منهج ابن حزم الأندلسي الظاهري

علم الحديث

قال ابن حجر عن ابن حزم الأندلسي في لسان الميزان (4|198): «كان واسع الحفظ جداً. إلا أنه لثقته بحافظته كان يَهجُمُ على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة». وقال أبو الحسن ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5|637): «محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي، وترمذ بخراسان. جهله بعض من لم يبحث عنه –وهو أبو محمد ابن حزم– فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال" –إثْرَ حديثٍ أورده–: "إنه مجهول"». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11|77) عن الإمام الترمذي: «فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ». ويظهر أن هذا من تسرع ابن حزم. فابن حزم معروفٌ عنه التسرع في إطلاق الأحكام.

 

قال ابن حجر في ترجمة الإمام الترمذي (صاحب "السنن") في تهذيب التهذيب (9|344): «قال الخليلي (عن الإمام الترمذي): "ثقةٌ متفقٌ عليه". وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع، فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال": محمد بن عيسى بن سَوْرة مجهول! ولا يقولنّ قائلٌ: "لعله ما عرَفَ الترمذيّ ولا اطلع على حفظه وتصانيفه". فإنّ هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خَلْقٍ من المشهورين من الثقات الحُفّاظ كأبي القاسم البغوي (إمام ثبتٌ محدّث العراق في عصره، ت317هـ، جهله ابن حزم في "حجة الوداع" ص328)، وإسماعيل بن محمد بن الصفّار (314هـ)، وأبي العباس الأصمّ (محمد بن يعقوب، أخذ عنه أهل المشرق والمغرب ت346هـ)، وغيرهم. والعَجَبُ أن الحافظ ابن الفَرَضي (وهو قرطبيٌّ من بلد ابن حزم توفي قبله عام 403هـ) ذكرَهُ (أي للإمام الترمذي) في كتابه "المؤتلِف والمختلِف"، ونبَّه على قدْرِه. فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه؟!». وابن حزم قد اطلع على الكتاب الأخير كما في رسالته في "فضل الأندلس".

 

وقيل عن ابن حزم أنه لم يطلع لا على سنن الترمذي ولا على العلل الكبير له، ولا حتى على سنن ابن ماجة. مع أن جامع الترمذي من مرويات ابن عبد البر الأندلسي (وهو قرين ابن حزم ورفيقه)، وكثيراً ما ينقل عن الترمذي في مصنفاته كالتمهيد والاستذكار، وهي الكتب التي اطلع عليها ابن حزم ونقل عنها. بل كيف لم يعرف ابن حزم من هو الأصم (راوي كتب الشافعي)، وهو في الأصل كان شافعياً قبل أن يصبح ظاهرياً؟ ومن الواضح أن ابن حزم لم يطلع أصلاً على سنن الترمذي بدليل أنه ذكر في كتابه المحلى (9|295) حديثاً من طريق أبي عيسى الترمذي، وضعفه برجلين بينه وبين أبي عيسى. وهذا الحديث مخرّجٌ في جامع الترمذي. فلو كان الكتاب عند ابن حزم، لما احتاج إلى رواية الحديث بمثل هذا الإسناد، ولا ضعفه بمن هو دون الترمذي. وليس في المحلى ذكرٌ للترمذي إلا هذا. مما يقوي أنه سمع بالترمذي وسننه، لكنه لم يبذل جهداً بأن يطلع عليها.

 

وعلى الرغم من تفوقه في علم الحديث على الفقهاء المتأخرين، فكان مثلهم في المنهج، لا يعبئ شيئاً بعلل الحديث الذي عرفه الجهابذة من المتقدمين. بل يُنكر علم علل الحديث من أصله، مع أنه من أهم علوم الإسلام. قال ابن القيّم في "الفروسية" (ص246): «قالوا: وأما تصحيح أبي محمد بن حزم له، فما أجدره بظاهريته وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث، بتصحيح مثل هذا الحديث وما هو دونه في الشذوذ والنكارة. فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لنقلتها، نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه. والرجل يصحّح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه. وهذا بَيّنٌ في كتبه لمن تأمله».

