لماذا علق البخاري حديث المعازف؟


أخرج البخاري في صحيحه (5|2123): باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه #5268 وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدثنا عطية بن قيس الكلابي: حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري -والله ما كذبني- سمع النبي
r يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف. ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليه بسارحة لهم. يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة، فيقولوا ارجع إلينا غداً. فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة».

ولم يذكر في هذا الباب إلا هذا الحديث، ثم بدأ بذكر باب الانتباذ في الأوعية والتور.

وابتداء الحديث بهذه الطريقة (يعني "وقال هشام" بدلاً من "حدثنا هشام") هو تعليق من الإمام البخاري. وإليه ‏ذهب المزي فِي "تحفة الأشراف" (8|573 #12161) إذ رقم لَهُ برقم التعليق (خت). بل صرح بذلك في ترجمته بتهذيب الكمال فقال: «استشهد له البخاري بحديث واحد»، إشارة إلى أن هذا الحديث الواحد ليس من شرط البخاري وإنما هو حوالة. وقد اختلف العلماء في سبب خروج هذا الحديث عن شرط البخاري إلى أربعة أسباب: انقطاع سنده، أو الشك في إسم الصحابي، أو اضطراب الحديث، أو ضعف عطية بن قيس.

فذهب ابن حزم لأن الحديث منقطع لأن البخاري لم يسمعه من هشام. قَالَ ابْنَ حزم فِي المحلى (9|59): «هَذَا منقطع لم يتصل مَا بَيْنَ البخاري وصدقة بْنِ خالد». وهذه زلة منه، لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري، و قد روى البخاري عنه في صحيحه و في كتبه الأخرى بصيغة حدثنا و سمعت. بل، أخرج البخاري في صحيحه حديثين أو ثلاثة مسندة قال فيها: حدثنا هشام بن عمار. بل، روى في صحيحه حديثا قال فيه: حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد، أي كإسناد حديث المعازف. فلا ريب أنه قد سمعه من هشام. وإطلاق ابن حزم للوضع على هذا الحديث بعيد جداً. وردود العلماء كثيرة على ابن حزم.

وقد قام القرضاوي (وليس من العالمين بعلم الحديث) بمحاولة فاشلة لإعلال الحديث بهشام بن عمار. فقد قَالَ الإمام أبو دَاوُدَ (كما في تهذيب الكمال 7|413‏): «حدث هشام بأرجح من أربعة مِئَة حديث ليس ‏لَهَا أصل مسندة كلها، كَانَ فَضلك يدور عَلَى أحاديث أَبِي مسهر وغيره، يلقنها هشام ‏بْنِ عَمَّار. قَالَ هشام بْنِ عَمَّار: حَدَّثَنِي، قَدْ روي فلا أبالي من حمل الخطأ». والجواب على زعم القرضاوي أن هذا الحديث لم ينفرد به هشاماً أيضاً، بل أخرجه الإسماعيلي في صحيحه (ومن طريقه البيهقي في الكبرى 3|372 #6130)، و ابن حجر في تغليق التعليق (5|19): عن الحسن ‏بن سفيان: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم هو دُحَيْـمٌ: ثنا بشر هو ابن بكر (التنيسي): ثنا (هنا يلتقي هذا الإسناد مع إسناد البخاري) ‏‏(عبد الرحمن بن يزيد) ابن جابر، عن عَطِيَّةَ بن قيس قال: قام رَبِـيْعَةُ الـجُرَشِيُّ في الناس، فَذَكَرَ حديثاً فيه طولٌ. قال: فإذا عبدُ ‏الرحمنِ بنُ غَنْـمٍ الأشعريّ، فقال: يمينٌ حلفتُ عليها، حدثني أبو عامرٍ أو أبو مالكٍ الأَشْعَرِيُّ، و الله يَـميناً أُخْرَى حدثني أنه سمع ‏رسول الله r يقول: «لِـيَكُوْنَنَّ في أُمَّتِـي أقوامٌ يَسْتَـحِلُّونَ الحر (أو الـخَزَّ) والحرير والـخَمْرَ والـمعازِفِ، وَلَـيَنْزِلَنَّ أقوامٌ إلـى جَنْبِ عَلـمٍ تَرُوْحُ عَلَـيْهِمْ سارحةٌ لَهُمْ فَـيَأْتِـيْهِمْ طالبُ حاجةٍ فـيقولونَ: ارْجِعْ إِلَـيْنَا غداً فَـيُبَـيِّتُهُمْ فَـيَضَعُ عَلَـيْهِمُ العَلَـمَ، وَيَـمْسَخُ آخرينَ قِرَدَةً وخنازيرَ إلـى يومِ القـيامةِ».‏

