الحروف السبعة التي نزل بها القرآن

معنى الأحرف السبعة

الأحرف السبعة: هي أوجه الاختلاف في قراءة القرآن. فمنها من نُسِخَ في العرضة الأخيرة، وما لم يُنسخ فهو في المصاحف العثمانية التي هي عمدة القراءات المتواترة الباقية إلى اليوم. ومن ثَمَّ، فإنه لا يلزم الوصول إلى سبعة أوجه في هذه القراءات المتواترة الباقية؛ لأنَّ بعض هذه الأحرف قد نُسِخَ. كما أنه لا يلزم أن يوجد في كل كلمة سبعة أوجه من أوجه الاختلاف. وإن وُجِدَ، فإنه لا يتعدَّى السبعة. فإن حُكيَ في لفظ أكثر من سبعة، عُلِمَ أنَّ بعضها ليس بقرآن؛ كبعض الأوجه الواردة في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتْْ}. والمراد بعدد الأوجه من أوجه الاختلاف التي لا تزيد على سبع: الاختلاف في الكلمة الواحدة في النوع الواحد من أنواع الاختلاف؛ كالمد والقصر، والإمالة والفتح. فاختلاف الأحرف السبعة هو الأساس الذي بُنيت عليه القراءات المتواترة. قال العلامة اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي في "العين": «وكل كلمة تقرأ على وجوه من القراءات تسمى حرفاً». وأقصى ما ورد من الأوجه المتواترة إلينا اليوم في مواضع من القرآن هو ستة أوجه، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أَرْجِهْ} فيها ست قراءات متواترة، وهي:

1. أَرْجِهِ، دون همزة، وبكسر الهاء من غير إشباع، قرأ بذلك قالون وابن وردان.
2. أَرْجِهِي، كالوجه السابق، لكن مع إشباع كسرة الهاء بوصلها بياء، وقرأ بذلك ورش والكسائي وابن جمَّاز، وخلف في اختياره.
3. أَرْجِئْهُو، بالهمز، مع ضم الهاء وإشباع ضمها بوصلها بواو، وبذلك قرأ ابن كثير وهشام. وافقهما ابن محيصن.
4. أَرْجِئْهُ، بالهمز، مع ضم الْهاء من غير إشباع، وقرأ كذلك أبو عمرو ويعقوب. وافقهما اليزيدي والحسن.
5. أَرْجِئْهِ، بالهمز، مع كسر الهاء من غير إشباع، قرأ بذلك ابن ذكوان.
6. أَرْجِهْ، دون الهمز، مع سكون الهاء، وهي قراءة عاصم وحمزة. وافقهم الأعمش.

ويلاحظ أنَّ هذه الأوجه على قسمين:
الأول: ما يتعلق بالنطق واللهجة، كالإمالة والتقليل والفتح، وكالإدغام والإظهار، وغيرها، وهذا ما جاء تأكيد النبي
r عليه في طلب التيسير، حيث أن أكبر فائدة في هذه الحرف هو التيسير على الشيخ الكبير وغيره، ولا يتصور هذا إلاَّ في النطق.
الثاني: ما يتعلق بالرسم والكتابة؛ كالاختلاف في زيادة الواو وعدمها في لفظ {وسارعوا}، والاختلاف في حركات الكلمة في لفظ {تَرجِعون}، و{تُرجَعون}، وغيرها، وهو ما ركَّز عليه من جعلها أنواعاً من الاختلاف في القراءة (ابن قتيبة، وأبو الفضل الرازي، وابن الجزري وغيرهم). وإنما دخل هذا في الأحرف، مع أنه قد لا يعسر على الناطقين؛ لأنك تجد هذا القسم من الاختلاف في القراءة، فلا بدَّ أن تحمله على الأحرف السبعة، وإلاَّ كان هناك شيء من الاختلاف غير اختلاف هذه الأحرف السبعة.

