تخريج أسانيد التفسير

** تفسير أُبَيّ بن كعب **

 فضله:

هو أحد الذين جمعوا القرآن كاملاً على عهد رسول الله r. كان أقرأ الصحابة وسيد القراء، وكان بدرياً. و روى الترمذي حديث أنس الذي فيه: «وأقرئُهم أبي بن كعب». وما عاب عمر عليه إلا أنه لا يلتزم بالعرضة الأخيرة من القرآن التي نسخت ما قبلها. وروي عن أنس بن مالك t: أن رسول الله r قال لأبي بن كعب t: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن». قال: «الله سماني لك؟». قال: «نعم. الله سماك لي». قال: فجعل أُبَي يبكي. و قال الشعبي عن مسروق: «كان أصحاب القضاء من الصحابة ستة» فذكره فيهم. توفي سنة 32 على خلاف فيه. ويعتبر أُبَي مؤسس مدرسة التفسير في المدينة، التي جاء منها: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظي.

 

الطرق التي روي عنها أكثر تفسيره:

1- له نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي (سيئ الحفظ خاصة عن المغيرة والربيع)، عن الربيع بن أنس (صدوق مفرط في التشيع)، عن أبي العالية رُفيع بن مِهْران المدني البصري (ثقة ثبت، صاحب تفسير)، عنه. ورواها ابن أبي حاتم من طريق آدم بن أبي إياس (ثقة) وعبد الله بن أبي جعفر، وروايته عن أبيه ضعيفة.

2-  طريق وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل (ضعيف)، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه.

3- طريق علي بن الحسين بن واقد (ضعيف يعتبر به)، عن أبيه (صدوق يخطئ خاصة عن أيوب وأبي المنيب)، عن الربيع بن أنس (صدوق مفرط في التشيع)، عن أبي العالية. وقد اعتمد الحاكم هذا الطريق.

 

** تفسير علي بن أبي طالب **

 فضله:

فضله أشهر من أن يذكر. لكن الملاحظ هنا أن عامة ما يُروى عنه إنما يرويه عنه أهل العراق أثناء خلافته، ورواية أهل المدينة عنه قليلة. وكان يقول: «سَلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آيةٍ إلا وقد عرَفتُ بليلٍ نزَلَت أم بنهارٍ، في سهلٍ أم في جبل»، أخرجه ابن سعد (2|338) بإسناد صحيح.

 

الطرق التي روي عنها أكثر تفسيره:

أكثر من يُروى عنه موضوع. قال عامر الشعبي: «ما كُذِب على أحدٍ في هذه الأمة، ما كُذِبَ على عليٍّ t». قال عَلقمة: «أفرط ناس في حُبّ علي، كما أفرطت النصارى في حُبّ المسيح». قال مغيرة: «لم يكن يصدق على علي t -يعني في الحديث عنه- إلا أصحاب عبد الله بن مسعود». أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه. قال ابن أبي ليلى: «صحبت علياً t في الحضَر والسفر، وأكثر ما يُحَدِّثون عنه باطل».

1- طريق هشام بن عروة، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة السلماني، عن علي. وهذا يخرج منه البخاري.

2-  طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين (ثقة)، عن أبي الطفيل (عامر بن واثقة، صحابي)، عن علي.

3- طريق الزهري، عن علي زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي. وهذا الطريق من أصح الطرق على الإطلاق.

ثم غالب ما بقي ضعيف.

 

**تفسير عبد الله بن مسعود**

فضله:

هو من أوائل المسلمين الذين شهدوا تنزيل القرآن كله، وهو من المبشرين بالجنة. ويكفينا ما جاء في صحيح البخاري من فضله: قال رسول الله r: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدِ الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حُذَيْفَة، وأُبَيِّ بن كعب، ومُعاذِ بنِ جَبَل». وفي صحيح مسلم عن أبي الأحوص قال: «كُنا في دار أبي موسى مع نفرٍ من أصحاب عبد الله (بن مسعود) وهم ينظُرون في مصحف. فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: "ما أَعْلَمُ رسول الله r تَرَكَ بعدهُ أعلمَ بما أنزلَ اللهُ مِن هذا". فقال أبو موسى: "أما لئِن قُلتَ ذاكَ، لقد كان يشهدُ إذا غِبنا، ويؤذَنُ له إذا حُجِبنا"».

وأخرج مسلم كذلك عن شقيق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: من الآية161). ثم قال: «على قراءةِ مَنْ تأمروني أن أقرأ؟! فلقد قرأتُ على رسول الله r بِضعاً وسبعينَ سورةً. ولقد عَلِمَ أصحابُ رسولِ اللهِ r أني أَعْلَمُهُمْ بكتابِ الله. ولو أعلمُ أن أحداً أعلمُ مِنّي، لرَحلتُ إليه». قال شقيق: «فجلست في حَلَقِ أصحاب محمدٍ r فما سمعتُ أحداً يرُدُّ ذلك عليه ولا يعيبُه». وأخرج مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: «والذي لا إله غيرُهُ، ما مِن كتابِ اللهِ سورةٌ إلا أنا أعلمُ حيثُ نزَلَت. وما مِن آيةٍ إلا أنا أعلمُ فيما أُنزِلَت. ولو أعلمُ أحداً هو أعلمُ بكتابِ اللهِ مِني –تبلُغُهُ الإبِلُ– لركبتُ إليه».

 

الطرق التي روي بها تفسيره:

1- طريق الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. وهذا أصح الطرق وقد اعتمده البخاري. وكذلك طريق الشعبي وأبي وائل عن مسروق عن ابن مسعود، صحيح.

2- طريق الأعمش عن أبي وائل، عن ابن مسعود. وهذا الطريق قد اعتمده البخاري.

3- طريق مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود. وهذا الطريق قد اعتمده البخاري.

4- طريق أبي ورق، عن الضحاك (مرسلاً)، عن ابن مسعود. وهذا طريق منقطع.

5- طريق السدي الكبير (شيعي متهم بالكذب) عن مرة الهمداني (ثقة) عن عبد الله بن مسعود. وهذا طريق ضعيف، وفيه من المنكرات والإسرائيليات الشيء الكثير.

6- وما أرسله إبراهيم النخعي عن ابن مسعود t فهو مقبول (ما لم يكن فيه نكارة) لأنه لا يرسل عنه إلا عندما يأتيه بالخبر أكثر من واحد. لكن تفسير النخعي الموقوف عليه فيه نظر لأن النخعي كان يلحن ولم يكن من أهل اللغة. وأهم من يروي عن النخعي: مُغيرة بن مِقْسَم (فقيه ثبت، لكن عامة ما رواه عن إبراهيم مُدلّس) و منصور بن المعتمر (ثقة ثبت).

 

تلاميذه: علقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق، والشعبي، والحسن البصري، وأبو وائل، و عبيدة بن عمرو السلماني، وأبو يزيد الثوري الربيع بن خثيم، وأبو الأحوص عوف بن مالك، ومرة الطيب، وآخرون. وكل هؤلاء ثقات أثبات. قال علي بن المديني: «لم يكن في أصحاب رسول الله r أحدٌ له أصحابٌ يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس».

 

  **تفسير ابن عباس**

 فضله:

ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله r قال عنه: «اللهم عَلِّمهُ الحكمة»، وقال r: «اللهم علّمه الكتاب». وهناك حديث أخرجه أحمد أن رسول الله r قال لابن عباس: «اللهم فقّههُ في الدِّينِ، وعلِّمهُ التأويل». قلت: «إسناده فيه مقال». وقال ابن مسعود: «لو أدرَكَ ابن عباس أسناننا، ما عاشره منا رجُل». وكان يقول: «نِعمَ ترجمان القرآن ابن عباس». صحّحه ابن حجر في فتح الباري (7|100). وقال أبو هريرة لما مات زيد بن ثابت: «مات اليوم حِبرُ الأُمّة. ولعلَّ الله أن يجعل في ابن عباس منه خَلَفاً». صححه ابن حجر في تهذيب التهذيب (5|244). وقال عكرمة: «كان ابنُ عباسٍ أعلَمَ بالقرآن من علي، وكان عليٌّ أعلمَ بالمبهمات من ابن عباس»، أخرجه ابن سعد (2|367) بإسناد صحيح.

