المذهب الظاهري

حقيقة هذا المذهب:

يقوم هذا المذهب على أن المصدر الفقهي هو ظواهر النصوص من الكتاب والسنة، فلا رأي ولا إعمال للعقل في حكم من أحكام الشرع. فليس في هذا المذهب قياس، ولا استحسان، ولا ذرائع، ولا مصالح مرسلة. وإن لم يكن من نص، فيؤخذ بحكم الاستصحاب الذي هو الإباحة الأصلية. ولا شك أن بعض المذاهب فيها ظاهرية أكثر من بعضها الآخر. فأشد المذاهب اعتناء بالرأي مذاهب الكوفة (أبو حنيفة، والثوري، ...) ومذهب مالك وشيخه ربيعة الرأي. وكثير من أهل الحديث عنده ظاهرية، لكن ليس فيهم من هو ظاهري خالص. وهناك مذاهب تمزج بين الأمرين مثل مذاهب الشافعي والليث والأوزاعي وغيرهم. ومن الملاحظ أن كثيراً من الظاهريين أصله شافعي، مع أن مذهب الليث أميل لمذهب الظاهر من مذهب الشافعي. ويظهر أن السبب هو جودة رد الشافعي على من يستحسن برأيه. وسيأتي ذلك بإذن الله.

داود الظاهري:

فأول من كان ظاهرياً خالصاً، هو أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصفهاني. وقد كان شافعياً أول أمره، بل هو أول من صنف في مناقب الشافعي. ولد بالكوفة عام 202هـ، وتوفي ببغداد عام 270هـ. وتلقى العلم ببغداد على يد أبي ثور وإسحاق بن راهويه وعدد من تلاميذ الشافعي. وسمع الكثير من الحديث. ثم اتجه للظاهر، وأنكر القياس. فهو يعتبر بإجماع العلماء أول من أظهر القول بظاهرية الشريعة بين أهل السنة. فقد قال بأخذ الأحكام من ظواهر النصوص، من غير تعليل لها. فهو بذلك ينفي القياس في الأحكام قولاً. وإن اضطر إليه فعلاً، يسميه الدليل. ومن أمثلته أن يذكر النص فيه مقدمتين، ولا يصرح بالنتيجة. كأن يقول: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، والنتيجة أن كل مسكر حرام. ولكن النص لم يصرح بالنتيجة، فيعد ذلك من دلالة اللفظ. ومن ذلك أيضاً تعميم فعل الشرط، كما في قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} فهذا النص وارد في الكافرين، ولكن معناه المأخوذ من لفظه يفيد أن كل من يكونون في حال عصيان وينتهون بالتوبة يكونون في حال غفران الله تعالى. فالتعميم هنا قد جاء من ظاهر النص، وليس من القياس.

ولا بد هنا من توضيح حول قولنا أن داود هو أول من كان ظاهرياً خالصاً. والمقصود بالظاهرية من هو من أهل السنة فحسب. وإلا فمنكري القياس من الفرق الأخرى كثر. فأول من قال بإبطال القياس: هو النَّـظـّام المعتزلي (ت231هـ). وهو أول من باح به، ثم تابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب، وجعفر بن حبشة، ومحمد بن عبدالله الإسكافي. وتابعهم على نفيه داود الظاهري. قال أبو القاسم البغدادي -فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب "جامع العلم"-: ما علمت أحداً سبق النظّام إلى القول به. (انظر إرشاد الفحول ص 340 وروضة الناظر لابن قدامة ص279 والآمدي في الإحكام 4|9 وابن العربي المالكي في المحصول ص125). ولا يقول بإبطال القياس إلا الشيعة و المعتزلة و الخوارج، وطبعاً الظاهرية.

انتشر المذهب الظاهري في عهد مؤسسه، برغم المعارضة الشديدة لهذا المذهب. وكان انتشار المذهب بما قام به داود من كثرة التأليف، فقد ألف كتبًا كلها سنن وآثار مشتملة على أدلته التي أثبت بها مذهبه. ولا شك أن الكتب بذاتها آثار مستمرة، تدعو إلى مذهب مؤلفيها وتبقى سجلاً لأفكارهم. وقد كان عنده حديث كثير. وكان فصيحاً حاضر البديهة، سريع الاستدلال. كما كان جريئاً فيما يعتقد أنه الحق، لا يهاب النطق به، ولا يخشى فيه لومة لائم. وكان مع جرأته ناسكاً عابداً، يعيش على القليل أو أقل القليل. فكان يرد الهدايا ولا يقبلها. وفضلاً عن ذلك فقد كان جم التواضع، لا يتعالى على أحد بعلمه، كما لا يستطيل على الناس بعبادته. وهذا كله ساهم في نشر مذهبه، لكن بشكل محدود.

وبالرغم من اهتمام تلاميذه بنشر كتبه، فإن عدم تبني السلطان للمذهب يعني عدم انتشاره. ومما ساهم في اندثاره: عدم اعتماده على المصادر الاجتهادية المرنة التي تعطي للفقه الإسلامي قابلية التطور والنمو. وبدء المذهب الظاهري يتلاشى بعد داود وابنه شيئاً فشيئاً. لكن لما ظهر ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس الهجري، تهيأت بجهوده واجتهاداته الظروف لانتشار المذهب الظاهري من جديد. فقد خدم ابن حزم المذهب الظاهري بما قام به من وضع لأصوله وتدوينها في كتب عديدة، تضمنت بجانب ذلك دفاعه عن المذهب.