يقول شيخنا العلامة وليد بن إدريس السلمي (وهو مجاز بالعشرة الكبرى): القراءات التي وصلتنا بالإسناد المتصل 14 قراءة، منها 10 قراءات متواترة، و 4 قراءات غير متواترة. وكل قراءة لها روايتان، فتكون الروايات 28 رواية، وكل رواية لها طرق عديدة... أما كون النبي r قرأ ختمة كاملة بكل قراءة أو رواية أو طريق، فليس كذلك، وإنما الاختلاف بين القراءات أو الروايات أو الطرق نوعان:
1) الاختلاف في فرش الحروف، وهو اختلاف النقط والتشكيل زيادة حرف أو نقصانه وتقديم حرف أو تأخيره ونحو ذلك. وفي هذا نقول إن النبي
r قرأ كل لفظة مختلف في فرش حروفها بجميع ما صح عنه r من الأوجه.
2) الاختلاف في الأصول وهو الاختلاف في المدود والغنن والإمالات والإدغامات ونحو ذلك. وفي هذا نقول إن النبي
r قرأ بكل وجه من هذه الوجوه بعض القرآن على الأقل أو قُرِئَ عليه به فأقره وأذِن فيه. وهذه الأصول تكون قواعد مطردة، فيلحق فيها النظير بنظيره. المهم أن هذه الأصول متلقاة عن النبي r، ولكن ليس بالضرورة أن يكون r قد قرأ كل مد منفصل في القرآن مثلا مرة بحركتين ومرة بثلاث ومرة بأربع ومرة بخمس ومرة بست بلا سكت ومرة بست مع السكت. مع العلم بأن النبي r كان يقرأ على جبريل ختمة في كل رمضان بجميع ما أنزل من القرآن، وهذا يشمل جميع الأحرف المنزلة. وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا يقتضي أنه r كان يجمع القراءات في تلك الختمة بكيفية ما، والله تعالى أعلم. انتهى.

أنواع الوجوه الواردة في اختلاف القراءات

هناك اختلافان في الأحرف: اختلاف في الفرش أي في رسم المصحف، واختلاف في الأصول أي في الأداء. والاختلاف بنوعيه قد يكون له أثر في المعنى، وقد لا يكون له أي أثر (إذ يرجع لاختلاف لهجات القبائل). ويمكن تقسيم هذين الاختلافين إلى أربعة أقسام:

  1. اختلاف راجع إلى الزيادة والنقص: {تجري تحتها} {تجري من تحتها}.

  2. اختلاف الكلمة: {ننشرها} {نُنشزها}، ومثل: {بظنين} {بضنين}.

  3. اختلاف نطق الكلمة: جِبريل جَبريل جَبرئيل جبرئل، ومثل: {بئر} و{بير}.

  4. اختلاف الحركات، أي الإعراب: {فتلقى آدم من ربه كلمات}.

  5. اختلاف عائد إلى اللهجة الصوتية، وهذا مما يعود إليه جملة من الاختلاف المتعلق بالأداء، كالفتح والإمالة والتقليل في {الضحى}.

ويمكن تلخيص هذا الاختلاف، بأن بعضه يظهر في الخط العثماني القديم الذي يخلوا من التنقيط والتشكيل (رقم 1 وربما رقم 2) وهو قليل، وقد أدى لاختلاف رسم المصاحف العثمانية الأربعة، وبعضه يظهر في النص الكامل الضبط والتشكيل، وبعضه لا يظهر إلا بالقراءة (رقم 5). وللحفاظ على القراءات المختلفة، قام كتبة المصاحف العثمانية بتخصيص بعض المصاحف برسم والأخرى برسم آخر يختلف في حرف أو حرفين. وهذا الاختلاف هو اختلاف تنوع وإثراء، لا اختلاف تضاد وتعارض. بمعنى أن تنوع القراءة جاء ليعطي معنى آخر يريده الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يعارض المعنى الأول. وهذا الاختلاف في رسم المصاحف (الشامي والمدني والكوفي والبصري) هو قليل. ولو حذفنا التشكيل وتجاهلنا الألف الغير مكتوبة في الرسم العثماني، فسائر الاختلاف في الرسم لا يزيد عن 37. وأكثر المصاحف مخالفة هو الشامي ثم المدني. مثال ذلك: {فإن الله هو الغني الحميد} الحديد 24، وهي قراءة الجمهور. وفي المصحف الشامي والمدني {فإن الله الغني الحميد} بغير "هو"، وهي قراءة ابن عامر الشامي، ونافع، وأبي جعفر المدنيان.