والملاحظ أن ابن مسعود كان ينحى كثيراً إلى التفسير بأسباب النزول وبالقراءات. أما ابن عباس فكان ينحى إلى التفسير بالسنة وباللغة العربية وبالشعر وبالاجتهاد. وكلا المنهجين قويٌّ معتمد. وقد اختلف اهتمام كل تلميذ لابن عباس في نقل التفسير. فاعتنى مجاهد بن جبر بالمفردات وغريب القرآن وأشعار العرب. واعتنى عِكْرِمَة مولى ابن عباس بأسباب النزول. واعتنى سعيد بن جبير بالأحكام والغيبيات وأكثر من الرواية في الإسرائيليات. واعتنى عطاء بالمسائل الفقهية.

 

الطرق التي روي عنها أكثر تفسيره:

 

1- طريق أبو صالح عبد الله بن صالح (كاتب الليث، ضعيف)، عن معاوية بن صالح (قاضي الأندلس)، عن علي بن أبي طلحة (مرسلاً)، عن ابن عباس. وهذه هي صحيفة علي بن أبي طلحة الهاشمي، التي رواها عن عبد الله بن صالح جمع غفير من أئمة أهل الحديث. وهي لا تصح لعدة أسباب:

 أولاً: بسبب الانقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، فقد اتفق الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس. قال الخليلي (ت 446هـ) في الإرشاد (1|394): «وأجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه (أي التفسير) من ابن عباس». أما زعم البعض أنه أخذه من ابن جبير أو من مجاهد (مع أنه نادر الرواية عن ابن عباس!) أو عكرمة أو القاسم أو راشد أو ابن زيد أو غيرهم (على اضطرابهم في هذا الأمر) فليس عليه دليل. لذلك قال الألباني في تعليقه على "التنكيل": «ولكن أين السند بذلك؟» (أي بتحديد الواسطة). ولم يُسمّ أحدٌ من العلماء المعاصرين لابن أبي طلحة هذه الواسطة. ومن سماه ممن تأخر عنه، إنما يخرص بظنه. إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. عدا أن هذا التفسير قد يخالف تفسير مجاهد وابن جبير وعكرمة وغيرهم من تلاميذ ابن عباس. قال المعلمي في "التنكيل" –بعد أن قال بالانقطاع بينه وبين ابن عباس–: «ولا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما. والثابت عنهما (مجاهد وسعيد بن جبير) في تفسير الصمد، خلاف هذا».

 بل ثبت عن أحد أئمة الجرح والتعديل نفيه لأخذ ابن أبي طلحة التفسير عن أحد (من أصحاب ابن عباس الثقات). فقد أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (11|428) بسند صحيح أن صالح بن محمد (جزرة) قد سُئِل عن علي بن أبي طلحة: ممن سمع التفسير؟ قال: «من لا أحد». وقال عنه أبو بكر أحمد بن علي بن منجويه الأصبهاني (ت 428هـ) في كتابه "رجال مسلم": «تفسيره غير معتمَد»، أي بسبب الانقطاع. وابن منجويه قال عنه شيخ الإسلام إسماعيل الأنصاري: «أحفظ من رأيت من البشر». و هذه الصحيفة قد أعلها بالانقطاع عدد من المحققين مثل ابن تيمية وابن كثير وابن القيم، وعدد من المعاصرين مثل المعلمي وأحمد شاكر والألباني وغيرهم.

 وزعم البعض أن الإمام أحمد قد صححها (مع أنه قد ضعف ابن أبي طلحة نفسه!). قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3|280 ط. الرسالة): حدثنا علي بن الحسين بن عبد الرحمن بن فهم عن أبيه (ضعيف) قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: «لولا أن رجلا رحل إلى مصر فانصرف منها بكتاب التأويل لمعاوية بن صالح، ما رأيت رحلته ذهبت باطلة». ورواه أيضا أبو جعفر النحاس في كتاب "الناسخ والمنسوخ" (ص75) قال: وقد حدثني أحمد بن محمد الأزدي قال: سمعت علي بن الحسين (مجهول) يقول: سمعت الحسين بن عبد الرحمن بن فهم (ضعيف) يقول: سمعت أحمد بن حنبل –رحمه الله– يقول: «بمصر كتاب التأويل عن معاوية بن صالح، لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف به، ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلا». وأجيب عن هذا بأنه لا يثبت عن الإمام أحمد. فالراوي مجهول، وأبوه ضعفه الدراقطني وهو الصواب فيه، وانظر المغني في الضعفاء وميزان الاعتدال ولسان الميزان. ولو ثبت مثل هذا عن الإمام أحمد، فليس فيه البتة إثبات سماع ابن أبي طلحة من أحد من تلامذة بن عباس.

 ثانياً: اختلف العلماء في عبد الله بن صالح: منهم من جعله كذاباً، ومنهم من ضعّفه، ومنهم من صدقه. وجامع القول فيه ما قاله الإمام ابن حبان: «كان في نفسه صدوقاً، إنما وقعت له مناكير في حديثه من قبل جارٍ له. فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة. كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح، ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله، ويرميه في داره بين كتبه، فيتوهم عبد الله أنه خطه، فيحدّث به». وقد قال عنه أبو زرعة: «كان يسمع الحديث مع خالد بن نجيح، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ أملى عليهم ما لم يسمعوا قبلوا به». ثم قال: «وكان خالد يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا ويدلس لهم هذا». ووافقه الحاكم على هذا. وقال أبو حاتم: «الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه. وكان أبو صالح سليم الناحية. وكان خالد بن يحيى يفتعل الكذب ويضعه في كتب الناس». انظر تهذيب التهذيب (5|227).

 هذا وقد شَغِبَ البعض علينا، فقال إن هذه صحيفة مكتوبة فلا يؤثر بها سوء حفظ عبد الله بن صالح إذا روى عنه إمام ثقة. أقول: كلامنا واضح أنه عن الدس في كتب عبد الله بن صالح، وليس عن سوء حفظه. وإذا كان الخط الذي يزوّره جار ابن صالح من الإتقان بحيث أن ابن صالح نفسه لا يستطيع تمييزه عن خطه، فمن الأجدر أن الرواة عن ابن صالح كذلك لا يميزونه.

 ثالثاً: علي بن أبي طلحة (وهو علي بن سالم بن المخارق الهاشمي) قد تكلم بعض العلماء فيه، فوثقه بعضهم وضعفه بعضهم الآخر. قال عنه أحمد بن حنبل: «له أشياء منكرات». ونقل ابن تيمية في "الرد على البكري" (ص75) عن أحمد أنه قال: «علي بن أبي طلحة ضعيف». وقال عنه يعقوب بن سفيان: «هو ضعيف الحديث، منكَر، ليس بمحمود المذهب». وفيه تشيّع، وكان يرى السيف على المسلمين.

 رابعاً: معاوية بن صالح الحضرمي، فيه خلاف طويل كذلك. قال يعقوب بن شيبة: «قد حمل الناس عنه، و منهم من يرى أنه وسط ليس بالثبت ولا بالضعيف، و منهم من يضعفه». قلت: من وثقه أكثر، لكن انتقدوا عليه إفرادات. والخلاف فيه تجده في ترجمته في التهذيب. وممن ضعفه –وليس قوله في التهذيب– ابن حزم في المحلّى (5|70). ولخّص ابن حجر حاله في التقريب بقوله: «صدوقٌ له أوهام».

 ولذلك تجد في هذه الصحيفة بعض المناكير والشذوذات والأقوال التي تعارض الثابت عن ابن عباس. وإجمالاً فهي تفسير قيّم جميل، ولعل غالبه مأخوذ من ابن عباس لكن فيها دس ووضع. ولذلك لا نستطيع أن نجزم بشيء منها ما لم يوافق ما هو معروفٌ عن ابن عباس. وقد علق البخاري نذراً يسيراً منها في التفسير اللغوي للقرآن وأشباهه، بسبب قرائن تشهد لذلك النذر اليسير بالصحة.

 قال شيخ الإسلام في "نقض التأسيس" (3|41): «وهذا إنما هو مأخوذ من تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة الذي رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس...». إلى أن قال: «وأما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس، ففيها نظر. لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه، بل هو منقطع. وإنما أخذ عن أصحابه. كما أن السّدّي أيضا يذكر تفسيره عن ابن مسعود وعن ابن عباس وغيرهما من أصحاب النبي r وليست تلك ألفاظهم بعينها. بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسِّيَر. وهو مما يُستشهدُ به ويُعتبَرُ به، وبضم بعضه إلى بعض يصير حجة. وأما ثبوت شيءٍ بمجرد هذا النقل عن ابن عباس، فهذا لا يكون عند أهل المعرفة بالمنقولات». ولذلك قال النووي في باب الصيد في "المجموع" عن تفسير الوالبي: «وقد ضَعَّفَهُ أيضاً الأكثرون». وفي "آثار المعلمي" (17|659): «صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها».