وأما إعلال الحديث باختلاف اسم الصحابي، فهذا بنفسه ليس بعلة، لأن الصحابة كلهم عدول (لكنه يدل على اضطراب حفظ أحد رواة الحديث). ولذلك أنكر ابن حجر أن يكون سبب تعليق الحديث هو الاختلاف في إسم الصحابي، لأن البخاري أخرج في صحيحه أحاديث من هذا النمط (كما ذكر). قال الذهبي في "الموقظة": «ومن أمثلة اختلاف الحافِظَينِ: أن يُسمَيَ أحدُهما في الإسناد ثقةً، ويُبدِله الآخرُ بثقةٍ آخر. أو يقولَ أحدُهما: عن رجل، ويقولَ الآخرُ: عن فلان، فيُسميَّ ذلك المبهَمَ، فهذا لا يَضُرُّ في الصحة». أما أن هشاماً دون شرط الصحيح، فقد كان ثقة قبل اختلاطه. والراجح عندي أن البخاري سمع منه قبل الاختلاط أثناء رحلته للشام بدليل أنه احتج به في حديث في مناقب أبي بكر الصديق. والله أعلم.

لكن آفة الحديث هو عطية بن قيس. فهو رجل صالح من فقهاء جند الشام ومقرئيهم، لكنه لم يأت له توثيق معتبر. ومعلومٌ أن الصلاح وحده لا يفيد التوثيق. والتردد في إسم الصحابي منه، لأنه لم يأت في الطرق التي ليس فيها عطية. لذلك فقد ذهب البخاري في "التاريخ" إلى ترجيح أنه عن أبي مالك. فقد قال: «وإنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشـعري. وهي ‏رواية مالك بن أبي مريم عن ابن غَمْ عن أبي مالك بغير شك». ‏والطريق الذي ليس فيه عطية (على ضعفه) ليس فيه ذكر تحريم المعازف. مما يرجّح أنها من أوهام عطية، والله أعلم.

وعطية بن قيس ليس في عدالته خلاف، ولكن الكلام عن ضبطه. فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته في توثيق المجاهيل. وقال البزار كما في "كشف الأستار" (1|106): «لا بأس به» . والبزار كابن حبان يوثق المجاهيل، كما ذكر السخاوي في "فتح المغيث". بل إن كلمة "لا بأس به" تنزله عن درجة الثقة. وقد قال الإمام أبو حاتم الرازي (وهو أعلم من ابن حبان والبزار) عن عطية بن قيس: «صالح الحديث»، أي يعتبر به. أما عن المقصود بمقولة أبي حاتم الرازي، فقد أفصح ابنه عنه، وبيَّنَ مُراده من قوله "صالح الحديث". ولا أدَلّ ولا أفصحَ من تفسير صاحب المصطلَح لما اصطَلح عليه.‏ قال في كتابه النافع "الجرح والتعديل" (2|37): «إذا قيل للواحد إنه: "ثقة" أو "متقن ثبت": فهو ممن يحتج بحديثه. وإذا قيل له انه: "صدوق" أو "محله الصدق" أو "لا بأس به": فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية. وإذا قيل: "شيخ" فهو بالمنزلة الثالثة: يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية. وإذا قيل: "صالح الحديث": فإنه يكتب حديثه للاعتبار». وقال في نفس الصفحة: «حدثنا عبد الرحمن نا احمد بن سنان الواسطي قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي: وربما جرى ذكر رجل صدوق في حديثه ضـــعــــف فيقول رجل صالح الحديث يغلبه. يعنى أن شهوة الحديث تغلبه». قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (3|112) تعليقاً على هذا النص: «فهذا نص منه على أن كلمة "صالح الحديث" مثل قولهم "لين الحديث" يكتب حديثه للاعتبار و الشواهد. و معنى ذلك أنه لا يحتج به. فهذه العبارة من ألفاظ التجريح، لا التعديل عند أبي حاتم، خلافاً لما يدل عليه كلام السيوطي في التدريب (233)».