 

علم الفقه

قال مؤرّخ الأندلس أبو مروان بن حَيّان: «كان ابن حزم حاملَ فنون... وكان لا يخلو في فنونه من غلطٍ، لجرأته في الصِّيال على كل فن. ولم يكن سالماً من اضطرابٍ في رأيه». ومن أمثلة هذا الاضطراب ما قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (33|46): «وكذلك إذا وقّت الطلاق بوقت، كقوله "أنت طالق عند رأس الشهر". وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعَلّق. ولم يُعلم فيه خلافاً قديماً. لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق! وهو قول الإمامية (أي الرافضة). مع أن ابن حزم ذكر في كتاب "الإجماع": إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق».

 

قال إمام الأندلس ابن عبد البر في الاستذكار (1|302) عن صاحبه ابن حزم: «وقد شذّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمد في ترك الصلاة في وقتها، أن يأتي بها في غير وقتها». ويبيّن أنه يقصد واحداً بعينه (ص307): «والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله و أصل أصحابه». وبين ابن عبد البر أن هذا ليس مذهب الظاهرية، وذكر استدلالات ابن حزم بعينها. وقال بعد كل ذلك (ص309): «فما أرى هذا الظاهري، إلا قد خرج عن جماعةِ العلماءِ من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء وشذّ عنهم. ولا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذِّ من العِلم». قلت: صدق رحمه الله، فإن من تتبع زلات العلماء تزندق، فكيف بمن جمع موسوعة من الأقوال الشاذة التي لم يُسبق بها؟

 

قال الحافظ السلفي ابن كثير (تلميذ شيخ الإسلام) في "البداية والنهاية" (12|13): «كان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقَلَمه، فأوْرثه ذلك حِقداً في قلوب أهل زمانه. ومازالوا به حتى بَغّضَوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده. والعجب –كل العجب– منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره. وهذا الذي وَضَعَهُ عند العلماء، وأدْخَلَ عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرّفه. وكان –مع هذا– من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قدْ تضلّع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني. ففسُد بذلك حاله في باب الصفات».

 

وقال ابن كثير أيضاً (14|332): «ورأيتُ في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لِمَ لا أدْخلتَ في "شرحك المهذب" شيئاً من مصنفات ابن حزم؟ فقال ما معناه: أنه لا يحبه. فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفيْ النقيضين في أصوله وفروعه. أما هو في الفروع فظاهريّ جامد يابس. وفي الأصول قول مائع قرمطة القرامطة وهَرَس الهرائسة. ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم. ثم أشَرْتُ له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أرْدأ شكلاً منه، لا يُنتفع بها في اسْتغلالٍ ولا رعي. فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها. قال: إنظر، هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئاً يُنتفع به؟ فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر. فهذا حاصل ما رأيته. ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرْت للشيخ محيي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكتٌ لا يتكلم».

 

قال ابن حجر الهيتمي في "فصل الخطاب" (ص196): «ابن حزم حمله تعصّبه لمذهبه الفاسد الباطل في إباحة الأوتار وغيرها، إلى أن حكم على هذا الحديث (يعني حديث البخاري: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف) وكل ما وَرَدَ في الملاهي بالوضع. وقدْ كذَب في ذلك وافترى على الله وعلى نبيه وشريعته. كيف وقدْ صَرّح الأئمة الحفاظ بتصحيح كثير من الأحاديث الواردة في ذلك. ولقد قال بعض الأئمة الحفاظ أن ابن حزم إنما صَرَّح بذلك تقريراً لمذهبه الفاسد في إباحة الملاهي. وإن تعصّبه لمذهبه الباطل أوْقعه في المجازفة والاشتهار، حتى حَكَمَ على الأحاديث الصحيحة من غير شك ولا مَريّة بأنها موضوعة. وقد كذب وافترى. ومن ثُمّ قال الأئمة –في الحطّ عليه– أن له مجازفات كثيرة وأمور شنيعة نشأتْ من غلظه وجموده على تلك الظواهر. ومن ثم قال المحققون: أنه لا يُقام له وزن ولا يُنظر لكلامه ولا يُعوّل على خلافه. فإنه ليس مُراعياً للأدلة، بل لما رآه هواه وغلب عليه من عدم تَحَرِّيه وتقواه». كذا قال، وابن حزم أعلم من ابن حجر وخيرٌ منه بمرات، لكن ابن حجر ينقل عن غيره.

