اختلاف المناهج في الحكم على الرجال

 

قال الترمذي في "العلل": «وقد اختلف الأئمة في تضعيف الرجال كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم».

 

كان ابن حِبَّان مُتساهلاً في التعديل، ومتشدداً في الجرح! وكان يوثِّق المجهولين من القدماء الذين ذكرهم البخاري في "تاريخه"، وإن لم يعرف ما روى و عمن روى و من روى عنه. و لكن ابن حبان يشدد، و ربما تعنت فيمن وجد ما استنكره، و إن كان الرجل معروفاً مكثراً. وقد نقل ابن حجر في الميزان (1\14) عن ابن حبان ما يثبت عن نفسه هذا المنهج. ثم انتقده ابن حجر بقوة وبخاصة نظريته في تعديل المجاهيل برواية الثقات عنهم. وابن حبان قد يتساهل في إدراج الراوي المجهول في كتاب "الثقات". ولعله يقصد مجرد العدالة. ولكنه -بالاستقراء- لا يطلق كلمة ثقة إلا على من هو جدير بها كما يظهر. فتوثيقه معتبر إن كان صريحاً. وهو متعنت في الجرح كما تجده في كتابه "المجروحين". وكثيراً من الناس يخطئ فيقول وثقه ابن حبان، مع أن ابن حبان ذكره في كتابه الثقات ولم يوثقه. وقد ظهر لك الفرق الشاسع بين الاثنين. ولكن هذا الخطأ شاع كثيراً حتى صار هو الأصل.

 

أما العجلي فمنهجه مطابق لمنهج ابن حبان في توثيق المجاهيل. و كذلك محمد بن سعد (خاصة مع المدنيين)، وإلى حد ما النسائي وأبو نعيم والبزّار وابن جرير الطبري (خاصة في كتابه "تهذيب الآثار") و آخرون، يوثِّقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابعٌ أو مشاهد، و إن لم يرو عنه إلا واحد و لم يبلغه عنه إلا حديث واحد.

 

وألحق السخاوي: الدارقطني والبزار في توثيق المجهول إذا روى عنه اثنان، كما يفعل ابن خزيمة وابن حبان. أما البزار، فقد عرف تساهله. وأما الدارقطني فقد وجدته كذلك: يوثق أحياناً تابعين مجاهيل قليلي الحديث لم يوثقهم أحدُ قبله. وقليل الحديث إن كان من قدماء التابعين، فهو -إن لم يكن فيه توثيق- بالنسبة للدارقطني بمثابة المجهول أو شبه المجهول. ولذلك اعتبره الذهبي من المتساهلين في بعض أحيانه. قال الذهبي في "الموقظة": «والمتساهلُ كالترمذيِّ، والحاكم، والدارقطنيِّ في بعض الأوقات». وعلى التفصيل: فإنه معتدل مع كثير الحديث، متساهل مع قليل الحديث.
 

يقول المعلمي في "التنكيل": «ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله. فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثاً واحداً، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه. ومنهم من يجاوز ذلك! فابن حبان قد يذكر في "الثقات" من يجد البخاري سماه في "تاريخه" من القدماء، وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه (قال الألباني: يؤيد ذلك أنني رأيته قال في بعض المترجمين عنده : "لا أعرفه، ولا أعرف أباه"! وعلى مثل هذا التوثيق أقام كتابه "الصحيح" المعروف به). ولكن ابن حبان يشدد -وربما تعنت- فيمن وجد في روايته ما يستنكره، وإن كان الرجل معروفاً مكثراً. والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد.
وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما، يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو مشاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد. فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب: الأسقع بن الأسلع، والحكم بن عبد الله البلوي، ووهب بن جابر الخيواني، وآخرون. وممن وثقه النسائي: رافع بن إسحاق، وزهير بن القمر، وسعد بن سمرة، وآخرون. وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً، ولا يُعرف الأسود وحنظلة إلا في تلك الرواية. فوثقهما ابن معين! وروى همام عن قتادة بن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً، ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية. فوثقها ابن معين! مع أن الحديث غريب، وله علل أخرى. راجع سنن البيهقي (3|248).
ومن الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر، حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي. وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي...».

 

قال المعلمي (1|67): «وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغدادَ شيخٌ فسمع منه مجلساً، فرأى تلك الأحاديث مستقيمة، ثم سُئِلَ عن الشيخ وثَّقه! وقد يتفق أن يكون الشيخ دجَّالاً استقبل ابنَ معين بأحاديث صحيحة، ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك. ذكر ابن الجنيد أنه سأل ابنَ معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال: "ما كان به بأس" (وهو توثيق باصطلاحه). فحكى له أحاديث تُستنكر، فقال ابن معين: "فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذَّاب، وإلا فإني رأيتُ حديث الشيخ مستقيماً". وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: "ثقة وقد كتبت عنه". وقد كذّبه أحمد وقال: "أحاديثه موضوعة". وقال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة"». قلت: والأسدي هذا كذبه أحمد وأبو داود والدارقطني، وضعفه علماء الحديث كلهم إلا العِجلي! ويظهر أن ابن معين قد اكتفى بسماع أحاديث قليلة عن القاسمي، ومن المحتمل أن القاسمي لم يحدثه بمنكراته عن عمد. وهذا كله من أسباب الاختلاف الكبير الذي نجده أحياناً في أحكام ابن معين على الرجال.

 

وقال المعلمي: «فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيماً، ولو كان حديثاً واحداً لم يَروِه عن ذاك المجهول إلا واحد. قإن شئت فاجعل هذا رأياً لأولئك الأئمة كابن معين. وإن شئت فاجعله اصطلاحاً في كلمة "ثقة" كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثق من حديث الراوي، لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة». وضرب أمثلة كثيرة ثم قال (1|69): «ابن معين كان ربما يطلق كلمة "ثقة"، لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب».
 