ابن حزم الظاهري:

ولد أبو محمد علي المشهور بابن حزم بقرطبة عام 384هـ، وتوفي عام 456هـ. وقد نشأ في بيت له سلطان وثراء وجاه. وبدأ طلب العلم عن كبر باستحفاظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث. ثم أقبل على الفلسفة وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، وهذا الذي أفسد عقيدته وأصوله. ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب مالك، مع أنه من مذاهب أهل الرأي، لأنه كان مذهب الأندلس في ذلك الوقت. ثم لم يلبس أن انتقل إلى المذهب الشافعي، فأعجبه تمسكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصاً أو حملاً على النص، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان. ولكنه لم يلبث إلا قليلاً في الالتزام بالمذهب الشافعي، حتى اطلع على كتب داود الظاهري. فترك مذهب الشافعي (قبل عام 418هـ) لما وجد أن الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس وكل وجوه الرأي أيضاً. فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدد في ذلك، حتى أنه كان أشد من إمام المذهب الأول داود الأصفهاني. قال عنه أبو مروان بن حيان: «مال أولاً إلى النظر على رأي الشافعي، وناضل عن مذهبه حتى وُسِمَ به. فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء (المالكية)، وعِيبَ بالشذوذ. ثم عدل إلى قول أصحاب الظاهر، فنّحه وجادل عنه وثبت عليه إلى أن مات».

وعمل ابن حزم فترة في السياسية محاولاً إعادة إنشاء دولة قوية للمسلمين في الأندلس، بعد أن مزقت دويلات الطوائف الخلافة الأموية. وكان أيضاً من المجاهدين الأبطال ضد النصارى بسيفه وقلمه. وله دفاع عظيم عن الإسلام، إذ قام بإبطال ما كان يثيره اليهود والنصارى من افتراءات ضد الإسلام وأهله. وكان ابن حزم عالماً فذاً، تمتع بحافظة قوية واسعة، ورواية للحديث غزيرة، واطلاع مذهل على كتب الفقه. وما دخل الأندلس رجلاً أوسع منه معرفة، إلا أن يكون معاصره ابن عبد البر، فهما قرينان. وكان له مع هذه الحافظة الواعية بديهة حاضرة، فتجيء إليه المعاني في وقت الحاجة إليها، كما كان مع ذلك عميق التفكير يغوص بفكره في الحقائق والمعاني. وله اجتهادات قد يخالف فيها الإجماع، ويجمد إلى حدٍّ لا يتصور من مثله، وأحياناً يُحلِّق فيأتي بدُرَرٍ وجواهر.

وكان ذا بصر بعلوم كثيرة من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع من العلوم القديمة كالمنطق والفلسفة. كما أن لابن حزم دراسات نفسية وخلقية، وقد وضحت الدراسة النفسية في كتابه طوق الحمامة ووضحت دراسته الخلقية في رسالة مداواة النفوس. وقد أفادنا ابن حزم بمؤلفات كثيرة نافعة في كثير من العلوم الدينية وغير الدينية. قال عنه القاضي صاعد بن أحمد: كان أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة... وأخبرني ابنه الفضل قال: اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة. وكان هذا العالم مخلصاً في طلب العلم وتبليغه، فهو ينطق بما يعتقد أنه الحق، غير هيابٍ لأحد. فيقول عن بعض فقهاء عصره:

فقلت هل عيبهم لي غير أني * لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ
وأنني مولعٌ بالحق لست إلى * سواه أنحو ولا في نصره أهن

لقد نشأ ابن حزم في بيئة مالكية متعصبة جامدة، لا تعرف إلا رأي مالك من رواية ابن القاسم. وتجد غالب جهد المالكية مبذول في الترجيح بين الروايات عن مالك في المدونة والواضحة. والجادة والصواب هو اتباع الكتاب والسنة ومعرفة الصواب من خلالهما، ليس من أقوال فلان أو غيره. والمالكية -بشكل عام- يكرهون المناظرة ولا يحبون إيراد الأدلة، إذ يكتفون بـ"قال مالك" و"قال أصحابه". فلما أتاهم ابن حزم وناظر كبرائهم وطالبهم بالأدلة من الكتاب والسنة على آراء مالك، ما استطاعوا أن يجدوا أدلة. ويصف ذلك الوضع بدقة القاضي المالكي الإشبيلي أبو بكر بن العربي في كتابه "القواصم والعواصم"، فيقول عن ابن حزم: «واتفق كونه بين قومٍ لا بصر لهم إلا بالمسائل. فإذا طالبهم بالدليل كاعوا! فيتضاحك مع أصحابه منهم». لكن بدل أن ينصح ابن العربي أصحابه بالاهتمام بجمع الأدلة، يوصيهم بعكس ذلك «أن لا تستدلوا عليهم!».