الاختيار في القراءات

الاختيار عند القراء: اختيار القارئ لوجه من مسموعاته والاقتصار عليه. قال نافع: «قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما شك به واحد تركته حتى ألفت هذه القراءة». وقرأ الكسائي على حمزة وغيره، فاختار من قراءة غيره نحوا من ثلاثمئة حرف، وكذا أبو عمرو على ابن كثير، وخالفه في نحو ثلاثة آلاف حرف اختارها من قراءة غيره. قال الشيخ إبراهيم الدوسري في "معجم المصطلحات في علمي التجويد والقراءات" (ص22): «الاختيار: ملازمة إمام معتبر، وجها أو أكثر من القراءات، فينسب إليه على وجه الشهرة والمداومة، لا على وجه الاختراع والرأي والاجتهاد. ويسمى ذلك الاختيار "حرفا" و "قراءة" و "اختيارا"، كله بمعنى واحد، فيقال : اختيار نافع، وقراءة نافع، وحرف نافع، كما يقال: قرأ خلف البزار "عن نفسه" و "في اختياره"، كلاهما بمعنى واحد: أي في قراءته وفيما اختاره هو، لا فيما يرويه عن حمزة. و "أصحاب الاختيارات" هم من الصحابة والتابعين والقراء العشرة ونحوهم ممن بلغوا مرتبة عالية في النقل وعلوم الشريعة واللغة». وقال (ص42): «تركيب القراءات = التلفيق: التنقل بين القراءات أثناء التلاوة، من غير إعادة لأوجه الخلاف، ودون الالتزام برواية معينة، كأن يقرأ {وهو} في موضع بضم الهاء وفي موضع آخر بإسكانها، ويعبر عنه بـ "الخلط" وبـ "التلفيق". وفي جوازه خلاف بين العلماء». والذي عليه الكثير من الأئمة هو جواز الخلط والتلفيق بين القراءات، لكن بشروط.

ولا شك أنه لا يجوز الاختيار إلا من القراءات الثابتة، ولا يجوز للقارئ أبداً أن يقرأ بالمعنى. قال السيوطي في الإتقان (1|90): «وبقي قسم رابع مردود أيضاً، وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة. فهذا رده أحق ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر. وقد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر بن مقسم، وعقد له بسبب ذلك مجلس وأجمعوا على منعه، ومن ثم امتنعت القراءة القياس المطلق الذي لأصل يرجع إليه، ولا ركن يعتمد في الأداء عليه».

ولعل البعض هنا يسأل: من الذي منع من قضية الاختيار في القراءات؟ يقول شيخنا المقرئ أبو خالد: صاحب الفضيلة حضرة الشيخ الجليل محمد الأمين أمّنك الله من الفزع الأكبر، لقد كان العمل خلال القرون الثلاثة المفضلة على أن: من قرأ على شيخ واحد اتبعه في اختياره لأن القراءة سنة متبعة ليس فيها مجال للرأي، ومن قرأ على أكثر من شيخ بقراءات مختلفة فإنه إما أن يتبع أحدهم، وإما أن يؤلف لنفسه قراءة يختارها من بين ما قرأ به على مشايخه. ولم تكن الاختيارات محصورة في اختيارات القراء السبعة ورواتهم، بدليل أن أبا جعفر الطبري -المتوفى سنة 310- كان له اختيار جمعه من بين 22 قراءة قرأ بها وضمنها في كتابه القراءات. وكان من بين تلاميذ الطبري الذين قرؤوا عليه باختياره هذا، ابن مجاهد نفسه [مسبع السبعة]. وفي القرون الأولى كانت الاختيارات عديدة. فأبو حاتم السجستاني روى 24 قراءة، منها 4 من القراءات السبع و20 قراءة أخرى. وبعد هؤلاء روى الإمام الهذلي في كتابه الكامل 50 قراءة. وكل هذه القراءات لا تخرج عن الأحرف السبعة. فعملية الاختيارات مثل التوافيق والتباديل في الرياضيات. فمثلا لو كان في الآية ثلاث كلمات، كل كلمة ثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم 3 أوجه في قراءتها، فبالتالي هذه الآية تحتمل أن تقرأ بـ 27 قراءة، حاصل ضرب 3×3×3. والذي حصل [لحكمة يعلمها الله] أن ابن مجاهد -وهو شيخ قراء زمانه وهو تلميذ الطبري وشيخ الدارقطني- ألف كتابا اقتصر فيه على سبع قراءات كانت وجهة نظره أنها أرجح القراءات. وكان تأليفه لهذا الكتاب سنة 300 هـ بالضبط [سبحان الله كأن لهذه السنة سرا معينا في انتهاء عصر المتقدمين في القراءات كما انتهى في الحديث] فعكف تلاميذه على كتابه وقصرت الهمم، وحصل مثل ما حصل من الاقتصار على المذاهب الأربعة. ومثل ما حصل في كتب السنة، أنك لا يصح بعد عصر التدوين أن تخلط رواية كتاب برواية كتاب آخر فتؤلف رواية من بين مجموع روايات الكتب، فكذلك في القرآن منع الأئمة التركيب بمعنى خلط الروايات بعضها ببعض. وإن كان المحققون على أنه يكره ولا يليق بالعالم ولكنه لا يمتنع ولكن بشرط ألا يركّب بكيفية تخل باللغة مثل أن يقرأ {فتلقى آدمُ} بالرفع {من ربه كلماتٌ} بالرفع أيضا، لأن الذين قرؤوا {آدم} بالرفع نصبوا {كلمات} والذين رفعوا {كلمات} نصبوا {آدم}، واشترطوا أيضا ألا يكون في مقام الرواية، فإذا قال إنه سيقرأ برواية حفص فليس له أن يقرأ {ملِك يوم الدين} مثلا لأن حفصاً قرأ {مالك} فتكون قد كذبت عليه. انتهى.