أما أغلب علماء الحديث فلا يوثقون -في العادة- أحداً حتى يطلعون على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، و تكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملَكةً لذلك الراوي. ولذلك تجد البخاري دقيقٌ جداً في أحكامه، وإلا سكت عن الرجل. فإذا جاءك الحكم من البخاري بالتوثيق أو التضعيف فحسبُكَ به. وكذلك كان أبو حاتم شديدٌ في نخل الروايات. فإن لم يجتمع له عدد كافٍ لإصدار حكم على الراوي فإنه قد يسميه شيخاً أو يسكت عنه عادةً. وليس معنى ذلك أنهم لا يوثقون من كان قليل الحديث، لكن المقصود أنهم يحاولون استيعاب ما استطاعوا جمعه من حديثه قبل الحكم عليه.

 

فالمنهج قد يختلف كما شاهدنا عند كثير من العلماء بحسب إكثار الراوي أو إقلاله. وقد يتغير الحكم بحسب مذهبه. فتجد تشدداً عند الحنبلي والشافعي في أحكامه على الأحناف. وانظر ترجمة أبي حنيفة في "تاريخ بغداد" للخطيب أو عند "كامل" ابن عدي، حيث حاول تضعيف أبي حنيفة معتمداً على ما رواه عنه أباء بن جعفر النَّجيرمي الكذاب (قال عنه ابن حبان: فرأيته قد وضع على أبي حنيفة أكثر من 300 حديث).

 

وقد تجد تعنتاً من الحافظ الجُوزجاني الدمشقي في من اتهم بالتشيع، بخاصة من الكوفيين. وبالمقابل نجد الحافظ عبد الرحمن بن يوسف بن خراش (283هـ) (وهو رافضيٌّ من غلاة الشيعة)، يتعنت في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد. كما قد تجد تساهلاً لإبن سعد (صاحب الطبقات وكاتب الواقدي) مع مجاهيل المدنيين مع تشدد مع غيرهم، خاصة أهل العراق. وأغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في "مقدمة الفتح" عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح.

 

ومن أمثال ذلك تعصب الخطيب البغدادي (436هـ) صاحب "تاريخ بغداد" على الأحناف والحنابلة. قال الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي (ت909هـ) في "تنوير الصحيفة": «لا تَغتَرّ بكلام الخطيب، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعةٍ من العلماء كأبي حنيفة وأحمد وبعضِ أصحابه. وتحاملَ عليهم بكل وجه. وصنَّف فيه بعضُهم "السهم المصيب في كَبِد الخطيب"». ونقل العيني الحنفي في "البناية" (1\628) عن ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «والخطيبُ لا ينبغي أن يُقبَل جرحُه ولا تعديلُه، لأن قولَه ونقلَه يدل على قِلَّةِ دين».

 

أما ابن الجوزي (597هـ) فقد كان كثير الأوهام، لذلك وجب ترك ما تفرد به من جرح الثقات. وقد عجِبَ سبطُ ابن الجوزي من جده إذ تابع الخطيب البغدادي، فقال في "مرآة الزمان": «وليس العجَبُ من الخطيب، فإنه طعن في جماعة من العلماء. وإنما العجبُ من الجدِّ كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم!». ولكن السبط هذا جاء بما هو أعظم من جده إذ كان رافضياً، جازاه الله بما يستحق.

 

يقول الشيخ حسان عبد المنان في كتابه "حوار مع الشيخ الألباني" (ص159): «إن ما يجبُ أن يُعلَمَ أولاً أنَّ التصحيح والتضعيف في الحديث أمرٌ اجتهادي. وليس يقومُ في الغالب إلا على التصوُّر وسَبْرِ الطرقِ وسبر أحاديث الراوي. فقد يكون الراوي عند أحمد وأبي حاتم مثلاً مجروحاً، ولا يوافقُه فيه يحيى بن معين والبخاري وغيرُهما. على أن السَّبرَ في مثلِ هذه الأحاديث قد يكونُ عندهم جميعاً، ولكن المقاييس تختلف، والمناهج الأصولية عندهم أحياناً لا تنطبق. بل قد يخرج عن ذلك كله إلى قناعةِ الإمام المحدِّث بضعف أو بتصحيح، دون إبداء بينة واضحة. والأمثلة كثيرة على هذا».

 

وبشكل عام فإن تمييز الرواة الثقات من الضعفاء يتم بإحدى ثلاث طرق (على الأقل):

  1. معاصرة الراوي ومشاهدة أحواله واختبار حفظه وسؤال الناس عنه. وواضح أن هذا لا يصلح إلا مع الإدراك والمعاصرة.

  2. سبر حديثه ومقارنته مع أحاديث الثقات. وغالب أحكام الرواة مبنية على السبر.

  3. الموازنة بين أقوال العلماء في الراوي. وهذا هو عمل المتأخرين كالذهبي وابن حجر وغيرهما. ولكن أن تقول أن هذا تلخيص لحال الراوي، ليس فيه حكم جديد عليه. والمقصود أن من اتفق المتقدمون على تضعيفه، لا يجوز للمتأخر توثيقه. وكذلك من اتفق المتقدمون على توثيقه، لا يجوز للمتأخر تضعيفه. اللهم إلا إذا كان التوثيق غير معتبر (كتوثيق ابن حبان) فيمكن أن يطلق المتأخر حكم الجهالة، كما يفعل ابن القطان. فالقاعدة العامة أنه لا عِبرة بما تفرد به متأخر من حكم. كأمثال ابن حزم الأندلسي (456هـ)، وابن عبد البر (341هـ)، فمن بعدهم، إلا عندما يعتمد على الاستقراء وهو نادر بينهم.