 

وقال كذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي: «وفي زماننا يتعيّن كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم. فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة. وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم (يقصد ابن حزم)، وهو أشد مخالفة لها، لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله».

 

وقد بلغ الجمود الفكري والظاهرية الشديدة وتحريم القياس عند ابن حزم إلى أنه أنكر الواضحات، وصار يأخذ بالأقوال الشاذة والغريبة المخالفة للإجماع. كقول ابن حزم: أن بول الإنسان في الماء الراكد ينجسه، إلا في بول الإنسان، فلا يقاس عليه بول الحيوان ولو خنزيراً! وكذهابه إلى أن سؤر الكلب لا يكون التطهير للإناء الذي فيه إلا بعد غسله سبعًا إحداهن بالتراب الطاهر، لأن النص قد ورد بذلك، بينما يقرر أن سؤر الخنزير طاهر يصح شربه والوضوء منه لعدم ورود نص فيه (المحلى 1|132). وله تقريرات عجيبة لا يحتملها الناس. فذكر أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها، وبالتالي أوجب على الزوج جلب الطعام مطبوخاً، وأن يأتي بمرضعة لأطفالها! ومن ذلك ما ذكره في (المحلى (3|196) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر، سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم. فإن عجز عن الضجعة، أشار إلى ذلك حسب طاقت . ولم يجز له أن يصلي الصبح، إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن. ولا شك أن عدم الأخذ بالقياس يؤدي إلى الحرج في كثير من الأحكام، فإنه من المعقول أنه إذا تشابهت مسألتان واتحدتا في علة واحدة أن تأخذ الثانية حكم الأولى، ما دامت العلة واضحة، وإلا كان ذلك منافيًا للعقل ومجافياً للصواب.

 

والذي لا شك فيه عند كل ذي عقل له معرفة بشيء من اللغة العربية، أنه أول ما يقرأ قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يفهم من أن النهي عن قول "أف" للوالدين، يستلزم كذلك النهي عن الأعظم من ذلك كالضرب واللعن والقتل. أما ابن حزم فيقول أن هذا النهي «ليس نهياً عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول "أف" فقط»! قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1|327) وفي مجموع الفتاوى (21|207): «ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر، كالذين يقولون إن قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الإسراء:من الآية23) لا يفيد النهي عن الضرب!! وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم. وهذا في غاية الضعف. بل وكذلك قياس الأَولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عُرِفَ أنه أولى بالحُكم من المنطوق بهذا. فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف. فما زل السلف يحتجون بمثل هذا».

 

علم أصول الفقه
أما في الأصول فقد نحى ابن حزم منهجاً متأثراً بالفلاسفة، لكنه أيضاً كثير الشذوذ عن السلف. ومما يتضح جلياً في مذهب ابن حزم الاستدلالي، أخذه بمذهب الاستصحاب، وخاصة استصحاب البراءة الأصلية: فهو يكثر منه جداً، وهو عمدته في الاستدلال غالباً. ولم أرى له موضعاً قَبِلَ فيه قول المخالف، ولو مجرد قبول. بل إنه يعمد إلى هدمه جميعاً! وكثير من احتجاجات ابن حزم التي قد يراها المرء قوية، لا تخرج عن الحجج الخطابية.