اختلاف الناس في معنى الأحرف السبعة

اختلف العلماء في المراد بالأحرف على خمسة وثلاثين قولاً، ذكرها ابن حبان، وهو ليس من أهل هذا الفن فضلاً على أنه ليس من أهل التحقيق. وكان الشرف المزني المرسي الذي نقل تلك الأقوال عن ابن حبان قد قال: «هذه الوجوه أكثرها متداخلة، ولا أدري مستندها، ولا عمّن نقلت، ولا أدري لِمَ خصَّ كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر... وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح، فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه، إنما اختلفا في قراءة حروفه». ولا يخفى على الناظر في تلك الأقوال أن معظمها لا علاقة له بقراءة القرآن، لأنها تتعلق بالمعاني والأحكام، وهي الأقوال من (1-19) والأقوال من (31-35). وبقي منها أحد عشر قولاً ستة منها تدور حول تفسير الأحرف بسبع لغات، وما بقي يدور حول وجوه النطق المختلفة. فلا يبقى من تلك الأقوال بعد التمحيص إلا ثلاثة أو أربعة صالحة للعرض والمناقشة.

فالبعض يرى أن الأحرف السبعة هي سبعة لغات من لغات العرب. وحجتهم ما أخرجه الترمذي عن أبيّ بن كعب أنه قال: لَقِيَ رسول الله r جبريل، فقال: «يا جبريل إني بُعِثْتُ إلى أمة أُميين منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط». قال: «يا محمد، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح قد ورد عن أبي بن كعب من غير وجه». وقال أبو جعفر الطحاوي: «إنما كانت هذه السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم. فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات. ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوُسّعَ لهم في اختلاف الألفاظ». وكلامهم صحيح لكن لا يجوز حصر الأحرف السبعة باختلاف لهجات العرب، فقد اختلفت قراءتي عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم وكلاهما من قريش. وقول الطحاوي في تعليل إنزال الأحرف للتسهيل على الناس، حق لا شك فيه، لكنه ليس السبب الوحيد، بل أراد الله تبيان المعنى بذكر عدة وجوه للآية كذلك، وقد تكون هذه الوجوه هي بلغة واحدة من لغات العرب.