لكن المالكية وإن عجزوا عن الرد عليه بالحجة والبرهان، ما كانوا ليتركونه ينشر مذهباً يخالف إمامهم مالك. فاجتمعوا إلى حاكم إشبيلية الذي كان قد ادعى أن عنده الخليفة الأموي المقتول هشام. وقد قال ابن حزم عنه: «أخلوقة لم يقع مثلها في الدهر، فإنه ظهر رجل بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد، وادعى أنه هو...». وقال: «صار الأمر إلى الأخلوقة والفضيحة: فهناك أربعة حكام كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخا في مثلها.. ومنهم من لا يصحب إلا كل ساقط رذل ولا يحجب عنهم حرمه (أي نساءه)». فجن حاكم أشبيلية حنقاً على ابن حزم، لكن ابن حزم كان بعيداً في ميروقة مع جمع من محبيه وتلامذته. فاستدعى فقيه المالكية أبو الوليد الباجي الأشعري، وهو الذي يقول عنه أحد معاصريه: «كان مشهوراً بأنه يجالس الرؤساء ويمدحهم بشعره ويسترضيهم حتى ينال جوائزهم. وكانت عليه مطاعن في دينه». فأحكم الطاغية (سنة 440هـ) الخطة مع المالكية أن يرسل الباجي إلى ميورقة في موكب ضخم من فقهاء المالكية، مع عدد كبير من محترفي الشغب، ورجال الشرطة السرية!

فأرسل الباجي فقهاء المالكية ليجادلوا ابن حزم، فينهكوه ويستفزوه بالافتراءات والتهجم عليه، حتى يفقد السيطرة على نفسه قبل أن يبدأ الباجي مناظرته. ولكن ألسن المالكية قصرت عن مجادلة ابن حزم وكلامه. فتقدم الباجي يناظره، فأفحمه ابن حزم. فأراد الباجي أن يمكر به وأن يحرض عليه فقراء الطلاب والفلاحين من رواد الحلقة فقال: «تعذروني فأكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس». يقصد أنه كان فقيراً لا يجد مصباحاً في بيته، فقراءته كانت على مصابيح الحراس الذين يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلاد من اللصوص. فرد ابن حزم: «وتعذرني فأكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة». فقال الباجي: «أنا أعظم منك همة في طلب العلم! لأنك طلبته وأنت تُعانُ عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل السوق». فقال له ابن حزم: «هذا كلام عليك لا لك. لأنك طلبت العلم بحال فاقة تريد تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمهُ وما ذَكَرته. لا أرجو إلا علو القدر في الدنيا والآخرة». وصفق أتباع ابن حزم طرباً، وانهزم الباجي.

لكن المالكية في اليوم التالي عادوا إلى خطة أخرى. فما إن بدأت المناظرة، ولم يكد الباجي ينتهي من كلامه، حتى وثب أنصاره فصفقوا وتصايحوا إعجابا بما قال. وجاء دور ابن حزم ليرد، ولكنهم قاطعوه بالصفير والزعيق والسخرية والضحكات والتهريج عليه. وغمر صخبهم المكان، ولم يمكنوا ابن حزم من الكلام. إذ ضاع صوته وسط الشغب والتهريج، فعزف عن الاستمرار في المناظرة. وقام من المسجد آسفاً، فأعلنوا انتصار الباجي، وانكسار ابن حزم! وهكذا فليهنئ المالكية بانتصارهم. ثم لم يكتفوا بذلك، بل سعوا عند حاكم إشبيليا ليصدر قراراً بإحراق كل كتبه. فقال يرد عليهم:

فإن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي * تَضَمَّنَهُ القرطاسُ، بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي * وينزل أن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ * وقولوا بعلمٍ، كي يرى الناس: من يدري
وإلا فعودوا للكتاتيب بدأةً * فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت * أكفهم القرآن في مدن الثغر

أي اتركوا إحراق الكتب، وناظروا بعلم إن كانت لكم حجة. وإلا فارجعوا تعلموا في الصغر كالأطفال في الكتاتيب، ولا تكونوا كالنصارى الذين ما إن استولوا على بلد للمسلمين حتى يحرقوا المصاحف لعجزهم عن الرد على ما فيها. وكان في إحراق كتبه إرضاءاً لفقهاء المالكية الذين ضاقت صدورهم بعلمه. فما لاقاه من ظلم الأمراء بإيعاز العلماء، أحدث في نفسه مرارة شديدة جعلته ينقم على بعض العلماء لكيدهم له عند الأمراء، فكان ذلك من أسباب حدته عليهم. وصارت الحدة من معالم المذهب الظاهري، والله أعلم.

 

هل كان ابن حزم عالماً؟

قال ابن حزم: «أعلم الناس من كان أجمعهم للسُنَنِ وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه». اهـ. فنظرنا إلى انطباق هذه الصفات على ابن حزم:

1- سعة الاطلاع: لا شك أن ابن حزم من أوسع الناس اطلاعاً في كثير علوم الإسلام، وبخاصة علم الفقه. وليس علمه محصور بالأئمة الأربعة، بل بسائر مذاهب السلف، من اشتهر منهم ومن خمل. قال عنه أبو القاسم صاعد بن أحمد: «أقبل على علوم الإسلام حتى نال من ذلك ما لم ينله أحد بالأندلس قبله».

2- معرفة الإجماع: وهذا متعلق بما قبله. وابن حزم عارف في نقل الإجماع، لكنه يحدد الإجماع بإجماع الصحابة ويتشدد فيه. ولذلك تكثر عنده الأقوال الشاذة. قال عبد الرحمن بن مهدي كما في "المحدث الفاصل بين الراوي و الواعي" (ص206): «لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم. ولا يكون إماماً في العلم من روى كل ما سمع. ولا يكون إماماً في العلم من روى عن كل أحد». وقال ابن عبد البر عن ابن حزم: «فما أرى هذا الظاهري، إلا قد خرج عن جماعةِ العلماءِ من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء وشذّ عنهم. ولا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذِّ من العِلم».