 وقد روي من هذا الطريق العديد من الآثار المنكرة عن ابن عباس. مثل القول بأن الحروف المقطعة في القرآن هي من أسماء الله عز وجل، وتأويل قوله تعالى يوم يكشف عن ساق، والقول بموت عيسى -عليه السلام-، والقول بعدم إبداء المرأة شعرها لأحد ولا حتى لمحارمها إلا لزوجها، والقول بالإشهاد عند الطلاق، وغير ذلك الكثير. ويروى أيضاً من هذا الطريق عن ابن عباس ما يخالف الثابت عنه من طرق أخرى صحيحة، مثل تفسير قوله تعالى {إلا اللمم}، وغير ذلك أيضاً. ويروى أيضاً من هذا الطريق ما يخالف الثابت عن مجاهد وسعيد بن جبير (وهذا يرد على من زعم أنهما الواسطة).

 قال الشيخ الطريفي في كتابه "التحجيل": «وقد نظرت في حديثه، فرأيت له ما يُنْكَر، وما يتفرد بمعناه عن سائر أصحاب ابن عباس، منها ما أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (81) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (2|201) من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ...} [النور: 35] يقول: "الله سبحانه وتعالى هادي أهل السماوات والأرض، {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءاً على ضوءٍ". وهذا خبر منكر. ومنها ما أخرجه الطبري في مواضع من "تفسيره": (8|115) (19|58، 131) (22|48) (23|117) (26|147) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (94) بهذا الإسناد مرفوعاً في قوله تعالى: {المص} {كهيعص} {طه} {يس} {ص} {طس} {حم} {ق} {ن} ونحو ذلك قال: "قَسَمٌ أقسمه الله تعالى، وهو من أسماء الله عزّ وجلّ". وهذا خبر منكر بمرة. ويُروي هذا الطريق من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف...». اهـ.

 ومن المنكرات الموضوعة التي رواها الوالبي هذا، ما أخرجه ابن جرير في تفسيره (6|257): حدثني المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: «من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق». وهذا كذبٌ على ابن عباس، مخالفٌ لإجماع الصحابة. بل ومخالف أيضاً لابن عباس نفسه! إذ أخرج عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سُئِلَ ابن عباس عن قوله {ومن لم يحكم...}، قال: «هي به كفر»! وهذا إسنادٌ غاية في الصحة كما ترى.

 ومن المنكرات أيضاً: ما أخرجه الطبري (#21861): حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة». وكأن الله خلق المرأة لتكون عوراء! وهو مخالف لما روي عن عكرمة أيضاً الذي يزعمون أنه الواسطة. فقد قال عكرمة: «تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها». وقول عكرمة هو الموافق لما رواه العوفي عن ابن عباس، قوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.... إلى قوله: {وكان الله غفورا رحيما} قال: «كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشد على جبينها». ثم هو مخالف لما رواه الوالبي نفسه عن ابن عباس! (#19655): حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال: «الزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم».

 ومن الطوام التي تضمنتها تلك الصحيفة (#19669): حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}... إلى قوله: {عورات النساء} قال: «الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها وسوارها. فأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها». ومعناها أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي شعر رأسها أمام أولادها، وهذه طامة.

 وقد احتج بعضهم على صحة هذا الطريق باعتماد البخاري عليه في التعليق عن ابن عباس في قسم التفسير من صحيحه. وبرواية ابن جرير وابن أبي حاتم من هذا الطريق في تفسيريهما. أما البخاري فقد علق له ما شهدت به لغة العرب من المعاني، وهذا لا يشترط فيه الصدق، بل تجد المفسرين يكثرون النقل عن مقاتل وعن السدي وأمثالهما، كما أوضحنا في آخر المقال عن فائدة التفسير الموضوع. وأما عن الطبري وابن أبي حاتم، فقد أجاب عن ذلك الألباني في تعليقه على "التنكيل"، فقال: «ليس من السهل إثبات أن الإمامين المذكورين اعتمدا هذه الرواية في كل متونها، الله إلا إن كان المقصود بالاعتماد المذكور إنما هو إخراجهما لها، و عدم الطعن فيها، و حينئذ، فلا حجة، لثبوت إخراجهما لكثير من الروايات بالأسانيد الضعيفة، و قد ذكرت بعض الأمثلة على ذلك من رواية ابن أبي حاتم في بعض تأليفي، منها قصة نظر داود -عليه السلام- إلى المرأة و افتتانه بها و قصة هاروت وماروت». وتباكى بعضهم فقال: هل يعقل أن نضعف هذا الطريق وقد روي منه الكثير من الآثار (1500 مرة عند الطبري)؟ فكيف نقول عن هذا كله ضعيف هكذا بكل بساطة؟ فيقال: قد روي عن ابن عباس من طريق العوفيين العدد الكبير من الآثار في كتب التفسير، جاوزت الألف وخمسئة عند ابن جرير الطبري. ومع ذلك فهذا الطريق مجمع على ضعفه.

 

 2- طريق قيس بن مسلم الجدلي الكوفي (ثقة ثبت) (ت120هـ) عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي (ثقة، اختلط. ت136هـ) عن سعيد بن جبير (ت95هـ) ومجاهد (ت101هـ) وعكرمة (ت104هـ) عن ابن عباس. وهذا صحيح لأن الراجح أن سماع قيس بن عطاء قديم قبل اختلاطه. أما ما رواه عنه محمد بن فضيل؛ وعمران بن عُيينة، وشريك، فهو بعد الاختلاط.

 

 3- طريق ابن إسحاق (صاحب السير، حسن الحديث مدلّس) عن محمد بن أبي محمد (مدني مولى آل زيد بن ثابت، وهو مجهول كما ذكر ابن حجر والذهبي) عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس.

 

 4- طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السُدِّي الكبير (شيعي متهم بالكذب) عن أبي مالك (غزوان الغفاري الكوفي، ثقة) أو أبي صالح (باذان مولى أم هانئ، متروك اتهموه بالكذب، واعترف بذلك، ولم يسمع من ابن عباس) عن ابن عباس. وما رواه عنه أسباط فهو ضعيف، كما سيأتي.

 

 5- طريق عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن ابن عباس. وهو ثقة مدلس عن الضعفاء. ولم يسمع من مجاهد ولا من ابن عباس. لكنه يروي عن عطاء. فإن كان يقصد عطاء بن أبي رباح، فالتفسير صحيح متصل الإسناد. وإن قصد عطاء بن أبي مسلم الخرساني (كما في تفسير البقرة وآل عمران وغيرها) يكون منقطعاً بين عطاء (وفيه لين أصلاً) وابن عباس، عدا أن رواية ابن جريج عن عطاء هي صحيفة عن ابن عطاء (متروك).

 

6- طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي (حسن الحديث) مرسلاً عن ابن عباس. لم يلق أحدا من الصحابة، ولا تعرف الواسطة بينه وبين ابن عباس. إذ روى شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس؟ قال: لا. قلت: فهذا الذى تحدثه عن من أخذته؟ قال: عن ذا، و عن ذا (أي عن عدة أشخاص). وكانت له آراء عجيبة، حتى أنه قال: لو دخلت على أمى لقلت لها: أيتها العجوز غط عني شعرك!!

وعنه جويبر بن سعيد (ضعيف جداً)، وهو أكثر من روى عنه على ضعفه الشديد حتى قال ابن حبان: يروي عن الضحاك أشياء مقلوبة. و روى عنه كذلك أبو روق عطية بن الحارث (صدوق)، و علي بن الحكم البناني (ثقة)، و بشر بن عمارة (ضعيف)، و عبيد الله بن سليمان الباهلي (صدوق على الراجح، واعتمده البغوي وأكثر منه الطبري).

 

 7- طريق عطية العوفي عن ابن عباس. وعطية بن سعيد بن جنادة الكوفي هذا: شيعي ضعيف مدلس، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. وأشهر إسناد لهذا الطريق هو طريق محمد بن سعد العوفي (لين الحديث)، قال: ثني أبي (سعد بن محمد بن الحسن، جهمي ضعيف)، قال: ثني عمي (هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، ضعيف)، قال: ثني أبي (متفق على ضعفه)، عن أبيه (شيعي ضعيف مدلّس)، عن ابن عباس. قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار": «هو إسناد ضعيف». وقد أكثر الطبري كثيراً من هذا الطريق حتى بلغ 1560 موضعاً. وهو مُسَلسَلٌ بالضعفاء. وقيل (والله أعلم) أن هذا الطريق فيه نحو ربع ما يُروى عن ابن عباس في باب التفسير (والربع الثاني هو صحيفة الوالبي).