 

والسمة الظاهرة على منهج ابن حزم في الترجيح والاستدلال، أنه يميل إلى الأخذ بالنسخ أكثر منه إلى الجمع بين النصوص، وإن كان في كثير من الأحيان يوافق الصواب في الحكم بالنسخ. وهو في هذا على خلاف طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن السمة الغالبة على منهج شيخ الإسلام أنه يميل إلى الجمع أكثر منه إلى القول بالنسخ.هذا والشافعية والحنابلة بشكل عام يميلون إلى الجمع بين النصوص، بينما الأحناف يميلون أكثر للنسخ. لكن الجمع بين الأحاديث زاد كثيراً عند المتأخرين بسبب تحسينهم للأحاديث الضعيفة المعارضة للأحاديث الصحيحة. وتجد ذلك بشكل واضح في شرح المناوي. بل قد تجده عند الأحناف كذلك في الفتح للهمام وغيره، ولو أنهم أكثر قولاً بالنسخ. هذا وأحسن طريقة للتخلص من تعارض الأحاديث هو الاعتماد على الصحيح فقط.

 

الإيمان والعقيدة

وابن حزم ما عَذَرَ أئمة الإسلام والسنة في تركهم بعض الظواهر لدليل، كما هو شأن الصحابة و شأن من تكلم العربية، مع كون ما تركوه في مسائل متفرقة. أما هو: فيحق له صرف جميع الصفات –إلا قليلاً– عن ظاهرها، بأدلة ضعيفة متناقضة. والويل لمن أخذها على ظاهرها!

 

وقد سرد شيخ الإسلام أقوالاً لابن حزم في إنكاره لصفات الله سبحانه وتعالى، ثم قال في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص107): «فهذا ونحوه، قرمَطَةٌ ظاهرةٌ من هؤلاء الظاهرية الذين يَدَّعون الوقوف مع الظاهر. وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته، مع ادعائهم الحديث ومذهب السلف، وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار. ومعلومٌ أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير». وقال: «فمن عَرَفَ مذهب الأشعري وأصحابه، ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات، تبين له ذلك. وعَلِمَ –هو وكُلّ من فَهِم المقالتين– أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة –بل إلى الفلاسفة– من الأشعرية، وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم».

 

أما عن دعوى بعض الظاهرية بانتساب ابن حزم للسلف فقد كذبها وأبطلها شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص109) فقال: «إن كثيراً من الناس ينتَسِبُ إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره، ويكون في أقواله ما ليس بموافقٍ لقولِ من انتسب إليهم. فمعرفة ذلك نافعةٌ جداً. كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة، حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور عن السلف والأئمة، ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته، وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية. بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله، أحسن من مقالتهم! فهم مع دعوى الظاهر، يقرمطون في توحيد الله وأسمائه. وأما السفسطة في العقليات فظاهرة». قلت: السَّفْسَطَةُ (كما في القاموس الوسيط): «قياسٌ مُركّبٌ من الوهميات، والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته». والسُّوفِسْطائيّة هي فرقة فلاسفة إغريق يُنكِرون الحِسِّيَّاتِ والبَديهيّات وغيرها.
 

بل إنه جزم بتفضيل مذهب الأشاعرة في الصفات على مذهب ابن حزم. فقال في "درء التعارض" (5|250): «ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته، أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم». والمسألتان الوحيدتان التي كاد ابن حزم يوافق بهما السلف الصالح، هما مسألة الإيمان ومسألة القدر. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4|19): «الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل –ومن قَبله من الأئمة– في القرآن والصفات. وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره. لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات، ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك. فوافق (ابن حزم) هؤلاء (السلفيين) في اللفظ، وهؤلاء (الفلاسفة) في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث، باتباعه لظاهرٍ لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة، ما لا يدفعه إلا مُكابر. ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث، يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء».

 

وأما مذهب ابن حزم في الإيمان فهو مرجئ، وله مذهب خاص في الإرجاء: فجميع فرق المرجئة تخرج العمل من الإيمان، أما ابن حزم فإنه يُخرج العمل من أصل الإيمان ويُدخله في الإيمان الواجب. وقد وهم البعض فظنه على مذهب أهل السنة، وقالوا: حمده ابن تيمية في الكفر والإيمان. وليس كذلك، إنما الموجود من كلام ابن تيمية ما ذكرناه آنفاً، من تفضيله في هذا الباب على الأشعري، وليس أنه موافق بشكل كامل لأهل السنة والحديث.