3- معرفة السنن: وبالرغم من أنه لم يطلع على سنن الترمذي، فقد وصلت إليه كتب كثيرة غيره مثل الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي، وكتب الطحاوي، ومسانيد كثيرة، وكتب ومصنفات نادرة لم تصلنا. وبالرغم من أن ابن حزم كان ينكر علم علل الحديث، إلا أنه عنده معرفة جيدة بالصحيح من السقيم. فهو خير من غالب الفقهاء الذين لا يميزون الموضوع من المتفق عليه، من أمثال الجويني والرازي والغزالي.

4- لغة العرب: وكان فصيحاً بارعاً في اللغة متقناً لفنونها، كالنثر والشعر، عارفاً بالأنساب وأيام العرب. لكن فهمه ظاهري جامد للنصوص.

 

انتشار المذهب الظاهري:

وجدنا مما سبق أن المذهب الظاهري قد قام على يد عالمين هما داود وابن حزم. لكن عدم تبني أحد من السلاطين للمذهب الظاهري، منه من انتشاره، مع أن المذهب الظاهري يروق لكثير من العوام من جهة أنه أسهل عليهم ويفتح لهم باب الاجتهاد بأيسر السبل. ومن المعروف أن أي مذهب يحتاج لعلماء يقومون به ليستمر. ويحتاج للتدوين ليبقى ولا يضيع. ويحتاج كذلك إلى دعم من السلطان حتى ينتشر. والمذهب الظاهري قد تأمن له -في بعض الفترات العلماء- وتأمن له التدوين، لكن عدم تبنيه من أحد الحكام أوصله لنتيجة حتمية هي عدم الانتشار.

ويشغب البعض علينا بما ذكره عدد من المالكية من أن ما حصل من حرق لكتب المالكية زمن ولاية ابن عبد المؤمن الموحدي ومناداته للعودة للكتاب والسنة، هو حمل للناس للمذهب الظاهري (كذا!) وليس حملاً منهم للعودة للكتاب والسنة. أقول بالبداية أضطر لأن أعرف بابن عبد المؤمن، رغم ما في ذلك من خروج عن الموضوع. هو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي بن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس، أبو يوسف أمير الموحدين. بويع له بعد وفاة أبيه سنة 580هـ. وجه عنايته إلى الإصلاح، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات، وهزم النصارى في معركة الأرك. ونهى الفقهاء عن الإفتاء إلا بالكتاب والسنة، وأباح الاجتهاد لمن اجتمعت فيه شروطه وأبطل التقليد. بنى كثيراً من المساجد والمدارس في إفريقية والمغرب وبنى مشافي للمرضى والمجانين وأجرى عليها الأرزاق. توفي عام 595هـ. انظر "المعجب" لعبد الواحد المراكشي (ص379، فما بعدها) و"وفيات الأعيان" (7|3) و"البيان المغرب" لابن عذارى (ص182).

وكان فصيحاً يحفظ القرآن وصحيح البخاري، ويعرف السنة والتفسير، ويتكلم في الفقه ويناظر، وله فتاو. وفي الجملة من يقرأ كلام المؤرخين عنه، يجد الثناء العطر عليه في عامة الأمور، إلا أن عقيدته لم تكن سلفية، بل تأثر بالفلاسفة وقرّب كبارهم كابن طفيل وابن رشد الحفيد. ويظهر أنه لم يكن مقتنعاً بمهدية ابن تومرت، لكنه بالتأكيد أشعري الاعتقاد متأثر بالفلسفة. وعموماً فلم يتكلم عليه فقهاء المالكية (مع شدة عداوتهم له) في عقيدته، لأن الاعتقاد الأشعري قد طغى في ذلك العصر على المالكية في المغرب والأندلس. فكيف للأشعري أن يعيب على غيره اتباع الأشعري؟! وإنما اتهمه أكثرهم بدعوته "لبدعة الظاهرية" كما أسموها.

وأما المؤرخين المنصفين مثل ابن خلكان، وابن العماد، فقد ذكروا أنه كان يدعو إلى الكتاب والسنة، وليس إلى المذهب الظاهري. وقد ذهب إلى ذلك جمع من الباحثين والمحققين سواء من المالكية وغيرهم. ومنهم الأستاذ عبد الله كَنون رحمه الله (رئيس رابطة علماء المغرب) في "النبوغ المغربي في الأدب العربي" (1|125). وهذا هو الصواب. فإن يعقوب لم يدع إلى آراء داود الظاهري ولا إلى ابن حزم ولا إلى رأي أي فقيه ظاهري. بل لم يهتم بنشر كتبهم، ولا يظهر أنه قرأ كتبهم أصلاً. وإنما اتهموه بالظاهرية لأنه دعاهم للعودة إلى الكتاب والسنة، وأراد فتح باب الاجتهاد بعد أن جمدوا على رأي مالك.