وإذا تأمَّلت ما يتعلق باللغات العربية، وجدته أكثر ما يتعلق به الخلاف في القراءات، خصوصاً ما يتعلق بالنطق. فقبيلة تعمد إلى الإدغام في كلامها، وقبيلة تعمد إلى الإمالة، وقبيلة تعمد إلى تسهيل الهمز، وقبيلة تعمد إلى تحقيق الهمز، وقبيلة تعمد إلى ترقيق بعض الأحرف، وقبيلة تعمد إلى تفخيمها، وهكذا غيرها من الظواهر المرتبطة بالصوتيات التي تتميَّز بها قبيلة عن قبيلة. ويظهر أنَّ هذه الصوتيات هي أكبر ما يراد بنُزول الأحرف السبعة، وهي التي يدل عليها قوله r: «أسأل الله مغفرته ومعافاته، وإن أمتي لا تطيق ذلك». إذ الذي يستعصي على هؤلاء هو تغيير ما اعتادوا عليه من اللهجات (مثل الإمالة والإدغام) إلى غيرها، دون ما يكون من إبدال حرف بحرف، أو زيادة حرف، أو إعراب، فإن هذه لا تستعصي على العربي. وهذه الاختلافات المتعلقة باللهجات إذا قرأ القارئ  بأي منها فهو مصيب إذ قد ورد في الحديث: «كلها كاف شاف ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، وآية عذاب بآية رحمة».

وقد ذكر بعض العلماء أنَّ التخفيف في نزول الأحرف السبعة كان متأخرًا عن نزوله الأول، فلم يرد التخفيف إلا بعد نزول جملة كبيرة منه. وهذا حق، فحديث أبي في الاستزادة من جبريل قد حدث بعد الهجرة. فقد جاء في الحديث ذكر "أَضََاة بني غفار" وهي قباء. وأكثر من يروي تلك الأحاديث هم من الأنصار أو ممن تأخر إسلامهم لما بعد الهجرة مثل هشام بن حكيم. قال ابن حجر: «فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة». لكن هذا لا يعني أبداً أن الأحرف السبعة خاصة بالآيات المدنية. فقد أنزل الله على رسوله الآيات المكية مرة أخرى بالأحرف السبعة، ليعلمها رسول الله r للناس بلهجاتهم.

علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان

اعلم أنَّه لا يوجد نصٌّ صريحٌ في ما كتبه أبو بكر ولا عثمان رضي الله عنهما. ومن الناس من ظن بأنَّ أبا بكر كتب مصحفه على الأحرف السبعة، وأن عثمان قد جمع الناس على حرف واحد وترك الأحرف الستة الأخرى، فقال هؤلاء بأنَّ القراءات اليوم هي على حرفٍ واحدٍ. وهذا غلط لا دليل عليه البتة، وهو اجتهاد مدخولٌ. فقد أثبت عثمان الخلاف بين المصاحف العثمانية، مما يدل على أنه لم يحاول جمع الناس على حرف واحد. لكنه منع من قراءة المنسوخ فقط. ومن الناس من قال: "ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة". وهذا يَرُدُّهُ ما في حديث ابن عباس في الصحيحين، أن رسول الله r قال : «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف». فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره، وأن كل هذه الأحرف السبعة قد نزل بها جبريل عليه السلام. قال ابن حجر العسقلاني: «إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحد يُغَيِّرُ الكلمة بمرادفها في لغته، بل المُراعى في ذلك السماع من النبي r. ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب: "أقرأني النبي r"».

والذي يدل عليه النظر أنه لا فرق بين ما جمعه أبو بكر في مصحف واحد مما ما كُتب بين يدي رسول الله r متفرقاً، و بين ما فرَّقه عثمان ونسخه في المصاحف المتعددة في الأمصار. وإنما الاختلاف بينها في السبب والطريقة فحسب. فمن أسباب اختيار أبي بكرٍ لزيدِ بن ثابت ما جاء في الصحيح: «وقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا أتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله r، فتتبع القرآن واجمعه». ومن أسباب اختيار عثمان لزيد ما جاء في كتاب "المصاحف" (ص 31): حدثنا عمي، حدثنا أبو رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد قال: أن عثمان قال: من أكتَبُ الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله r زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمْل سعيد، وليكتب زيد. فكتب زيد مصاحف ففرقها في الناس... قال ابن كثير: إسناده صحيح. وكلاهما يشير إلى وجود ما يميِّز زيداً على متقدمي قراء الصحابةِ، أمثال أبيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وسالم مولى حذيفة، وعلى ابن مسعود خصوصاً، الذي اعترض لاحقاً على عدم إشراكه في جمع القرآن في عهد عثمان. والنص يشير إلى أن صغر سن زيد هو من أسباب اختياره لهذه المهمة. وهذا لأن الكبير قد يعلق قراءة قديمة، وأبو بكر وعثمان يريدان الشبان الذين لم يحفظوا إلا آخر ما جاء في الوحي. فاختاروا زيداً من بين سائر الصحابة لأنه أعلمهم بالعرضة الأخيرة، بينما كانت بعض قراءات قدماء الصحابة منسوخة. كما أنه كان أبرز كتاب الوحي، وكان أمهر الناس بالكتابة. واختار عثمان إضافة لزيد الأنصاري، ثلاثة من شبان قريش: عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان سعيد أفصحهم وأقربهم لهجة للهجة رسول الله r.