 

 8- طريق مقاتل بن سليمان الأزدي الخرساني، وهو كذاب رديء المذهب. يروي عن مجاهد والضحاك وغيرهما.

 

 9- طريق محمد بن السائب الكلبي وهو شيعي كافر، قد اعترف بأنه يكذب، وبأنه من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي. ويروي السدي الصغير (كذاب) عنه، عن أبي صالح (كذاب)، وهي سلسلة الكذب. قال عبد الصمد بن الفضل: «سُئِلَ أحمد عن تفسير الكلبي، فقال: "كَذِب". فقيل له: أفيحل النظر فيه؟ قال: "لا"». وَسُئِلَ يحيى بن معين عنه فقال: «حقُّه أن يُدفن». وقد نقل الدارمي في "نقضه على المريسي" (2|644) إجماع أهل العلم على ترك هذا الإسناد.

 

 10- طريق شبل بن عباد المكي (ثقة قدري) عن عبد الله بن أبي نجيح (ثقة مدلس، قدري معتزلي داعية) عن مجاهد عن ابن عباس. قال يحيى القطان: «لم يسمع التفسير كله من مجاهد، بل كله عن القاسم بن أبي بزة (ثقة)». ويأتي تفصيل هذا الطريق عند ذكر تفسير مجاهد.

 

 11- طريق عطاء بن دينار (ثقة) عن صحيفة كتبها سعيد بن جبير. وعنه ابن لهيعة (ضعيف) وابن جريج (مدلس). وما رواه عن ابن عباس بلا واسطة لا يصح. ولم يسمع عطاء من سعيد بن جبير شيئا، بل هي صحيفة وجدها في ديوان عبد الملك فرواها. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|331) عن صحف تلك الأيام: «وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر، لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط».

 

 12- طريق موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني (كذاب) عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وهو تفسير موضوع.

 

13- طريق عثمان بن عطاء (متروك) عن أبيه عطاء الخرساني (جيد) مرسلاً عن ابن عباس.

 

14- طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني (متروك) عن أبيه (ثقة) عن عكرمة (ثقة) عن ابن عباس.

 

15- طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي (كذاب يضع الحديث).

 

16- طريق أبي معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو صحيح.

 

17- طريق عطاء بن أبي رباح في سورة البقرة وآل عمران. وعنه ابن جريج (وقد سبق) وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار (ثقة ثبت). وقد اختلط هذا الطريق بطريق ابن جريج عن كتاب عثمان بن عطاء الخراساني (متروك) عن أبيه (صدوق) عن ابن عباس، وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس، فهو طريق ضعيف. وغالب رواية ابن جريج هي عن الخراساني ولا يذكر نسبته (أي يقول: "قال عطاء").

 

18- طريق ابن سيرين، ولم يسمع منه لكنه سمع من عكرمة ولم يسميه. قال خالد الحذاء: كل ما قال محمد بن سيرين: نُبِّئتُ عن ابن عباس، فإنما أخذَه عن عكرمة، لَقِيَه أيام المختار. وقال شعبة: إنما سمعها من عكرمة.

 

تلاميذه: مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاووس.

 

ومن الملاحظ أن عامة ما يُروى عن ابن عباس في التفسير ضعيف، كما ترى. وما صح عنه غالبه عن تلامذته المشهورين. قال الإمام ابن تيمية في تفسير آيات أشكلت (1|460): «وما أكثر ما يُحَرّفُ قول ابن عباس و يُغلط عليه!». روى البيهقي بإسناده في "مناقب الشافعي" في باب "ما يستدل به على معرفته بصحة الحديث" عن الشافعي قال: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمئة حديث». رواه عن الشافعي تلميذه المصري عبد الحكم، وهو ثقة مجمع عليه. والبيهقي من أعرف الناس بكلام إمامه الشافعي، ومن أقدرهم على تتبع كلامه. وكذلك أخرج الأثر أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاكر القطان (ت407هـ) في "فضائل الإمام الشافعي".

 وقد أشار الدكتور الذهبي في "التفسير والمفسرون" (1|56) إلى سببِ كثرةِ الوضعِ على ابنِ عباس t في التفسيرِ بقوله: «ويبدو أن السر في كثرة الوضع على ابن عباس هو: أنه كان في بيت النبوة، والوضع عليه يُكسب الموضوع ثقةً وقوةً أكثر مما وُضِعَ على غيره. أضف إلى ذلك أن ابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، وكان من الناس من يتزلف إليهم ويتقرب منهم بما يرويه لهم عن جدهم».

 

**تفسير قتادة**

 الأقوال فيه:

قتادة بن دعامة، تابعي بصري ثقة من أفصح الناس، وتفسيره اللغوي معتمد. إلا أن قتادة من الموصوفين بالكلام في القدر، وهي بدعة مأخوذة عليه. قال أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" (1|488): «حدثنا إسماعيل بن علية، قال: كان أصحابنا يَكرَهون تفسير قتادة». وكان مالك يعيب على من يروي تفسير قتادة. قال اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (4|637 #1145): أخبرنا عبد الرحمن بن عمر إجازة أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب قال حدثني يعقوب بن شيبة قال ثنا أحمد بن شبوية المروزي قال ثنا عبد الرزاق قال: قال مالكٌ: «أيّ رجلٍ معمرٌ لولا أنَّه يرى (لعل صوابه: يروي) تفسير قتادة».

ويعاب عليه أنه حاطب ليل. قال معتمر بن سليمان، عن أبي عمرو بن العلاء: «كان قتادة، و عمرو بن شعيب لا يغث عليهما شيء: يأخذان عن كل أحد». و قال جرير عن عبد الحميد، عن مغيرة عن الشعبي: قيل له: هل رأيت قتادة؟ قال: «نعم، رأيته كحاطب ليل». و قال سفيان بن عيينة: قال الشعبي لقتادة: «حاطب ليل». قال سفيان: قال لي عبد الكريم الجزري: تدري ما حاطب ليل؟ قلت: لا إلا أن تخبرني. قال: «هو الرجل يخرج في الليل، فيحتطب، فتقع يده على أفعى فتقتله. هذا مَثَلٌ ضُرِبَ لطالب العلم. إنّ طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه، قتله عِلْمه كما قتلت الأفعى حاطب ليل».

وقتادة لم يرو عن أحد من الصحابة سماعاً إلا عن أنس، كما قاله أحمد، وصحَّحَ أبو زرعة سماعه من ابن سَرْجَس، وصحَّحَ ابن المديني سَماعه من أبي الطفيل. وقد أخذ عن الحسن البصري التفسير والفقه والوعظ وغيره، وهو من أكبر شيوخه، وقد أكثر في تفسيره من الوعظ كالحسن، وأكثرُ تفسيره لا يعزوه لأحد، بل يفسِّرُ القرآن بما يعلمه. وله معرفة بالناسخ والمنسوخ أكثر من كثير من التابعين من أهل طبقته.

 

طرق تفسيره (مرتبة حسب قوتها):

1- طريق يزيد بن زريع (ثقة ثبت) عن سعيد بن أبي عروبة (ثقة ثبت) عنه. وسعيد اختلط، لكن يزيد سماعه منه قديم. هذا الطريق ذكره الطبري عن بشر بن معاذ (صدوق) أكثر من 3000 مرة. وذكره ابن أبي حاتم عن محمد بن يحيى (ثقة) عن العباس بن الوليد (ثقة).

2- طريق آدم بن أبي إياس (ثقة عابد مفسّر) و غيره عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي (ثقة) عنه. ذكره ابن أبي حاتم عن موسى بن هارون الطوسي (ثقة) عن الحسين بن محمد المروزي (ثقة) عن شيبان.

3- طريق عبد الرزاق عن معمر بن راشد عنه. وهذا جيد لا بأس به، وإن كان معمر يخطئ قليلاً عن العراقيين.

4- طريق سعيد بن بشير، ضعيف عن قتادة.