قال المراكشي في "المعجب" (ص400): «وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء (يعني المقلدون). وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد منها حديث رسول الله r والقرآن، ففعل ذلك. فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبراذعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي. وتوعّد على ذلك بالعقوبة الشديدة. وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء والمحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة: الصحيحين والترمذي والموطأ وسنن أبي داوود...». والعجب من المالكية أنهم ينكرون على المنصور إحراق كتب الرأي، وهم قد أفتوا بإحراق كتب حزم من قبل.

وقال ابن عذارى: «وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس. ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة». ويتبين لنا مما تقدم أن يعقوب المنصور أراد تجديد الحياة الإسلامية ووضعها على أساس القرآن والسنة والإجماع. وعمل في ذلك جهده خلال خمسة عشر عاماً. فأمر بجمع الأحاديث، وقرب إليه أهل الحديث. واهتم بجمع مسائل الإجماع. وفي زمنه وضع المحدث ابن القطان (ت 628هـ) كتابه "مسائل الإجماع" وكتب الأصولي ابن رشد الحفيد (ت 595هـ) كتابه في الفقه المقارن.

قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (7|11): «وكان الأمير أبو يوسف يعقوب يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس. وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر. وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم. وأمر برفض فروع الفقه، وأن العلماء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين. بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والسنة والإجماع والقياس». ولكن فقهاء المالكية لم يقبلوا بترك التقليد والاعتماد على الكتاب والسنة فقط، فعارضوه أشد المعارضة. فلم ينته عهده، حتى عاد الفقه في المغرب لمرحلة الجمود من جديد. ولم يحدث أن تبنى سلطان لمذهب داود وابن حزم.

 

أصول المذهب الظاهري:
1 - القرآن: وهو إما بين بنفسه كأحكام النكاح والطلاق والمواريث، وإما يحتاج إلى بيان من السنة، كتفصيل المجمل في معنى الصلاة والزكاة والحج. فتكون السنة بياناً مصداقاً لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}.  وبيان القرآن قد يكون جلياً واضحاً، وقد يكون خفياً، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم بفهمه، وبعضهم يتأخر عن فهمه.  والتعارض بين نصوص القرآن ممتنع، لأن القرآن وحي إلهي لا اختلاف فيه كما قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن؟! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كبيراً}. فإذا توهم متوهم وجود تعارض بين نصين من القرآن، فذلك يزول إما بإمكان التوفيق، وإما بالتخصيص للعام من القرآن، وإما بالنسخ.
2 - السنة: وهي إما متواترة قطعية الحجة (وأقل حد للتواتر عند ابن حزم اثنان، إذا أمن عدم اتفاقهما على الكذب)، وإما خبر الآحاد، وهو يوجب العمل والاعتقاد. والفرق بين القسمين هو في قوة الاستدلال. وأما اجتهاد الصحابي فليس حجة في الدين عند الظاهرية.
3 - الإجماع: ويراد به ما كان في عهد الصحابة فقط لأنه كان ممكناً. لكنه أحياناً يقرر أن الإجماع هو إجماع الأمة من أولها إلى آخرها. لكنه من الناحية العملية فقد ينقل الإجماع من غير نص، ويكون على خلاف إجماع السلف، كما بينه ابن تيمية ظاهراً في كتابه "نقد مراتب الإجماع" (خاصة آخر الكتاب). وقد اضطرب الظاهرية في هذا الباب اضطراباً عظيماً كما سيأتي.
4 - الاستصحاب: ويقصد به بقاء الحكم المبني على النص، حتى يوجد دليل من النصوص يغيره. وقد قرر الظاهرية أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما جاء به نص يثبت تحريمه.

الكثير من هذا المقال من كتاب "المدخل للفقه الإسلامي" للدكتور حسن محمد سفر http://arabic.islamicweb.com/sunni/Thahiri.htm

ومن المعلوم أن مذهب مالك هو مذهب من مذاهب الرأي، لأنه يضع شروطاً للعمل بالحديث، وقواعداً تؤدي إلى رد الأحاديث الصحيحة. بينما يرى ابن حزم (تبعاً للشافعي) أن الحديث حجة قائمة بذاته، ولا يحتاج للوصاية. وفيما يتوسع مالك في مسألة المصالح المرسلة، فإن ابن حزم (تبعاً للشافعي) يرى في ذلك استحساناً بالرأي وتشريعاً لغير ما أنزل الله. فداوود وابن حزم يوافقان الشافعي على تقديس النص النبوي، وعلى ذم التشريع بالرأي. لكن شذوذهما هو في إنكار القياس جملة، وهو ما لا يقوله الشافعي، بل إنه بين أدلة القياس وأظهرها. ولا شك أن عدم الأخذ بالقياس يؤدي إلى الحرج في كثير من الأحكام، فإنه من المعقول أنه إذا تشابهت مسألتان واتحدتا في علة واحدة أن تأخذ الثانية حكم الأولى، ما دامت العلة واضحة، وإلا كان ذلك منافياً للعقل ومجافياً للصواب. لكن للإنصاف نقول: بأنه وإن اشتط المذهب الظاهري في التمسك بظاهر النصوص، والابتعاد الشديد عن القياس والرأي، لكنه انفرد أحياناً بنظريات وأحكام لا يظهر فيها تضييق على كثير من الناس. هذا بغض النظر عن وقوعه في الكثير من الشذوذ في الأحكام.