وقال ابن سعد: «وكان معروفاً، وله حديث» . قال حسان عبد المنان تعقيباً على قول ابن سعد هذا: «ليس هذا بتوثيق، وإنما هو ضد المجهول، ولا علاقة له بمجهول الحال التي ذكرتها فيه». أقول: هو معروف بصلاحه وليس بضبطه، فتأمل. وقد اعترض البعض بأن عطية من كبار التابعين وصالحيهم. أقول: إن قصد الطبقة، فإن ميناء الكذاب (مولى ابن مسعود) كان من كبار التابعين كذلك. وأما عن الصلاح فالصالحون غير العلماء يغلب على حديثهم الوهم والغلط، لذلك أخرج مسلم في مقدمة صحيحه أن يحيى بن سعيد قال: «لم نر الصالحين في شيءٍ أكْذَبَ منهم في الحديث». قال مسلم: «يعني أنه يَجْري الكذبُ على لسانهم، ولا يتعمدونه». قال النووي: «لكونهم ‏لا يعانون صناعة أهل الحديث، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه. ويُروون الكذب، ولا يعلمون أنه كذب».

وأما ما زعمه البعض من أن مسلم قد احتج به، فقد تتبعت أحاديثه فلم أجده قد تفرد بأي حديث منها. وبقي حديث #477 عن أبي سعيد الخدري، فقد توبع في الحديث التالي #478 عن ابن عباس. فإن البخاري ومسلم يخرجان للمليّن حديثه ما علموا بالقرائن أنه ضبطه. والقرينة هنا واضحة أنه وافق الثقات من طريق آخر بنفس المتن، فأخرج له مسلم متابعته. ولو كان ثقة عند مسلم، لأخرج له حديثه المعازف في صحيحه. ولو كان ثقة عند البخاري لأخرج البخاري حديثه ولم يكتف بتعليقه. وأما أنه قد روى عنه جمع من الثقات ولم يأت به جرح، فقد أثبتنا في بحث سابق أن من كان هذا حاله، فهو مستور يستشهد به في الشواهد ولا يحتج بما تفرد به. وقد تفرد هنا بجعل التحريم على المعازف، فخالف كل من روى هذا الحديث.

والمتابعة الأولى للحديث هي ما ذكره البخاري في "تاريخه" عن إبراهيم ابن ذي حماية، عمن أخبره، عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً بلفظ: « في الخمر والمعازف». وهذا ليس هو موضع الشاهد كما هو واضح. وفوق هذا السند ضعيف.

والمتابعة الثانية هي ما جاء من طرق عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث (مستور الحال)، عن مالك بن أبي مريم الحكمي (مجهول) قال: كنا عند عبد الرحمن بن غنم ومعنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب، فقال عبد الرحمن بن غنم: حدثني أبو مالك الأشعري أن رسول الله r قال: «لتشربن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف، يمسخ آخرهم قردة أو قال: طائفة منهم قردة أو خنازير». رواه عن معاوية بن صالح: زيد بن الحُباب (واللفظ له)، وعبد الله بن صالح، وعبد الله بن وهب المصري، ومعن بن عيسى القزاز. وفي ألفاظهم اختلاف.

والملاحظ بوضوح أن الوعيد هو على شرب الخمر وتسميته بغير اسمه، وليس بسبب المعازف. والحديث في الواقع ينعي علي أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور. فهم بين خمر ونساء، ولهو وغناء، وخز وحرير. قال الإمام أبو محمد: «ليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف. كما أنه ليس على اتخاذ القينات. والظاهر أنه على استحلالهم الخمر بغير اسمها. والديانة لا تؤخذ بالظن».

تجدر الملاحظة إلى أن راوي هذه المتابعة (معاوية بن صالح) لم يجد فيه ما يدل على تحريم المعازف. فقد قال أحمد بن سعد بن أبي مريم، عن عمه سعيد بن أبي مريم: سمعت خالي موسى بن سلمة، قال: أتيت معاوية بن صالح لأكتب عنه، فرأيت أراه قال: الملاهي (آلات العزف). فقلت: ما هذا؟ قال: شيء نهديه إلى ابن مسعود صاحب الأندلس. قال: فتركته و لم أكتب عنه. انتهى.