 فزيد الذي تولى كتابة المصحف أيام أبي بكر، هو الذي تولاه أيام عثمان. ففي كلا الحالتين سيكتب في المصحف ما ثبت في هذه العرضة الأخيرة. وسيثبت نفس ترتيب السور. لكن لو حدث خلاف حول كتابة الكلمات على أي لهجة، فقد أمر عثمان أن يكون ذلك على لهجة قريش وليس على لهجة الأنصار. وهذا ثابت بما روى البخاري عن أنس: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال لعثمان: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى". فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم". ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق».

وقد يعترض معترضٌ أن الاختلاف قائمٌ في القراءات المشهورة التي يقرأ بها الناس إلى اليوم. والجواب أن عثمان لم يمنع اختلاف القراءة كما قد يتبادر على الذهن من ظاهر الحديث. بل كان عمله حذف القراءات المنسوخة، ذلك أنَّ قراء الصحابة كانوا يقرئون الناس بما صحَّ عندهم عن نبيهم r، وليس كلهم بَلَغَهُ ما نُسِخَ في العرضة الأخيرة. فلعل هذا هو الذي أفزع حذيفة. فلما وزع عثمان المصاحف، صار لو التقى قارئٌ من البصرة وقارئ من الكوفة، فقرأ كل منهما على اختلاف ما بينهما، فإنهما يعلمان بأن ذلك عائدٌ إلى وجه صحيح مروي عن النبي r، وبهذا يكون الاختلاف قد تحدَّد بهذه المصاحف ومن معها من القراء، وأنَّ ما سواها فهو منسوخ لا يُقرأ به. أما قول عثمان "فاكتبوه على لغة قريش"، فهو إشارة إلى الرسم لا إلى القراءة، أي هو لا يمنع من القراءة. فمثلاً اجتمعت مصاحف أهل الأمصار على رسم {الصراط} و{صراط} بالصاد مثل لغة قريش، لكن في قراءة متواترة صح أنها تُقرأ بالسين وبإشمامها زاياً. جاء في "الإتقان في علوم القرآن" (1|139) عن المصاحف العثمانية: «وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمل رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي على جبريل، متضمنة لها لم تترك حرفا منها».

وقد وردت آثار صحيحة تؤيد مذهب جماهير العلماء من أن المصاحف التي بين أيدينا هي التي تحوي على العرضة الأخيرة. أخرج ابن أبي شيبة (10|560): عن حسين بن علي، عن سفيان بن عُيَيْنَةَ، عن ابن سيرين، عن عَبِيْدَةَ، قال: «القراءةُ التي عُرِضَتْ على النبي r في العام الذي قُبِضَ فيه، هي القراءةُ التي يقرؤها الناسُ اليوم». وهذا إسنادٌ غاية في الصحة. وعبيدة ثقة مخضرم، أدرك جمع أبي بكر وجمع عثمان، وكان من أبرز تلاميذ ابن مسعود. وقال الحاكم (2|250): أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي ثنا علي بن عبد العزيز البغوي بمكة (ثقة ثبت) ثنا حجاج بن المنهال (ثقة فاضل) قال: ثنا حماد بن سلمة (حسن الحديث) عن قتادة (ثبت) عن الحسن (ثبت) عن سمرة رضي الله عنه قال: «عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ r عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة». وسماع الحسن من سُمرة صحيح وإن كان صحيفة.