 

أما الدليل على أنه يخرج العمل من أصل الإيمان: فقوله في "الفصل" (3|255): «فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو: العقد بالقلب والإقرار باللسان. فإن الكفر ضد لهذا الإيمان»، وقوله: «الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له»، فهذه صفة أصل الإيمان. فأخرج العمل من أصل الإيمان وقَصَره على اعتقاد القلب وإقرار اللسان كقول مرجئة الفقهاء، خلافاً لأهل السنة. ويترتب على هذا أنه لا يكفُر أحدٌُ بشيء من العمل، وهذا ما يصرّح به ابن حزم فيقول في المحلى (1|40): «ومن ضيّع الأعمال كلها، فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر». ويدل على إرجائه أيضاً تجويزه قول "أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى" (كما في "الفصل" 3|271) هكذا بدون استثناء، بل على وجه القطع والجزم. وهذه كلها أقوال المرجئة بلا ريب.

 

وأما الدليل على أنه يُدخل العمل في الإيمان الواجب والإيمان المستحب، فقوله في الفصل (3|255): «وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضداً له لا الكفر، فهو ما كان من الأعمال فرضاً. فإن تركه ضد للعمل، وهو فسق لا كفر. وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو: كل ما كان من الأعمال تطوعاً، فإن تركه ضد العمل به، وليس فسقاً ولا كفراً». والإيمان الذي يضاده الفسق هو الإيمان الواجب، والإيمان الذي يضاده الترك غير المكفر ولا المفسق هو الإيمان المستحب. وابن حزم كذلك يرى الإيمان الذي هو ضد الكفر شيئا واحداً لا يتجزء ولهذا يقول: «إن اليقين لا يقبل الزيادة والنقصان».

 

وبهذا تعلم أن ابن حزم وافق المرجئة في مسائل، ووافق أهل السنة في مسائل. ولهذا فإن قوله في المحلى (1|38): «الإيمان والإسلام شئ واحد... كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية»، كلامه هذا وإن كان موافقاً لأهل السنة في ظاهره، إلا أنه مخالف لهم في الحقيقة. إذ لايُدخِل العمل في أصل الإيمان كما ظهر من كلامه السابق، فأمره مضطرب. ولهذا فقد اعتبر ابن الجوزي الظاهرية فرقة ً من فرق المرجئة في كتابه "تلبيس إبليس" (ص28 ط المدني).

 

وهـذا شأن ابن حزم في معظم العلوم سواء منها الاعتقاد أو الفقه أو أصوله، أمره مضطرب، وكلامه يجمع بين الحق والباطل. ولهذا يجب التوقف في قبول ما انفرد به من آراء وأحكام حتى ينظر فيها. وينبغي ألا يبدأ طالب العلم دراسته بقراءة كتب ابن حزم كالإحكام والمحلى -على ما فيهما من فوائد-. وأنا أنصح بقراءتهما، ولكن في مرحلة متقدمة بعد قراءة غيرهما من الكتب، ليستفيد الطالب بما فيهما من فوائد، مع توقِّيه ما فيهما من أخطاء. وكلامه في الإيمان جدير بالقراءة، مع معرفة ما أخطأ فيه.

وبسبب انحرافات ابن حزم هذه، وصفه الآلوسي عند ذكره في تفسيره (21|76) بقوله: «الضال المضل». فليت ابن حزم قلد داود بن علي الظاهري في باب الأسماء والصفات، فإنه كان على مذهب السلف الصالح في هذا الباب. وغلطُ داود هو في مسألة اللفظ في خلق القرآن، لكنه يثبت الصفات كأهل السنة. قال شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص107) عن الظاهرية: «إن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث».

 

حدته مع العلماء

وكان ابن حزم شديد الوقوع في كبار العلماء. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (4|201): «ومما يُعابُ به ابن حزم: وقوعه في الأئمة الكبار بأقبح عبارةٍ، وأشنع رد». وقال ابن خلكان في تاريخه (1|370): «كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه». وقال أبو العباس بن العريف: «كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقان»! ومع أنه كان ذا حدة ظهرت كثيرًا في جدله، فإنه لم يغفل عن ذكر سببها والكلام عنها، فقال: «لقد أصابتني علة شديدة ولّدت في ربواً في الطحال شديداً. فولّد ذلك علي من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق أمراً جاشت نفسي فيه. إذ أنكرتُ تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصحّ عندي أن الطحال موضع الفرح، وإذا فسد تولد ضد». إن هذا تحليلًا دقيقًا يذكر فيه أسباب ضعفه النفسي في صراحة وقوة فيصف نفسه بالنزق والضجر، ولا يضن عليها بمثل ما يصف به مخالفيه. ولعل السبب الأهم في ذلك هو ما أصابه من ظلم على يد فقهاء المالكية حتى أحرقوا كتبه.

 

وكان ابن حزم يظن أنه بحدة لسانه سيسكت خصومه. ولكن انقلب السحر على الساحر، وتسبب له ذلك بإحراق كتبه وطرده من منصبه وقلة رواج أفكاره، حتى لا نجد له أتباعاً إلا من بعض الطلبة الذين يتعلمون الحديث قبل أن يتعلمون الفقه وأصوله. وكتبه لولا أنه اهتم فيها بجمع الآثار، لانقرضت منذ زمن بعيد. لكن جمعه لكل تلك الآثار والأقوال مع محاولة تبيين الصحيح من الضعيف، جعل كتابه "المحلى" ثروة لا يُستغنى عنها. وقد حَذّرَ جماعةٌ من المشايخِ والمؤدّبين من أن يقرأ المبتدئُ في مؤلّفاتِ ابن حزمٍ لا سيّما "المُحَلّى". وهي منهم نصيحةٌ في مَحلّها. فإنّ الأدبَ مع أهل العلمِ يقتضي ذلك. فإذا ما أتقنَ الطالبُ التأدّبَ مع أهلِ العلمِ، فلا حَرجَ حينئذٍ من الاستفادة من ذلك الكتاب، على حَذَرٍ من شُذوذاتٍ وغرائبَ وَقَعَ فيها أبو محمّد رحمه الله.

 

كيف تتعامل مع ابن حزم؟

ابن حزم ذكي  قوي الحجة، له علم بالمنطق وجدله. أما كيف تتعامل مع مصنفاته، فإن اسلم طريقة هي أن لا تجاري ابن حزم في مقدماته. فهو يبدأ بذكر مقدمات، ثم يبنى عليها نقاشه مع العلماء. فلو أنت صرت تنظر عجلاً للنتيجة كما يفعل طالب العلم المبتدئـ فإنك سوف تنساق مع مقدماته لجمال عبارتها وقوتها. لكن انظر إلى مقدماته بدقة، واحذر من جزمه. فإنه يجزم أحيانا بقوة كأنه يقسم قسما غليظا بصوابه، مما يجعل في نفسك صواب هذا الرأي. واحذر من معارضته، فإنه كثيرا ما يجزم أيضا أن هذا الأمر معارضٌ للعقل وللنقل، فلا تتعجل، وانظر سبب المعارضة عنده. ولا شك أن كتبه مفيدة جداً، وتغذي المجتهد المتمكن على الاجتهاد والاستقلال، وتقوي ملكة النظر في الأدلة من حيث جملتها. أي بمعنى ربط الأدلة مع بعضها والنظر إليها نظرا إجماليا، من غير تناقض. فإن كثيراً من الفقهاء ممن لا يتدبر الأمر ملياً، تجهده يحكم على مسألة في الطهارة بحكم بناء على قاعدة، ثم يحكم على أخرى بحكم آخر، ويستخدم نفس القاعدة، وإنما أتي من اختلاف الباب.