 

إنكار الظاهرية للإجماع:

الظاهرية لهم قواعد تعطل عمل الإجماع، فتكثر مخالفتهم له. فتراهم يخصون الإجماع بإجماع الصحابة، ويتشددون كثيراً في قبوله. أما سبب قول الظاهرية (خاصة داود) بأن إجماع الصحابة وحده هو الحجة، فهو لأصلهم الظاهري في إنكار القياس. فهم يعتبرون إجماع الصحابة دليلاً على توقيفٍ من الرسول (r). وهذا لا يستقيم لهم لو نسبوا الإجماع للتابعين ولأتباع التابعين. وإلا فإن الإجماع يشمل القرون الثلاثة الأولى عند سائر الفقهاء. أما من بعدهم ففيه خلاف، وأكثرهم على أنه حجة، وعندي أنه ليس حجة. كما يظهر لي أن ابن حزم لا يتحدث عن الإجماع إلا ويقصد القطعي، لأنه يصرح كثيراً أن مخالف الإجماع كافر. فلعل هذا السبب الذي جعله يضطرب في تحرير الإجماع. ولذلك فإن الظاهرية عندهم تشدد في نقل الإجماع. وقد عدّ العلماء كتاب "مراتب الإجماع" لابن حزم من أصح الإجماعات، كما في "المعيار" للونشريسي (12|32). مع أنه لا يسلم أحد من الخطأ، إذ تعقب شيخ الإسلام ابن تيمية الكتاب السابق، وبين أن ابن حزم قد أخطأ في فهمه لبعض النصوص، مما أدى لغلط في نقل الإجماع. وهذا الكتاب ألفه ابن حزم وهو في منتصف الطلب، فليس فيه من القوة العلمية والاطلاع الواسع مثل التي تجدها في المحلى مثلاً.

أما استحالة عد الإجماع بعد الصحابة (كما يدعي الظاهرية)، فهو باطل. لأن الإجماع ليس اجتماع العوام، إنما الإجماع هو اجتماع المجتهدين من علماء أهل السنة على أمرٍ واحد. والمجتهدون -سواءً من الصحابة أو التابعين- عددهم محدود. ولكل واحدٍ منهم تلاميذ ينقلون عنه ويكتبون رأيه. وكانوا يجتمعون ويتناظرون فيما بينهم. فاتفاق أقوالهم إجماعٌ بلا ريب.

ولعل أوسع باب خالفوا فيه الإجماع، هو مسألة جعل السنن واجبات. فالحديث الذي فيه صيغة الأمر، يجعله الظاهري واجباً فرضاً، وإن أجمع العلماء على أنه للاستحباب. مع أن النصوص أحياناً تقبل أكثر من معنى. (وهذا يشمل النهي أو الأمر). فإذا أجمع علماء الأمة على معنى واحد، فلا يجوز تجاوزه. ومثال ذلك احتجاج الخوارج بقول الله تعالى {إن الحكم إلا لله} على تكفير من قبل بالتحكيم. ولا ريب أن القول صحيح، لكن التفسير باطل. فهم محجوجون بأن تفسيرهم مخالف للتفسير الذي أجمع عليه الصحابة. ولذلك قال سيدنا علي بن أبي طالب عن قولهم هذا: "كلمة حق أريد بها باطل". وكذلك استشهاد الشيعة بقوله تعالى {قل ما أسألكم إلا المودة في القربى} على أن الإمامة في ولد علي رضي الله عنه. وهذا مردودٌ بإجماع علماء السنة على أن هذا تفسيرٌ مردود لأن معنى الآية هو أنه أسألكم أن تراعوا صلاة القربى بيني وبينكم، وليس أن تولّوا أقربائي عليكم! فكما ترى، كل الفرق (حتى القاديانية!) تستشهد بالقرآن وربما بالسنة كذلك. لكنهم محجوجون بإجماع أهل السنة.

ثم إن إجماع الناس على خلاف النص هو كفر عند الظاهرية. قال الإمام ابن حزم في "الإحكام" (4|549): «إجماع الناس علي خلاف النص الوارد -من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله (r)- فهذا كفر مجرد». فكيف نجد اليوم من الظاهرية من ينكر أن إجماع العلماء في حمل بعض الأحاديث على الندب، يكفي لتخصيص الحديث من عموم الوجوب؟ فمثلاً نقل ابن عبدالبر الإجماع على عدم وجوب إلقاء السلام وأنه سنة . وقال ابن كثير: إنه قول العلماء قاطبة. فيأتينا الظاهري الناشئ فيصر على أن إلقاء السلام واجب!

فهم يقولون (تبعاً لعبارة الشافعي، وإن أخطؤوا في تطبيقها) بأن الأصل في الأوامر الوجوب، إلا بقرينة فنعدل إلى الاستحباب. لكن الشافعي وغيره يقولون بأن الإجماع على أن نصاً ما هو على الاستحباب إنما هو قرينةً كافيةً للعدول عن الوجوب إلى الاستحباب. وكذلك الإجماع يصرف النواهي إلى الكراهة، وهذا لا خلاف به بين فقهاء المذاهب. وهنا خطأ الظاهرية في التطبيق. وكل من قال قولاً مخالفاً للإجماع كان هذا القول شاذاً. والإمام أحمد بعيد عن هذا. كيف وهو القائل: لا تتكلم في مسألةٍ ليس لك بها إمام؟! ومن نسب إليه غير هذا فقد غلط عليه. ثم إنه من المحال على الأمة أن تجمع على الباطل. فمن زعم أن الإجماع قد يعارض الكتاب والسنة كان واهماً. فكيف يجتمع علماء الإسلام من لدن النبوة إلى آخر القرون المفضّلة، كلهم على نفس الخطأ، ولا يبعث الله لهم أحداً يبيّن لهم خطأهم؟ هذا سوء ظنٍّ بعلماء هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.
 