 

**تفسير مجاهد**

 الأقوال فيه:

مجاهد بن جبر أبو الحجاج، تابعي ثقة. أكثر جداً من الأخذ من ابن عباس t، حتى روى الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهداً يقول: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة»، وهذا في التلاوة لا في التفسير. قال شيخ الإسلام: «ومن التابعين من تَلَقّى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: "عرضتُ المصحَفَ على ابن عباس: أوقِفُهُ عند كلّ آيةٍ منهُ وأسألهُ عنها". ولهذا قال الثوري: "إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبُكَ به". ولهذا يعتمدُ على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم. وكذلك الإمام أحمد، وغيره ممن صَنّفَ في التفسير يُكَرّرُ الطرقَ عن مجاهد أكثر من غيره». لكن مع سماعه للتفسير من ابن عباس، فهو أقل أصحابه روايةً عنه، وما ينسبه إلى ابن عباس هو بحدود 3% من مجموع مروياته في التفسير.

وقد توسع مجاهد بعض الشيء في التفسير برأيه. فمن ذلك إنكاره مسخ أصحاب السبت قردة، كما هو قول الجمهور وظاهر القرآن. وقد رد عليه ابن جرير بالأدلة الواضحة القوية. ومن ذلك أيضاً أنه فسر قوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} بقوله: «تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء». وهذا صار متكئاً قوياً للمعتزلة ضد أهل السنة. لكن هذا كان قليلاً منه. ثم إنه كذلك أخذ من أهل الكتاب. قال أبو بكر بن عياش: قلت للأعمش: «ما بال تفسير مجاهد مُخالَف؟» (وفي رواية: ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟). قال: «أخذها من أهل الكتاب» (وفي رواية: إنه يسأل أهل الكتاب).

 

 طرق تفسيره:

- يروي عنه ابن أبي نجيح، ولم يسمعه، وهو أكثر من روى عن مجاهد على الإطلاق، وسيأتي تفصيله.

- ويروي عنه خصيف بن عبد الرحمن، وهذا قليل، و قد سمعه لكنه ضعيف ليس بحجة.

- ويروي عنه ابن جريج (ثقة مدلّس). وضعف ابن معين روايته عن مجاهد، بينما ذكر ابن حبان أن الواسطة هي كتاب القاسم بن أبي بزة (ثقة)، وهذا مجرد تقدير شخصي.

- ويروي عنه ليث بن أبي سليم، وقد سمعه لكنه ضعيف وقد اختلط. وغالب مادته في كتاب القاسم. ولذلك قال يحيى بن سعيد: يكتب التفسير عنه.

- ويروي عنه ابن عيينة (ثقة)، وهذا نادر. وقيل أنه أخذه من كتاب القاسم.

- ويروي عنه يزيد بن أبي زياد (شيعي ضعيف).

- ويروي عنه عطاء بن السائب، وقد ذكرنا تفصيله في تفسير ابن عباس.

- وغالب من يَروي التفسير عن مجاهد، فإنما أخذه من كتاب القاسم بن أبي بزة (ثقة)، كما ذكر ابن حبان. ويروي ابن أبي نجيح عن كتاب القاسم كما أسلفنا. وفي بعض ما ينقله نظر، إذ أنه مدلّسٌ مبتدِع داعية، لا نعرف إن كان كل ما أخذه هو عن كتاب القاسم أم أنه أخذ عن غيره. يروي عنه:

          * ورقاء بن عمر اليشكري (عن ابن أبي نجيح): ثقة (عن غير منصور) سني فيه إرجاء، لكنه كثير التصحيف. أكثر ابن أبي حاتم من هذا الطريق عن حجاج بن حمزة (صدوق) عن شبابة بن سوار (ثقة).

          * شبل بن عباد (عن ابن أبي النجيح): ثقة قدري.

          * عيسى بن ميمون (عن ابن أبي النجيح): ثقة قدري. وقد أكثر الطبري من هذا الطريق إذ رواه حوالي 700 مرة عن محمد بن عمرو الباهلي (أبو بكر البصري، ثقة) عن أبي عاصم النبيل (ثقة ثبت).

          * مسلم بن خالد الزنجي (عن ابن أبي النجيح): فقيه ضعيف الحفظ. وقد اعتمد البغوي هذا الطريق.

فهذا طريق غالبه صحيح. ولكن لا تؤخذ العقيدة من هذا الطريق، لأنه يخشى ابن أبا نجيح دلسها عن ضعفاء لينصر بدعته المعتزلية الفاسدة. ولا بأس بأخذ التفسير اللغوي وآراء مجاهد الفقهية، خاصة أنها غالباً ما توافق آراء ابن عباس. قال وكيع: «كان سفيان (الثوري) يصحّح تفسير ابن أبي نجيح. ويعجبه من التفسير ما كان حرفاً حرفاً. ولا يعجبه هؤلاء الذين يفسرون السورة من أولها إلى آخرها». مع التنبيه إلى شيء مهم وهو طالما أن الكل ينقل عن مصدر واحد وهو كتاب القاسم، فلا يمكن أن يتعدد النقل عن مجاهد، وأي اختلاف بالتفسير عنه، يعني سوء نقل الرواة عن كتاب القاسم.

أما التفسير المطبوع باسم "تفسير مجاهد" فلا يصح عنه، فإن في إسناده عبد الرحمان الأسدي وهو غير ثقة.

 

**تفسير عكرمة**

فضله:

عكرمة البربري المدني مولى ابن عباس، تابعي ثقة، ولم يصح ما قيل فيه من طعن، ولم يصح كذلك أنه أباضي أو خارجي أو مبتدع، ولم يوجد في تفسيره خلاف أهل السنة. كان بارعاً في التفسير. ويروى أنه قال ما معناه: «كل ما عَلّمتكم من تفسيرٍ ما بين اللوحين، إنما أخذته من ابن عباس»، لكن هذا ليس على إطلاقه، كما في قصة أصحاب السبت. قال الشعبي: «ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة». وقال قتادة: «عكرمة أعلم الناس بالتفسير». وقد سُئِلَ أبو حاتم الرازي (كما في الجرح والتعديل 7|9) عن عِكرمة وسعيد بن جُبَير: أيُّهما أعلَم بالتفسير؟ فقال: «أصحابُ ابن عباسٍ عَيالٌ على عكرمة». وهو مقدَّم في أسباب النزول.

 

طرق الرواية عنه:

1- الحسين بن واقد (صدوق يخطئ خاصة عن أيوب وأبي المنيب) عن يزيد النحوي (ثقة ثبت) عنه.

2- محمد بن إسحاق (مدلّس) عن محمد بن أبي محمد (مجهول) عن عكرمة. ومحمد هو مجهول العين ما روى عنه غير ابن إسحاق. ويزيد ضعف هذه الرواية أن الطبري رواها من طريق شيخه محمد بن حُميد الرازي وهو متروك.

3- قيس بن مسلم الجدلي الكوفي عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي عن عكرمة. إسنادها صحيح وقد سبق الحديث عنه في أسانيد ابن عباس.

4- هشيم عن حصين عن عكرمة. وهي صحيحة.

5- إبراهيم بن الحكم (متروك) و حفص بن عمر العدني (متروك) كلاهما عن الحكم بن أبان (صالح) عنه.

6- سِماك بن حرب عنه. وسماك صدوق، و روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره. فكان شعبة وسفيان لا يرويان تفسيره إلا عن عكرمة، يعني لا يذكرا فيه عن ابن عباس. وروايتهما عنه قديمة قبل تغيره.

7- أيوب وداود بن أبي هند وعمرو بن دينار وعثمان بن غِياث وابن جريج وداود بن الحصين وغيرهم.

 

**تفسير سعيد بن جُبير**

تابعي ثقة سكن الكوفة. وكان علي بن المديني يقدمه على سائر أصحاب عبد الله بن عباس (وربما قصد الأحكام الفقهية فقط). وهو أكثر الرواة عنه رواية، وأكثرُ التابعين من المكيين عناية بالإسرائيليات. وجل ما جاء عن ابن عباس من الإسرائيليات من طريقه. وقد أكثر من حكاية الغيبيات من أخبار السابقين والقيامة عن عبد الله بن عباس.

طرق الرواية عنه:

1- أبو بشر جعفر بن إياس عنه. وجعفر هو من أثبت الناس في سعيد، لكن تفسيره عن مجاهد صحيفة. وحدَّث عنه بالتفسير شعبة وهُشيم وأبو عَوانة. وأخرج البخاري بعضه.

2- أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عنه. لا بأس بهذه الرواية.

3- محمد بن إسحاق (مدلّس) عن محمد بن أبي محمد (مجهول) عنه. وقد سبق بيان ضعف هذه الرواية.

4- قيس عن عطاء بن السائب عنه، وقد سبق بيان صحة هذه الرواية.

5- عطاء بن دينار، وهي وجادة سبق الحديث عنها.