والأمثلة كثيرة. فمن ذلك قوله راداً على الحنفية: «فمن أطرف شئ مبادرتهم إذا أدركوا شيء من أوامر القرآن أنه ندب؟ فقلنا لهم: ما برهانكم على هذه الدعوى؟ قالوا: قوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا}. وقوله {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض}. فقلنا لهم: إن هذا لعجب؟ ليت شعري، في أي دين وجدتم أم في أي عقل: أنه إذا صح أمر من أوامر الله تعالى أنه منسوخ أو أنه ندب، وجب أن تحمل سائر أوامر الله تعالى على أنها منسوخة وعلى أنها ندب؟ فما سُمع بأعجب من هذا الاحتجاج الفاسد، إذ قصدوا به "هدم القرآن"». ومعلوم ما في المقدمات من الفساد. إذ لم يقصد الحنفية ولا غيرهم أن كل أوامر الله على الندب، ولم يقل بهذا مسلم. وقصدهم واضح لابن حزم، إنما قصدوا أن من أوامر الله ما هو ندب في كتابه ومنه غيره. وكأنه -رحمه الله- تدارك هذا الأمر بعد أسطر، وذكر أنه لا يُنكر، لكن لابد من القرينة. وهذا حق وقد قالوه، لكنه لم يرد على احتجاجهم.

ومن هذه الأمثلة : كلامه في بيع الفضولي حيث قال في رده حديث عروة البارقي: «لأنه إذا أمر -عليه السلام- أن يشترى له شاه، فاشترى شاتين، صار الشراء لعروة ((بلا شك)) لأنه إنما اشترى كما أراد، لا كما أمره. ثم وزن الدينا إما مسترخصا له ليرده، وإما متعديا فصار الدينا في ذمته ((بلا شك))... ثم ذكر كلاما ثم قال: ثم نسألهم عمن باع مال غيره، فنقول: أخبرونا هل ملك المشتري ما اشترى وملك صاحب المبيع الثمن؟ فإن قالوا لا، وهو الحق وهو قولنا. وإن قالوا نعم، قلنا فمن أين جعلتم له إبطال عقد صحيح؟». وأنت ترى جزالة مقدماته لكنها خطأ من وجوه، منها حصره. فليس الأمر في الصورتين فحسب. فنحن نقول العقد صحيح، لكنه معلق على رضا صاحب المال. وهو مثل خيار المجلس الذي أقره. أليس قد تم البيع لكن صاحباه بالخيار؟ فالعقد صحيح، لكنه مُعلق. وليس الأمر كما ذكر. فالنتيجة صحيحة، لكنها مبنية على مقدمات لا تُسلّم له.

ومن الأمثلة ما كان من رده على بكر البشري في كتابه الأحكام حيث قال: «إذا أمكن ما قلتم من أن اللفظ لا يبنى على المعنى بمجرده، فبأي شي نعرف مرادكم من كلامك؟ هذا لعلكم تريدون به معنى آخر؟ فبأي شيء أجابوا، فهو لازمٌ لهم». وهذا تحكم، فليست المسألة حصرا كما ذكر. فإنهم قد يقولون بالتفصيل، فما كان من الألفاظ المشتركة، فإنها لا تُحمل بمطلقها، وما كان غير ذلك فله حكمه. وما كان من المشتركة وله عرفٌ مشهور أو معنى يحمل عليه في الأكثر، قلنا بأنه يحمل عليه، وما لا فلا. بل إنه في الألفاظ التي لا تحمل إلا معنى واحد، فإن السياق قد يقلبه. انظر إلى قوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وما يقتضيه ظاهر المعنى، ومع ذلك دل السياق على خلافه.