قال الإمام الشافعي: «فهذا يدل على أنه كان للنبي r خاصة. فكانت حجتنا عليه أن هذا إذا ثبت عن رسول الله r، فهو عام إلا بدلالة. لأنه لا يكون شيء من فعله خاصاً، حتى تأتينا الدلالة من كتاب أو سنة أو إجماع أنه خاص. وإلا اكتفينا بالحديث عن النبي r عمن بعده، كما قلنا فيما قبله». فانظر رعاك ربي : "من كتاب أو سنة أو إجماع". فالإجماع يخصص النص. أو بالأصح: الإجماع فيه دلالة على صحة التخصيص، أو صحة صرف الوجوب إلى الندب، ونحو ذلك من المسائل الأصولية.

وللإنصاف، فقد شط كثير من الفقهاء من المذاهب الأربعة في إبطال ما أجمع عليه الصحابة بحجة حدوث خلاف بعدهم، كما هي الحال في إجماع الصحابة على تكفير تارك الصلاة. والصواب أنه لا تقدح في  إجماع الصحابة مخالفة من بعدهم لو خالفوهم. وما كان مباحاً في وقت ما بعد موت النبي r، فهو مباح أبداً. وما كان حراماً في وقت ما، فلا يجوز بعده أن يحل أبداً. وإن كان إجماع العصر المتأخر على ما صح فيه اختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، فهذا باطل! ولا يجوز أن يجتمع إجماع واختلاف في مسألة واحدة، لأنهما ضدان لا يجتمعان معاً. وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، فلا يجوز أن يَحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يُمنَعوا من الاجتهاد الذي أدى بهم إلى الاختلاف في تلك المسألة، ما لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة، فهو أحق أن يتبع. ولا يجوز التذرع بالخلاف إن جاء النص. ويستثنى من هذا الخلاف إن كان حادثاً، ثم رجع الصحابة عنه وأجمعوا على خلافه. كما أن ابن عباس رضي الله عنه قد رجع عن إباحة المتعة. فإن الصحابة قد ينتهي بهم الأمر أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه، كمثل إجماعهم على تولية أبي بكر. وليس هذا معناه أن ثمة شيء كان حلالاً يوماً ما، وقد أصبح حراماً، أو العكس.

قال ابن القيم: ودع الظاهرية البحتة، فإنهما تقسي القلوب، وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والمصالح والعدل والرحمة.

هل يعتبر بخلاف الظاهرية؟
قال الشوكاني في إرشاد الفحول (1|148): «قال النووي في باب السواك من شرح مسلم: "إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون". وقال صاحب "المفهم": "جلّ الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم. بل هم من جملة العوام. وإن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع، والحق خلافه"». ولم أجد قول النووي بهذا اللفظ، لكنه قال قريباً من ذلك في المجموع (9|230): «فكأنهم لم يعتدوا بخلاف داود. وقد سبق أن الأصح أنه لا يعتد بخلافه، ولا بخلاف غيره من أهل الظاهر، لأنهم نفوا القياس، وشرط المجتهد أن يكون عارفاً بالقياس». ومنهم ابن سريج الشافعي. ومنهم أبو العباس القرطبي وتلميذه أبو عبد الله. و قد نقل الزركشي في البحر المحيط جملة من أقوالهم في عدم الاعتداد ونسبه إلى الجمهور. ومنهم أبو بكر بن العربي المالكي إذ يقول في بعض كتبه: «وقد حكي في هذه المسألة الإجماع خلافاً لبعض الحمير»، يعني بذلك الظاهرية، بما فيهم أباه (الذي هو فقيه ظاهري من تلاميذ ابن حزم). نعوذ بالله من العقوق.

وكل هؤلاء أو أكثرهم قد نصوا على أن عدم الاعتداد هو قول الجمهور. والسبب بنوه على اشتراط معرفة المقاييس للمجتهد، كما أمر عمر القضاة بمعرفتها. ومن شروط المجتهد المتفق عليها بينهم، هو معرفة القياس. قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: «قال الجمهور: "إنهم –يعني نفاة القياس– لا يبلغون رتبة الاجتهاد ولا يجوز تقليدهم القضاء"». وقال أبو المعالي الجويني: «الذي ذهب إليه أهل التحقيق: أن منكري القياس لا يُعَدّون من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة. لأنهم معاندون مباهتون فيما ثبت استفاضةً وتواتراً. لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها. وهؤلاء ملتحقون بالعوام».

واعترض الذهبي سير أعلام النبلاء (13|105): «بأن داود كان يَقرئ مذهبه ويناظر عليه ويفتي به في مثل بغداد وكثرة الأئمة بها وبغيرها. فلم نرهم قاموا عليه ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه، ولا سعوا في منعه من بثه». ويجاب عليه بما قاله قال الإمام السلفي ابن أبي حاتم عن دواد الظاهري (كما في لسان الميزان 3|407): «وألّف كتباً شذ فيها عن السلف. وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها. وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده، إلا أن رأيه أضعف الأراء، وأبعدها عن طريق الفقه، وأكثرها شذوذاً». فقد نقل عن أكثر أهل العلم عدم الاعتداد برأي داود.