 

 

**تفسير ابن جريج**

تابعي ثقة. أصله رومي نصراني، وتفسيره الموقوف عليه مردودٌ، لأن فيه من كلام أهل الكتاب الشيء الكثير. وهو من أتباع التابعين، وليس كلامه بحجة عند أحد. وما ينقله عن غيره لا يُقبل منه، إلا ما كان بصيغة التحديث لأنه مدلّس مكثرٌ عن الضعفاء. قال مالك بن أنس: «كان ابن جريج حاطب ليل». وقال الخليلي في الإرشاد (1|398) عن تفسيره: «ابن جريج لم يقصد الصحة، وإنما ذَكر ما رُوي في كل آية من الصحيح والسقيم». ولم يسمع شيئاً من مجاهد ولا من ابن عباس. لكن زعم ابن حبان (خلافاً لابن معين) أنه ينقل عن صحيفة ابن أبي بزة عن مجاهد، وهذا يحتاج لدراسة استقرائية لنتأكد منه.

 

1- طريق بكر بن سهل الدمياطي (ضعيف)، عن عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن محمد الأنصاري (ضعيف)، عن عبد الملك بن جريج، وهذا أطول التفاسير عن ابن جريج.

2- طريق محمد بن ثور (ثقة) عن ابن جريج، نحو ثلاثة أجزاء كبار، وذلك صححوه.

3- طريق الحجاج بن محمد (أبو محمد الأعور المصيصي البغدادي) عن ابن جريج نحو جزء، وذلك صحيح متفق عليه، لو سَلِمَ الإسنادُ إليه. فإن الطبري أخرج نُسخة كبيرة من طريق الحسين بن داود، عن الحجاج. وحسين هذا المعروف بسُنيد، ضعيفٌ جداً كما سيأتي.

4- طريق موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني (كذاب).

وقد روى عنه جماعة من الثقات مثل هشام بن يوسف وابن المبارك وعبد الرزاق وسفيان وغيرهم.

 

**تفسير عبد الرزاق**

أخرجه الحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إبراهيم الدبري، وقد سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه، وكان عمر الدبري 7 سنين، لذلك كثر فيه التصحيف، لكنهم رووا عنه لعلو إسناده. إذ أن الدبري هو آخر من روى عن عبد الرزاق. وكذلك أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق الحسن بن يحيى بن كثير (الحسن بن أبي الربيع)، وهو ضعيف.

 

**تفسير زيد بن أسلم**

مدني تابعي فقيه (ت 136هـ). قال عنه يعقوب بن شيبة: «ثقة من أهل الفقه و العلم. و كان عالماً بتفسير القرآن، له كتاب فيه تفسير القرآن». وقال عنه عبيد الله بن عمر: «لا أعلم به بأساً، إلا أنه يفسر برأيه القرآن و يكثر منه».

 

طرق الرواية عنه:

1– تفسير مالك عن زيد بن أسلم، وهذا صحيح لكنه قليل.

2– تفسير عبد الله بن وهب وأصبغ وغيرهما، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (مجمع على ضعفه)، عن أبيه، وهذا ضعيف. وهو غالباً يروي التفسير دون أن ينسبه إلى أبيه. وإذا قال المفسرون: "قال: ابن زيد"، فهو المقصود.

 

**تفسير السدي**

إسماعيل بن عبد الرحمان السدي الكبير، الكوفي مولى بني هاشم. شيعي شتّام يطعن بأبي بكر وعمر. وهو غير محمد بن مروان السدي الصغير، الرافضي الكذاب.

اختلف عليه علماء الحديث: فمنهم من وثقه، ومنهم من كذبه، والأكثرون على ضعفه. ومثل هذا لا ينبغي أخذ الحديث عنه. ولكن قد نأخذ عنه التفسير اللغوي استئناساً فقط، ولا نجعله حجة في دين الله.

أثنى على تفسيره بعض السلف كإبراهيم النخعي والعجلي، وذمه بعضهم أيضاً. قال صالح بن مسلم: مررت مع الشعبي على السدي وحوله شباب يفسر لهم القرآن، فقام عليه الشعبي فقال: «ويحاً للآخر، لو كنت نشواناً يُضرَبُ على أستك بالطبل خيراً لك مما أنت فيه». قال عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت: سمعت الشعبي، وقيل له إن إسماعيل السدي قد أعطي حظـاً من علم القرآن، فقال: «قد أعطي حظاً من جهلٍ بالقرآن». قلت: تفسيره إجمالاً جيد، إلا أن فيه أمور باطلة أنكرها الشعبي وغيره. و عامر الشعبي من كبار أئمة العراق في عصره، ومن علماء التفسير، وقد أدرك 500 صحابياً، لكنه نادراً ما يحدث بالتفسير تورعاً. قال ابن عطية: «كان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما، يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم، مع إدراكهم وتقدمهم». قال الشعبي: «والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله». ومع ذلك فله تفسيرٌ يسيرٌ حسنٌ، وأجودُ تفسيره: ما يعتمد فيه على أشعار العرب، فقد كان أحفظ التابعين للشعر. قال الطريفي: «وكثرةُ الأثر المروي عن العالم لا تعني تميزه عن المُقِلِّ، وقد يشتهر عالم عند الناس في باب، ولا يشتهر آخر، فيظنُّ أن شهرتَه وكثرةَ قوله تُقدِّمه على غيره. ومن ذلك قول الشعبي لإبراهيم النخعي: "إني أفقه منك حياً، وأنت أفقه مِني ميتاً، وذاك أن لك أصحاباً يلزمونك، فيُحْيُون علمك"». وأنا أذكر هذا كله لأن قوماً ظنوا السدي المبتدع أعلم من إمام العراق الشعبي بسبب كثرة أقواله في التفسير! فسبحان الله، أين الثرى من الثريا؟

وروى العقيلي في الضعفاء (1|87) عن أحمد بن محمد قال: قلت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل): «السدي كيف هو؟». قال: «أخبرك أن حديثه لمقارب وأنه لحسن الحديث. إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به أسباط عنه...» فجعل يستعظمه. قلت: «ذاك إنما يرجع إلى قول السدي؟». فقال: «من أين، وقد جعل له أسانيد؟ ما أدري ما ذاك». وقال الطبري: «لا يحتج بحديثه». قلت ليته إذاً لم يحشو تفسيره بكلام السدي، إذ لعله أخرج له أكثر من أي شخص آخر!

وكان السدي الكبير رافضياً يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويشرب النبيذ ويكذب في الحديث. وإجمالاً فالسدي الكبير أثنى على عدالته القطان والنسائي وابن عدي وأحمد (في رواية). وجرحه أحمد (في رواية) وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والشعبي وابن مهدي والعقيلي والساجي والطبري وشعبة. واتهمه بالكذب الحافظ السعدي وليث بن أبي سليم (وهو من أئمة السنة وإن كان حفظه ضعيفاً) والمعتمد بن سليمان. قال ليث: «كان بالكوفة كذّابـان، فمات أحدهما: السـدّي والكلبي». وقال حسين بن واقد المروزي (قاضي فاضل): «قدمت الكوفة فأتيت السدي فسألته عن تفسير آية من كتاب الله، فحدثني بها. فلم أتم مجلسي، حتى سمعته يشتم أبا بكر وعمر –رضي الله عنهما–، فلم أعد إليه». وقال عنه الجوزجاني: «كذاب شتام». وقال العقيلي: «ضعيف، و كان يتناول الشيخين».

لكن السدي على كذبه وضلاله، كان رجلاً فصيحاً من العرب. وكان تفسيره اللغوي للقرآن موافقاً للغة العرب، فلذلك أثنوا عليه (كما أثنوا على تفسير مقاتل رغم أنه كذاب ضال)، لكنهم عابوا عليه أنه يضع لآرائه أسانيداً. وحكى الساجي عن أحمد قوله فيه: «إنه ليُحسن الحديث، إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسناداً واستكلفه». فثبت أن ما ينسبه لابن عباس وابن مسعود وغيرهم لا يصح، وإن كان معناه إجمالاً صحيح، لموافقته للغة العرب. وقد أشار البيهقي إلى هذا الملحظ فقال في "دلائل النبوة" (1|37): «وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم لأن ما فسروا به ألفاظه، تشهد لهم به لغات العرب. وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط».