وروى ابن أبي داود في المصاحف (ص33): حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد قال: حدثنا أبو بكر (بن عياش، المقرئ عن عاصم) قال: حدثنا هشام بن حسان (ثبت في ابن سيرين)، عن محمد بن سيرين (ثبت)، عن كثير بن أفلح (ثقة تابعي) قال: لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الرَّبعة (مصحف أبي بكر) التي في بيت عمر فجيء بها، قال: وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخروه. قال محمد: فقلت لكثير -وكان منهم فيمن يكتب-: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد (بن سيرين): «فظننت ظنَّاً أنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهداً بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله». صححه ابن كثير. أما ما رواه البَغَويُّ عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِي (ت 74هـ) أنه قال: قرأ زيد بن ثابت عن رسول الله r في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه: "شهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين"، فهذا لم أجد له سنداً، لكن معناه ثابت بالآثار التي ذكرناها أعلاه.

ومن هنا نعلم أن غضب ابن مسعود من تولية عثمان لزيد لم يكن له مبرر. فعثمان قد فعل الذي فعله أبو بكر وعمر من قبل، ولم يعترض ابن مسعود عليهما البتة. ولعل الذي أغضبه هو أمر عثمان بإحراق المصاحف المخالفة للمصاحف العثمانية، وهو شيء تلقاه جميع الصحابة والتابعين بالرضى، إلا ابن مسعود. إذ أخرج الطحاوي عن شقيق بن سلمة قال: لما أمر عثمان في المصاحف بما أمر به، قام عبد الله بن مسعود خطيبا، فقال: «أتأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ فو الذي نفسي بيده، لقد أخذت من فِي رسول الله r بِضعاً وسبعين سورة، وزيد بن ثابتٍ عند ذلكَ يلعبُ مع الغِلمان». وأصل القصة في الصحيحين مختصرة.

لكن هذا لا يعطيه الأولوية على يزيد. ففي الصحيحين عن أنس قال: «جمع القرآن على عهد رسول الله r أربعةٌ كلَّهم من الأنصار: معاذ بن جبل وأبيُّ بنُ كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد». وفي صحيح البخاري قال: «مات النبيُّ r، ولم يجمعْ القرآنَ غيرُ أربعةٍ: أبو الدَّرداء ومعاذُ بن جبل وزيدُ بنُ ثابتٍ وأبو زيد». فمات معاذ وأبو زيد في خلافة عمر. فاختار عثمان زيد، وأشرك في الجمع أبي. وهؤلاء أحفظ من ابن مسعود، لأنه صرح (كما في الصحيحين) أنه لم يأخذ من رسول الله r إلا بضعاً وسبعين سورة، ولا يُعرف أنه جمع القرآن قبل وفاة النبي r. فمن أخذ السور كلها، كان أتقن وأولى.

إذا أن البعض اعترض بما رواه أبو ظبيان ومجاهد عن ابن عباس أن قراءة ابن مسعود هي الأخيرة! أخرج أبو يعلى (4|435): حدثنا زهير، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيَانَ (حصين بن جندب، ثقة كوفي) قال: قال ابن عباس: أي القراءتين تعُدون قراءة الأولى؟ قالوا: قراءة عبد الله. قال: «قراءتنا القراءةُ الأولى، وقراءة عبد الله قراءةُ الأخيرة. إن رسول الله r كان يُعرض عليه القرآن كل رمضان عرضة. فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه عرض عليه عرضتان. فشهد عبد الله، وشهد ما نُسِخَ منه وما بُدِّلَ». وفي رواية الطحاوي في مشكل الآثار (14|229) وغيره: «عرض عليه مرتين بحضرة عبد الله». وأخرج أحمد (1|325 #3001) مختصراً والحاكم (2|250) واللفظ له: من طريق إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا. إن رسول الله r كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل عليه السلام، فما كانت السنة التي قبض فيها، عرضه عليه عرضتين، فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن». وهذه أسانيد صحيحة.

وهذا مشكل جداً لعدة أمور:

فالصواب الذي لا ريب فيه أن قراءتنا قراءة زيد هي الأخيرة وقراءة ابن مسعود هي القديمة المنسوخة. والله أعلم.

وبعد هذا يكون الفرق بين عمل أبي بكر وعمل عثمان كما يأتي: