألباني قد قال عنه في "تمام المنة" (ص161): «لا يصح إسناده لا مرفوعاً ولا موقوفاً، لأن مداره على أم محمد بن زيد، وهي مجهولة لا تُعرف». ومن المؤسف أن يحتج الدكتور بتخريج الألباني إن وافق مراده، ويضرب عنه الذكر صفحاً إن خالفه.

وذكر الدكتور: «وقالت عائشة رضي الله عنها: "لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيها: درع وجلباب وخمار". وكانت عائشة تحل إزارها فتتجلبب به. رواه ابن سعد بإسناد صحيح على شرط مسلم. وإنما كانت عائشة تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها. وقولها: "لا بد" دليل على وجوب ذلك». والأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8|71): أخبرنا معن بن عيسى حدثنا مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمرة عن عائشة. وهذا واضح أنه ليس على شرط مسلم، وليس صحيحاً أصلاً، لأن مخرمة باعترافه لم يسمع من أبيه، وإنما وقت له كتبه. ولذلك قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: «مخرمة بن بكير ضعيف، و حديثه عن أبيه كتاب، و لم يسمعه منه». وقال ابن حبان: «يحتج بحديثه من غير روايته عن أبيه، لأنه لم يسمع من أبيه».

ثم قال الشيخ: «وقال مكحول سألت عائشة : "فبكم تصلي المرأة؟" فقالت: "ائت علياً فاسأله ثم ارجع إلي". فقال: "في درع سابغ وخمار". فرجع إليها فأخبرها فقالت: "صدق". رواه عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة أيضاً». أقول: هذه فظيعة، لأن هذا يوهم بأن اللفظ لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة قد تابعه. والذي في مصنف عبد الرزاق (3|128 #5029) قال عبد الرزاق: «عن الأوزاعي عن مكحول عمن سأل عائشة: في كم تصلي المراة من الثياب؟ فقالت له: سل علياً ثم ارجع إلي فأخبرني بالذي يقول لك. قال فأتى علياً فسأله فقال: في الخمار والدرع السابغ. فرجع إلى عائشة فأخبرها فقالت: صدق». والذي في مصنف ابن أبي شيبة (2|36 #6169): «حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال: سألت عائشة في كم تصلي المرأة؟ فقالت: أئت عليا فاسئله ثم ارجع إلي. فأتى عليا فساله فقال: في درع سابغ وخمار. فرجع إليها فأخبرها فقالت: صدق».

وأنت كما ترى فإن الدكتور حذف "عمن سأل عائشة" مما أدى لأن يصبح الإسناد ظاهره الصحة، مع أنه منقطع، وقد أشار الألباني إلى انقطاعه. والحقيقة أن أي طالب علم يدرك على الفور أن الإسناد منقطع، لأن مكحولاً ما أدرك أمنا عائشة t فضلاً، عن أن يسمع من علي t. وفي رواية عبد الرزاق تبيان هذا الانقطاع، أما رواية ابن أبي شيبة فالخطأ من عيسى، الذي أظنه يروي عن الأوزاعي بواسطة.

ثم جاء الدكتور بنتيجة عجيبة فقال: «وبهذا يظهر لنا أن صلاة المرأة في البنطلون ولو كانت في بيتها لا يراها أحد غير صحيحة لأنها أخلت بشرط من شروط ستر العورة وهو أن يكون لباسها فضفاضاً سابغاً، والبنطلون ليس كذلك بل هو ضيق ملتصق بلحمها وعظمها يصف حجم أعضائها». وقد قدّمنا من قبل أن مسألة جواز الصلاة في الملابس الضيقة مسألة مختلف فيها بين العلماء. بل إن إضافة ستر العورة إلى شروط صحة الصلاة (ولا أقول كمال الصلاة) فيها خلاف أوضحناه في مقالنا عن عورة المرأة أثناء الصلاة.

قال الدكتور: «وما ينسب لمذهب الشافعية من جواز صلاة المرأة في الملابس الضيقة غير مسلّم به. بل إن الإمام الشافعي على خلاف ذلك. فقد قال الإمام الشافعي في كتابه الأم: "وإن صلى -أي الرجل- في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة… فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة. والمرأة أشد حالاً من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها. وأحب إليّ أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع". فانظر إلى حرص الإمام الشافعي على أن يكون الجلباب فضفاضاً واسعاً حتى لا يصف أعضاء المرأة». أقول: بل مذهب الشافعي يجيز صلاة المرأة في الملابس الضيقة مع الكراهية. ونص الإمام الشافعي في كتابه الأم (1|183) واضح جداً. وكذلك مذهب الحنفية. وأما مذهب الحنابلة فيجوز كذلك الصلاة في الملابس الضيقة كما نص عليه ابن مفلح في المبدع (1|359). ومذهب مالك أسهل من هذا حيث أنه لا يجعل ستر العورة من شروط الصلاة، فضلاً أن يزعم إبطال من صلت في ملابس ضيقة بمعزل عن الرجال.

ولو أن الدكتور قال هذا ما أعتقد وهذا ما أدى إليه اجتهادي، لما كانت هناك من مشكلة، لأنه عالم من حقه أن يجتهد. لكن أن يوهِم الإجماع في مسائل خلافية، ويحتج بأحاديث وآثار ضعيفة موهماً صحتها، فهذا الذي دعانا إلى كتابة هذا الرد. نسأل الله أن يغفر لنا وللدكتور عفانة ويهدينا وإياه سبيل الرشاد.