هذا وقد فَهِم بعض المحققين مثل ابن تيمية وأحمد شاكر، مقولة الإمام أحمد "هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسناداً واستكلفه"، بأن يخلط الأسانيد بعضها ببعض دون تمييز. فما نقله عن مرة عن ابن مسعود، قد يكون في الحقيقة عن أبي صالح الكذاب عن ابن عباس. قال الإمام ابن تيمية في "تفسير آيات أشكلت" (1|167): «وقد ذَكَر في أول تفسيره أنه أخذه عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود. وعن ناس من أصحاب رسول الله r. لكن هو ينقله بلفظه، ويخلط الروايات بعضها ببعض. وقد يكون فيها المرسل، والمسند، ولا يميز بينها». وهذا يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن تفسير السدي لا يعتبر حجة، لأن في مشايخه من يكذب (هذا عدا عن كذبه هو).

ويرى المعلمي أن الراوي أسباط هو المتهم بوضع هذا الإسناد فيقول: «والذي يقع لي أن هذه كانت نسخة عند السدي، لم يكن فيها إسناد. فأخذها أسباط وسأله عن إسنادها فقال: "عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي". يريد السدي أن في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس... والذي يدل على هذا اتفاق لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع كما في تفسير ابن جرير، ولو كان السدي هو الذي يذكر السند في أول كل أثر لاختلف سياقه حتما كما تقضي به العادة». ثم قال الشيخ: «لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزج هذه النسخة ببقية تفسير السدّي مما يقوله هو أو يرويه مما ليس في النسخة، فعمدَ إلى هذا السند فأثبته في أول كلّ أثر من الآثار التي كانت في النسخة، ومن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروى بهذا السند».
والسُّدي أكثر التابعين بإطلاق حكاية للإسرائيليات، بل فاق الإخباريين عن بني إسرائيل؛ ككعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهم. وهو يفرط من دعاوى النسخ، وعامتها كذب. ويدعي النقل عن ناس من الصحابة مع أنه لم يلق منهم إلا أنس بن مالك. ورواية ابن أبي حاتم عن السدي نادرة جداً (هي من طريق عامر بن الفرات عن أسباط)، وتجنب الحاكم (رغم تساهله) أن يخرج له عن أبي صالح وعن أبي مالك (وهو أكثر تفسيره المُسنَد). وهو يكثر جدا في دعاوى النسخ، لذلك لا يقبل هذا منه.

 

طرق الرواية عنه:

- أكثر ما يروى عن السدي من طريق: عمرو بن حماد بن طلحة القناد (صدوق رافضي) عن أسباط بن نصر الهمداني الكوفي (ضعيف) عن السدي. وهذا طريق ضعيف لا حجة فيه. ومما يُؤسف إليه أن ابن كثير مكثرٌ جداً لما يرويه في تفسيره من هذا الطريق. بل هذه الإسناد قال عنه أحمد شاكر (1|156): «هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دوراناً في تفسير الطبري، إن لم يكن أكثرها. فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد». أقول: وقد مال الطبري نفسه إلى ضعفه فقال في تفسيره (1|156): «وقد ذكرنا الخبر عن ابن مسعود وابن عباس (بهذا الإسناد)... فإن كان ذلك صحيحاً، ولست أعلمه صحيحاً، إذ كنت بإسناده مرتاباً». فعلق أحمد شاكر على هذا بقوله: «وهو (أي الطبري) مع ارتيابه (بإسناد السدي) قد أكثر من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجةً قط».

- طريق أحمد بن المفضل (شيعي ليّن) عن أسباط عن السدي.

يُذكر أن عامة رواية السدي هي عن مُرَّة (ثقة، لكن السدي كذاب) عن ابن مسعود، وعن أبي مالك و أبي صالح (باذان مولى أم هانئ، متروك اتهموه بالكذب، واعترف بذلك، ولم يسمع من ابن عباس) عن ابن عباس. والكذب ثابت عن أبي صالح، وقد قال ابن عدي عنه: «لم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه»، فهذا إجماع على ضعفه. وقد تركه ابن مهدي، ونهى مجاهد (وهو أعلم الناس بابن عباس) عن تفسيره، مما يدلك على سوءه وعدم موافقته لتفسير ابن عباس. والحق أنه لم تكن له معرفة بالتفسير. وكان الشعبي يأخذ بأذنه ويهزها ويقول: «ويحك! تفسر القرآن، وأنت لا تحسن تقرأ؟!». وضعّف تفسيره مغيرة كذلك، وتَعجّب ممن يروي عنه. ورماه بالكذب النسائي والجوزقاني والأزدي. وقال حبيب بن أبي ثابت: «كنا نسمي أبا صالح "دروع زن"، أي: كذاباً يكذب». وهو في كل الأحوال لم يسمع من ابن عباس، كما نص ابن حبان. ونقل سفيان عن الكلبي اعتراف أبي صالح له بأنه كذاب، وسفيان إمام قد صرح بأنه يميز بين صدق الكلبي وكذبه. والحقيقة أن باذان متفق على ضعفه، وما وثقه إلا العجلي المعروف بتساهله.

 

**تفسير مقاتل**

مقاتل بن سليمان (ت:150). رجل كذاب أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ثم دخل بغداد وحدث بها وكان فصيح اللسان مشهوراً بتفسير كتاب الله. أخذ التفسير -كما يدعي- من مجاهد بن جبر والضحاك وابن السائب الكلبي.

 قال ابن المبارك (ت:181) عن تفسير مقاتل: «ما أحسنه من تفسير لو كان فيه "حدثنا"». وقال: «يا له من علم  لو كان له إسناد».  وقال الشافعي: «من أحب التفسير فعليه بمقاتل». وقال كذلك: «من أراد أن يتبحر في تفسير القرآن فهو عيال على مقاتل بن سليمان». وقال مقاتل بن حبان: «ما وجدت علم مقاتل بن سليمان إلا كالبحر». وقال مكي بن إبراهيم عن يحيى بن شبل: قال لي عباد بن كثير: ما يمنعك من مقاتل؟ قلت: إن أهل بلادنا كرهوه. فقال: «لا تكرهه، فما بقي أحد أعلم بكتاب الله تعالى منه». وقال القاسم بن أحمد الصفار: قلت لإبراهيم الحربي: ما بال الناس يطعنون على مقاتل؟ قال: «حسداً منهم له». وكان يقص في الجامع فوقعت العصبية بينه وبين جهم، فوضع كل واحد منهما كتاباً على الآخر ينقض عليه. وقال محمد بن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: «أفرط جهم في النفي حتى قال إنه ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله تعالى مثل خلقه». وقال حماد بن أبي حنيفة: «هو أعلم بالتفسير من  الكلبي». وقال نعيم بن حماد: رأيت عند ابن عيينة كتاباً لمقاتل فقلت: يا أبا محمد تروي لمقاتل في التفسير! قال: «لا، ولكن أستدل به وأستعين». وقال أحمد بن حنبل: «كان له علم بالقرآن». وقال ابن المبارك : «ما أحسن تفسيره لو كان ثقة». وقال محمد الذهبي في "الإسرائيليات" (ص90): «تفسير مقاتل يحوي من الإسرائيليات والخرافات وضلالات المشبهة والمجسمة ما ينكره الشرع ولا يقبله العقل». وقال ابن حبان في "المجروحين" (3|14): «كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان شبهيا يشبه الرب بالمخلوقين. وكان يكذب مع ذلك في الحديث». والأقوال فيه أكثر من أن نحصيها هنا.

وروى تفسير مقاتل هذا عنه أبو عِصْمَة نُوحُ ابن أبي مريم الجامع، وقد نسبوه إلى الكذب. ورواه أيضاً عن مقاتل: هذيلُ بن حبيب أبو صالح الدنداني، وهو ضعيف لكنه أصلح حالاً من أبي عصمة، وهو الذي ينقل النسخة المطبوعة، اعتمد عليه البغوي. وما روى الطبري ولا ابن أبي حاتم لمقاتل.

 تنبيه: مقاتل بن سليمان البلخي هو غير مقاتل بن حيان البلخي. وهذا الثاني هو ثقة صالح، روى عن مجاهد والضحاك وعكرمة وقتادة. روى تفسيره محمد بن مزاحم العامري (صدوق) وأبو خالد يزيد بن صالح الفراء النيسابوري، عن بكير بن معروف أبو معاذ البلخي (فيه لين)، عنه.