 وقد أجمع كل من روى الحديث أن الوعيد ليس على المعازف، إلا عطية بن قيس فإنه غلط في تقديم لفظ المعازف لأول الحديث. ومن هنا نعلم دقة الإمام البخاري وعلمه، فإنه قد استشهد بهذا الحديث في "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه"، ولم يذكره البتة في باب المعازف. لأن الشيء الذي اتفق عليه كل رواة الحديث بلا خلاف منهم، هو إنزال الوعيد على من استحل شرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وهو أمر تشهد له قواعد الشريعة. وهذا من فقه الإمام البخاري. فليس من المعقول أن يهمل البخاري إعادة الحديث في باب آخر يخص المعازف، أو يقوم بتقطيع الحديث كما هي العادة، وخاصة أنه لا يوجد حديث آخر في هذا الباب، وهو من أبواب الحلال والحرام. أما المعازف فقد صرح عدد من حفاظ الحديث بأن كل حديث صريح جاء في تحريم المعازف فهو موضوع. قال القاضي المالكي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": «لم يصح في التحريم شيء». وقال ابن حزم في المحلى: «ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً. وكل ما فيه موضوع».


 

ملاحظة: لعل البعض يحتج بما يتوهم من حصول إجماع على تحريم سماع المعازف، لكن هذا الإجماع لم يصح. فهذا يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة‏ الماجشون (ت183هـ)، من كبار فقهاء المدينة ومحدثيها الثقات. قال ابن أبي خيثمة في تاريخه (#3399 ط. الفاروق): سَمِعْتُ يَحْيَى (بن معين) يقول: «كنا نأتي يُوسُف الماجشون فيُحدِّثنا في بيته، وجواريه في بيتٍ آخر له يضربن بمعزفة». والرجل كان في بيته: يسمع كما سمع ابن معين. ولو كانت جواريه يعلمن منه: النهي عن الضرب بالمعازف، لما فعلن في بيته ما لا يرضاه وهو يستقبل كبار العلماء. وسماع المعازف والألحان قد اشتهر به البيت الماجشوني بأسره. لذلك قال عنه الخليلي في الإرشاد: «هو و إخوته يرخصون في السماع، و هم في الحديث ثقات». وقال ابن عبد البر في الانتقاء (57): «وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال. قال: أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه». قلت: فلو صح في تحريم المعازف شيء، لأخبره بذلك علماء الحديث الذين رووا عنه كابن معين وغيره. وكذلك والده يعقوب بن دينار (ت120هـ)، وهو ابن أبي سلمة الماجشون، ثقة فقيه محدّث، قال عنه مصعب: «كان الماجشون أول من عَلّم الغناء من أهل المروءة بالمدينة». ويقول الخليلي في الإرشاد: «عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون (ت166هـ) مفتي أهل المدينة... يرى التسميع ويرخص في العود». وهو رجل ثقة فقيه ثبت، شهد له أشهب (تلميذ مالك) بأنه أفقه من مالك. بل هو شيء اشتهر به فقهاء أهل المدينة، حتى قال الذهبي: «أهل المدينة يترخصون في الغناء، وهم معروفون بالتسمع فيه‏». انظر التمهيد (10|151) وتاريخ دمشق (1|361) (59|419) ومعرفة علوم الحديث (ص251).

والمعازف تشمل كل آيات الطرب لكن المعزفة (مفردة) تطلق على ما نسميه اليوم بالعود، وهو آلة عزف وتريّة. جاء في كتاب العين للفراهيدي (وهو من أقدم المعاجم اللغوية): «الْمَعازِفُ : الملاعِبُ الّتي يُضْرَبُ بها. الواحد: عَزْفٌ والجميع: معازفُ رواية عن العرب، فإذا أفرد المعزف فهو ضرب من الطّنابير يتّخذه أهل اليمن». وقال ابن خطيب الدهشة في "المصباح المنير": «عَزَفَ: "عَزْفاً" من باب ضرب و "عَزِيفاً" لعب  "بِالمَعَازِفِ" وهي آلات يضرب بها الواحد "عَزْفٌ" مثل فلس على غير قياس. قال الأزهري وهو نقل عن العرب قال: وإذا قيل "المِعْزَفُ" بكسر الميم فهو نوع من الطنابير يتخذه أهل اليمن. قال: وغير الليث يجعل العود "مِعْزَفاً". وقال الجوهري: المَعَازِفُ الملاهي».  وجاء في لسان العرب لابن منظور: «عَزَفَ يَعْزفُ عَزْفاً لها. والمَعازِفُ المَلاهي. واحدها مِعْزَف ومِعْزَفة. وعزف الرجل يَعزِفُ إذا أَقام في الأَكل والشرب. وقيل واحد المعازِف عَزْفٌ على غير قياس ونظيره ملامحُ ومَشابِهُ في جمع شَبه ولمْحَة. والمَلاعبُ التي يُضْرب بها يقولون للواحد عَزْف. والجمع معازِفُ رواية عن العرب. فإذا أُفرد المِعْزَفُ فهو ضَرْب من الطَّنابير ويتخذه أَهل اليمن وغيرُهم يجعل العُود مِعْزفاً».