 

رأي ابن حزم بالمذاهب الأربعة

قال المنتصر الكتاني عن ابن حزم: «لا يذكر فقهاً لأحمد إلا نادراً جداً. إذ أحمد عند الأندلسيين إمام في الحديث فقط. ومن ذلك كتاب الحافظ  ابن عبد البر الأندلسي: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء". وقد يذكر فقه من جاء بعد الثلاثة إلى منتصف القرن الخامس». قال: «ويمكن أن يجرد من "المحلى" مجلدان في فقه الأحناف والرد عليه، ومجلدان في فقه المالكية والرد عليه، ومجلد في فقه الشافعي وداود بن علي وغيرهما والرد عليه. أما فقه أحمد فليس في "المحلى" منه إلا قضايا محدودة، ومسائل محسوبة». قال: «وفي مناقشته فقه الثلاثة والرد عليه يكون ابن حزم قاسياً عنيفاً مع الحنفية والمالكية، ويكون براً لطيفاً مع الشافعية». وما ذاك إلا لأن الحنفية والمالكية هم من أهل الرأي، والشافعية هم من أهل الحديث. وابن حزم يعظّم الحديث ويمقت الرأي المجرّد. انظر: المذهب الظاهري

 

ومصادره في النقل عن المذاهب الثلاثة كثيرة، فهو واسع الاطلاع جداً. وقد وجدت أحد الحنفية يعترض على ابن حزم بأن نقوله غير دقيقة عن مذهبهم، وبأنه لم يفهم حججهم كما زعموا. وهو غلط، فقد اطلع ابن حزم على كتب الطحاوي، وهو أهم محدّثي الحنفية، وأحد أصدق فقهائهم في نقله. وكثيراً ما ينقل عنه ابن حزم دون أن يسميه، ويجيب على حججه. وقد نقل أيضاً من أمهات الكتب عند الحنفية مثل الجامع الصغير لمحمد بن الحسن (ذكره في المحلى 6|243) ومثل المبسوط (7|492) لابن الحسن. وقد كان ابن حزم على مذهب الشافعي لفترة من حياته، فصار له اطلاع كبير على مؤلفات الشافعية (لكن من الغريب أنه قد يخلط بين القديم والجديد). أما عن كتب المالكية فله اطلاع عظيم عليها. فقد كان يعيش في بيئة مالكية، وصاحبه وبلديه ابن عبد البر. وعامة مناظراته الفقهية هي مع المالكية. وأحياناً يصرّح بالنقل عن "الموطأ" و"مدونة" ابن سحنون و"المستخرجة العتبية" وكتب أخرى كثيرة.

 

يقول في أحد رسائله راداً على خصومه: «وأما قولهم: إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن، ومن الدواوين مالا نقف على أسمائها، فلعمري ما لشيوخهم ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم؛ إلاّ وقد رأيناه ولله الحمد كثيراً، ككتاب ابن الجهم، وكتاب الأبهري الكبير، والأبهري الصغير، والقزويني، وابن القصار، وعبد الوهاب، والأصيلي». وهنا يشير للكتب المؤلفة خارج الأندلس، فكيف به مع كتب أهل بلده؟ وما دخل الأندلس رجلٌ أكثر اطلاعاً من ابن حزم. بل ما يساويه في الاطلاع في تاريخ الإسلام إلا قلائل، وفوق كل ذي علمٍ عليم.

 

رأي ابن حزم بالمرأة

لعل من أبرز حسنات ابن حزم، إنصافه للمرأة وعدله في الأحكام التي أصدرها تجاهها. بينما تجد غيره من الفقهاء لا ينفك عن إهانة المرأة التي أنجبته، نعوذ بالله من العقوق. قال الحسن بن علي بن المنتصر بن الزمزمي الكتاني: «ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مشدد على المرأة وميسّر، فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما خصّه الدليل... وأنظر إلى كثير من الفقهاء، خاصة  المتأخرين منهم، فإنهم يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها مرة بحجة قصورها وأخرى بحجة سد الذرائع. وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهن عنده صالحات والفاسدات بحسب فسادهن، مثلهن في ذلك مثل الرجال».

 

أسانيد ابن حزم

غالب أسانيد ابن حزم ترجع إلى أربعة من كبار أئمة الحديث في الأندلس: بقي بن مخلد، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن. ولذلك تجد عنده من الآثار ما لا تجده عند أحدٍ غيره من المشرقيين، لأن كتب هؤلاء الكبار لم تصل للمشرق على أهميتها (وبخاصة ابن مخلد وابن أصبغ). وهي اليوم مفقودة.