 

**تفاسير أخرى**

هناك من المفسّرين من لم نذكرهم، مثل محمد بن كعب القرظي المدني (ثقة، و جَدّه من يهود بني قريظة)، وأكثر تفسيره هو من طريق أبي مَعْشَر، ومن طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب. وكلاهما –موسى وأبو معشر– ضعيف، ونحو شطر تفسير القُرظي من طريقهما. لكن قال ابن معين: "اكتبوا عن أبي مَعشر عن محمد بن كعب خاصة"، لأنها نسخة مكتوبة. وهو من رواة الإسرائيليات. وهناك الحسن البصري من الفصحاء الصالحين ومن كبار التابعين. لكنه متساهل بالنقل، والإرسال. يميل في التفسير إلى الوعظ، وتفسيره يكاد يخلو من الأحكام. وهو يرى الرواية بالمعنى ويكثر منها. وفي تفسيره من الغرائب والمفردات، ما ليس عند غيره. روى عنه قتادة نحو ثلث تفسيره، وروى عنه معمر بن راشد، وروى عنه عطاء الخراساني و مُرَّة بن شراحيل الهمداني (مرة الطيب، ثقة سبق ذكره). وروى عنه عمرو بن عبيد المعتزلي الكذاب.

وهناك من المصنفين من كان همه جمع أقوال المفسرين من قبله مثل ابن جرير الطبري وهو أشهرهم. وهناك قوم قبله مثل تفسير: سُنَيد الحسين بن داود (226هـ) وهو ضعيف جداً، خاصة عن حجاج بن محمد المصيصي. وتفسير سفيان الثوري من طريق أبي حُذيفة النهدي موسى بن مسعود (فيه ضعف). وتفسير سعيد بن منصور، وتفسير عبد بن حُميد (249هـ).

كما أن هناك من كبار أئمة اللغة العربية ألفوا في التفسير قاصدين بيان غريب الألفاظ وبيان عربية القرآن، ويسمى تفسيرهم بالتفسير اللغوي. وأشهرهم: الفرّاء (207هـ) وأبو عُبيدة معمَر بن المثنى (209هـ) والأخفش (210هـ) وابن قُتيبة (276هـ).

ملاحظة: كل ما يرويه الطبري عن شيخه ابن حميد فهو ضعيف، لأن محمد بن حميد بن حيان الرازي كان متروكاً متهماً بالكذب. وروايات الطبري عنه تتجاوز الألفي رواية!

 

قيمة التفسير الموضوع

لعل المرء هنا يتساءل: ما أهمية تفسير مقاتل وتفسير السدي، إن علمنا أنه موضوع؟

قال الأستاذ الذهبي في "التفسير والمفسرون" (1|119): «إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية، بغض النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية. لأنه مهما كثر الوضع في التفسير، فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها. أما التفسير في حد ذاته، فليس دائماً أمراً خيالياً بعيداً عن الآية. وإنما هو -في كثير من الأحيان- نتيجة اجتهاد علمي له قيمته. فمثلاً من يضع في التفسير شيئاً، وينسبه إلى عليّ أو ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأي له، واجتهاد منه في تفسير الآية، بناء على تفكيره الشخصي. وكثيراً ما يكون صحيحاً. غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولاً، فنسبه إلى مَن نُسب إليه من الصحابة. ثم إن هذا التفسير المنسوب إلى عليّ أو ابن عباس، لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية غالباً، وإنما الشيء الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى علي أو ابن عباس. فالموضوع من التفسير -والحق يقال- لم يكن مجرد خيال أو وهم خُلق خلقاً. بل له أساس ما، يهمّ الناظر في التفسير درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن لم يكن له قيمته الإسنادية».

 

لماذا كان المفسرون يوردون الأقوال في التفسير بدون فرز الصحيح عن الضعيف؟

فقد جرت عادت المتقدمين من المحدثين والمفسرين والمؤرخين أن يوردوا كل ما في الباب من الأحاديث والأخبار، ولو كان غير صحيح الإسناد، أو كان إسناده باطلاً يعلمون بطلانه، اتكالاً منهم على ذكر سنده. فإنّ ذكر السند يبرئ الذمّة من المؤاخذة في إيراده، إذ قد كان "عِلم الإسناد" يعيش فيهم على أتم وجه. وما أحسن ما قاله الأستاذ السيد محب الدين الخطيب في كلمة له في "مجلة الأزهر" في المجلد 24 (ص214) عنوانُها: "المراجع الأولى في تاريخنا". وبدأ فيها بالحديث عن كتاب "تاريخ الأمم والملوك" للإمام المحدّث المفسّر المؤرّخ ابن جرير الطبري –رحمه الله تعالى– فقال:«إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبتين -في إيرادهم الأخبار الضعيفة- كمثل رجال النيابة -القضاء- الآن، إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون كل ما تتصل إليه أيديهم من الأدلّة والشواهد المتصلة بها. مع علمهم بتفاهة بعضها أو ضعفه، اعتماداً منه على أن كل شيء سيقدر قدره».

وهكذا الطبريُّ وكبار حملة الأخبار من سلفنا، كانوا لا يفرطون في خبر مهما علموا من ضعف ناقله، خشية أن يفوتهم بإهماله شيءٌ من العلم، ولو من بعض النواحي. إلا أنهم يوردون كل خبر معزوّاً إلى راويه، ليعرف القارئ قوة الخبر من كون رواته ثقات، أو ضعفه من كون رواته لا يُوثق بهم، وبذلك يرون أنهم أدّوا الأمانة. ووضعوا بين أيدي القرّاء كلَّ ما وصلت إليه أيديهم. قال الحافظ ابن حجر: «أكثر المحدثين في الأعصار الماضية –من سنة مئتين وهلمَّ جرَّا– إذا ساقوا الحديث بإسناده، اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته». وقال في ترجمة الطبراني –سليمان بن أحمد– من "لسان الميزان": «إن الحُفَّاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة –مع سكوتهم عنها– على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عُهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده».

ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة: قول شيخ الإسلام ابن تميمة في "مقدمة في أصول التفسير" (ص30): «إن تعدُّد الطرُّق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة: يوجب العلم بمضمون المنقول –أي بالقدر المشترك في أصل الخبر– لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين -أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصَّب لها بعضهم-. وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول و السيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو مثل ذلك. ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار مالا يصلح لغيره، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره».

قال الكوثري في كتابه: "المقالات" (ص312 و461): «وأما المحدّثون والمفسّرون الذين ذكروه-أي الحديث الموضوع- وسكتوا عليه، فلا يدلُّ صنيعهم هذا على صحَّته عندهم أصلاً. لأن السلف كانوا يعتقدون براءة ذمتهم من عهدة الخبر الباطل إذا ذكروه بسنده، لما في السند من بيان البطلان، كما تجد تفصيل ذلك في شرح السخاوي على "ألفية المصطلح" (ص106). ومن يزعم ذلك، فقد جهل ما هنالك وقول تقويل كلِّ آفك!». وقد وجَّه الكوثري صنيع المفسّرين هذا توجيهاً حسناً فقال في كتابه "المقالات": ترى كثيراً من المفسرين دوَّنوا ما يظنون به أنَّ له نفعاً، لتبين بعض النواحي في أنباء القرآن الحكيم من معارف عصرهم المتوارثة من اليهود وغيرهم، تاركين أمر غَرْبلَتها لمن بعدهم من النُقَّاد، حرصاً على إيصال تلك المعارف إلى من بعدهم، لاحتمال أن يكون فيها بعض فائدة في إيضاح بعض ما أجمِل من الأنباء في الكتاب الكريم، لا لتكون تلك الروايات حقائق في نظر المسلمين، يُراد اعتقاد صحتها والأخذ بها على علاتها بدون تمحيص. وقد اعتذر سليمان بن عبد القوي الطوفي في أوائل كتابه "الإكسير في أصول التفسير" عن المفسرين في تدوينهم كلَّ ما بلغهم من الإسرائيليات والأخبار الواهية، بأنهم لم يُلزموا مَنْ بعدهم قبولها، وإنما دوَّنوها خشية ضياع شيء يستطيعون جمعه، تاركين أمر نقدها وتمحيصها إلى من بعدهم. وضرب لذلك مثلاً بصنيع رواة الحديث حيث عُنُوا بادئ ذي بدء الروايات كلها، تاركين أمر التمييز بين صحاحها وضعافها لمن بعدهم من النقاد. وهذا اعتذارٌ وجيه. قال تلميذه السخاوي في "شرح ألفية المصطلح" عند الكلام في الحديث الموضوع (ص106):«لا يبرأ من العُهْدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده بذلك، لعدم الأمن من المحذور به، وإنْ صَنَعه أكثر المحدّثين في الأعصار الماضية، من سنة مئتين وهلمَّ جرْاً، فإنهم إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عُهدته. قال شيخنا: وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان». انتهى كلامُ الكوثري.