 

وقال الذهبي في السير (10|187)، عن عُلَيَّة أخت أمير المؤمنين هارون الرشيد: «أديبة، شاعرة، عارفة بالغناء، والموسيقى، رخيمة الصوت، ذات عِفَّة، وتقوى، ومناقب... كانت لا تغني إلا زمن حيضها، فإذا طهرت أقبلت على التلاوة، والعلم، إلا أن يدعوها الخليفة، ولا تقدر تخالفه. وكانت تقول: "لا غُفِرَ لي فاحشةٌ ارتكبتُها قطُّ، وما أقول في شعري إلا عَبَثاً"». فاجتمع لها: معرفة: الغناء والموسيقى، مع التقوى.

 

وفي ترجمة إسحاق النَّدِيم (11|118) ما مختصره: «الإمامُ، العلامةُ، الحافظ، ذو الفُنون، صاحبُ الموسِيقَى، والشعر الرائق، والتصانيف الأدبية، مع الفقه، واللغة، وأيامِ النَّاس، والبَصَرِ بالحديث، وعُلُوِّ المرتبة. ولم يُكْثر عنه الحفاظ، لاشتغاله عنهم بالدولة. وعنه: "بقيتُ دهراً من عُمُري أُغَلِّس كل يوم، إلى هُشَيْم، أو غيره من المحدثين، ثم أصيرُ إلى الكسائي، أو الفراء، أو ابن غَزالة، فأقرأُ عليه جُزْءاً من القرآن. ثم إلى أبي منصور زلزَل (الذي علّمه ضرب العود)، فيُضَاربُني طَرْقَيْن (نغمة عود) أو ثلاثة. ثم آتي عاتكةَ بنتَ شَهْدة فآخذُ منها صوتاً أو صوتين". كان ابن الأعرابي يصفُ إسحاق بـ: العلم والصدق والحفظ. وقال المأمون: "لولا شهرة إسحاق بالغناء؛ لوليته القضاء"». وترجم الصفدي في "أعيان العصر" (5|561) لـ: يحيى بن عبدالرحمن، نظام الدين الجعفري (ت 760هـ)، وقال عنه: «الشيخ، المحدث، الكاتب، الموجوّد، المحرر، الموسيقار... كان له عناية بالحديث... وكان موسيقاراً يتقن اللحون والأنغام».

 

والأصل حل الغناء والمعازف بدليل أن النبي r لم ينه عائشة وصويحباتها عنه. وثبت الترخيص في ضرب الدف في غير ما حديث. والدف أحد آلات المعازف. فما ثبت للدف، يثبت لغيره قياسا بجامع الإطراب. فإن قيل: لانوافق بأن تحريم المعازف لأجل الإطراب فقط؟ يقال: خرجوا أي علة أخرى وستجدونها في الدف. أما عن الغناء فأقوال العلماء عن تحريم الغناء هذا لا تشمل ما نسميه اليوم بالأناشيد الدينية والحماسية لا خلاف في جوازها. قال ابن عبد البر في التمهيد (22\196): «وهذا الباب من الغناء قد أجازه العلماء ووردت الآثار عن السلف بإجازته. وهو يسمى غناء الركبان وغناء النصب والحداء. هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء». وقال ابن عبد البر أيضاً (22\198): «وأما الغناء الذي كرهه العلماء، فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به، طلباً للهو والطرب، وخروجاً عن مذاهب العرب. والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء، هم كرهوا هذا النوع من الغناء, وليس منهم يأتي شيئاً وهو ينهى عنه». وقد أجاز بعض علماء المدينة استماع الرجل لغناء جاريته أو زوجته. إنما المحرم هو تلذذ الرجل بغناء وصوت المرأة الأجنبية فهذا لا يجوز، لا عند ابن حزم الظاهري ولا عند غيره. قال ابن حزم في "طوق الحمامة" (ص97): «حُرِّمَ على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية». وهذا إجماع متحقق.