ثم نقل الذهبي عن ابن الصلاح أن الأئمة «لولا اعتدادهم به، لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة». والجواب على هذا أنهم نقلوا خلافهم كما ينقلون خلاف الشيعة والخوارج والمعتزلة (كالأصم وابن علية) للتعجب، لا للاعتداد بهذا النقل. بل كثيراً ما ينقلون عن الظاهرية ويقولون بأنه مخالف للإجماع، أي أنهم لا ينقضون الإجماع بخلاف الظاهرية. فكأن ذكرهم لأقوال الظاهرية هو للتنبيه على شذوذها، وليس للاعتداد بها. فمن ذلك ما قاله ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (1|169): «وانعقد الإجماع على وجوب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل. وما خالف في ذلك إلا داود. ولا يعبئ به، فإنه لولا الخلاف ما عُرِف». وتكلم عليهم أيضاً ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" فقال: «ويحكى في هذه المسألة الإجماع، خلافاً للظاهرية فإنهم قد تعودوا على خرق الإجماعات».

قال الذهبي: «لا ريب أن كل مسالة انفرد بها (داود) وقُطِعَ ببطلان قوله فيها، فإنها هدر. وإنما نحكيها للتعجب. وكل مسالة له، عضدها نصٌّ، وسبقه إليها صاحب أو تابع، فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر». وهذا قولٌ في غاية الإنصاف. فيجب أن يحصر الخلاف في الإجماعات التي لم تنعقد قبل وجود الظاهرية. فما كان إجماعاً قبل وجود الظاهرية فهو إجماع، وإن خالفوا فيه من بعد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (5|178): «وكذلك أهل الظاهر: كل قول انفردوا به عن سائر الأمة، فهو خطأ. وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب، فقد قاله غيرهم من السلف». وهذه فائدة عظيمة. ويشبهه ما قاله تلميذه ابن عبد الهادي (ت744هـ): «أبو محمد بن حزم من بحور العلوم. له اختيارات كثيرة حسنة، وافق فيها غيره من الأئمة. وله اختيارات انفرد بها في الأصول والفروع. وجميع ما انفرد به خطأ. وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه، وعلى أحوال الرواة».

قال ابن الصلاح: «وأرى أن يعتبر قوله، إلا فيما خالف فيه: القياس الجلي وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها. فاتفاق من سواه: إجماعٌ منعقد. كقوله في التغوط في الماء الراكد، وتلك المسائل الشنيعة، وقوله "لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها". فخلافه في هذا أو تلك غير معتد به، لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه». وحجته أن كثيراً من أبواب الفقه تعتمد على القياس. ولذلك لا يعتبر الظاهرية في هذه الأبواب من أهل الفقه. ولا تظن أنهم من أهل الحديث أيضاً. فها هم أهل الحديث ينتمون للمذاهب الفقهية المعروفة: ابن معين حنفي، وأبو داود حنبلي، والنسائي والدراقطني وابن خزيمة شافعية، عدا من كان إماماً مجتهداً في نفسه كأحمد والبخاري والثوري وابن المبارك. وقد أشار الحافظ ابن رجب إلى التفريق بين الظاهرية وبين أهل الحديث. وبينهما فرق شاسع ولله الحمد. وأما الأبواب التي تعتمد على الأثر لا على القياس، فبأي حجة يتم إخراج الظاهرية من هذا الباب وعدم اعتبار خلافهم؟ فلا بد من تقييد عد الاعتداد بقول الظاهرية، بالأبواب التي تعتمد على القياس فحسب.

وصار من الصعب اليوم اعتماد مذهب الظاهرية إلا تقليداً لابن حزم. فأين كتب الظاهرية المطبوعة التي ينصح بقراءتها عدا كتب ابن حزم؟ وأين علماء الظاهرية؟ أهو العبدري المجسّم البذيء اللسان المتطاول على الأئمة الأبرار بالشتائم والسباب؟ أم ابن طاهر الإباحي، صاحب فتوى النظر إلى المردان بشهوة؟! أما كتب داود وابنه وأمثالهم فلم تصل إلينا. لكن الكثير من العلماء تأثر بـ"الفكر الظاهري"، وليس: "المذهب الظاهري". لأنَّ المذهب يقتضي شيخاً وأتباعاً، وهم ينكرون نسبتهم لابن حزم. لكنهم تأثروا كثيراً بأفكاره ونهجه، ومع ذلك لم يصل التأثر بهم إلى إنكار القياس كلية. وكثيراً ما يسمي هؤلاء أنفسهم بالمحققين، وهم أقرب لأن يكونوا شوكانيين. ومعلوم أن الشوكاني يصرح بأنه ظاهري رغم أنه لا ينكر القياس بالمرة. بل تجده يقول: «فمذهب الظاهر هو أول الفكر آخر العمل عند من مُنِحَ الإنصاف، ولم يَرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها. وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل مذهب أكابر العلماء (!!) المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن. وداود واحد منهم!».