لقد اتهم ابن حجر الحافظ
أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الخراساني الجوزجاني (شيخ النَّسائي) بأنه غالٍ في النصب. وأنا
أقول: ليس كل من اتهموه بتهمة تثبت عليه. فالجرح لا يُقبل –مع التعديل– إلا
إذا كان مُفَسَّراً. فأين دليله على نصبه؟ وابن حجر لم يجد على كلامه دليلاً سوى
تعنت الجوزجاني –بنظر ابن حجر– على الكوفيين. قلت: وهذا لا يعني النصب كما لا
يخفى على أحد. ولإثبات أنه ناصبي فلا بد من إثبات أنه يناصب علياً
t
وأهل البيت العداء. أي لا بد أن تجد له قولاً يطعن بعلي
t.
وإلا فالأمر مجرد عداوة شخصية بينه وبين الكوفيين (على فرض صحة كلام ابن حجر).
وقد طالعت ترجمته في "تهذيب الكمال" فلم أر إلا ثناءً عليه. قال الحافظ المزي في
ترجمة الجوزجاني في تهذيب الكمال (2\248): قال أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون
الخلال: «إبراهيم بن يعقوب (الجوزجاني): جليلٌ جداً. كان أحمد بن حنبل يُكاتبه
ويُكرمه إكراماً شديداً. وقد حدثنا عنه الشيوخ المتقدمون. وعنده عن أبي عبد الله
(يعني أحمد بن حنبل) جزءان مسائل». وقال النسائي (متشدد يقال فيه تشيع): «ثقة».
وقال الدارقطني: «أقام بمكة مدة، وبالبصرة مدة، وبالرملة مدة. وكان من الحفاظ
المصنفين، والمخرجين الثقات». وقال أبو أحمد بن عدي: «كان يسكن دمشق يحدث على
المنبر. ومكاتبه أحمد بن حنبل، فيتقوى بكتابه، ويقرأه على المنبر». اهـ. ولم يذكر
الحافظ المزي فيه أي جرح. قلت: فهذا النسائي –تلميذ الجوزجاني– أعرف الناس به.
وقد وثّقه بإطلاق رغم ما يقال عن تشيعه (أي تشيع النسائي)، ورغم
ما قيل عن تشدده في
التوثيق، ورغم عدائه الشديد للنواصب، لدرجة تسببت بقتله. ولو كان الجوزجاني
ناصبياً لما وثقه النسائي بإطلاق، أو على الأقل لنبّه الناس على نصبه.
ثم نرى ابن العماد الحنبلي في"شذرات الذهب" (1\139) يقول: «الإمام إبراهيم بن
يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني صاحب التصانيف. كان من كبار العلماء، وجرّح وعدّل، وهو
من الثقات». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11\31): «إبراهيم بن يعقوب بن
إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني: خطيب دمشق وإمامها وعالمها. وله المصنفات المشهور
المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة». وقال نحو ذلك الذهبي في
"العبر في خبر من غبر" (2\24). وكيف يكون الجوزجاني ناصبياً مع إقرار العلماء أنه
إمام من أئمة الحديث؟ ولماذا لا نجد أحداً نبذه بالنصب إلا بعض المتأخرين ممن
لبعضهم ميولاً شيعية؟
وعلى فرض أنه ناصبي كما يزعمون، فعندما يجرح الشيعيَّ الثقة، يقول عنه زائغ أو
مخذول أو مذموم أو مائل عن الحق، ولا يتهمه بضعف الحفظ. بل هو يحتج بحديثه في غير
بدعته. وعلى سبيل المثال فإن الجوزجاني وثّق "حبة بن جوين" الشيعي مطلَقاً، رغم
أن الجمهور ضعفه. وقد قال عنه ابن حبان: «كان غالياً في التشيع، واهياً في
الحديث». فلم يمنع غلو "حبة بن جوين" في التشيع، من توثيق الجوزجاني له. وهذا من
إنصافه رحمه الله. وإذا أراد أن يبين انحراف الراوية بيّن ذلك دون أن يرد حديثه
كله. فقد قال مثلاً في إسماعيل بن أبان الوراق: «كان مائلاً عن الحق، ولم يكن
يكذب».
وقد نص الإمام الجوزجاني على هذا المنهج بنفسه، فقال في كتابه "أحوال الرجال"
(ص32): «ومنهم زائِغٌ عن الحقّ، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه: إذ كان
مخذولاً في بدعته، مأموناً في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من
حديثهم ما يُعرف، إذا لم يُقَوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك». وهذا المذهب هو
ما عليه جمهور المحدثين من أهل السنة والجماعة. وقد نقل ابن حجر هذه العبارة
مُقِراً لها في لسان الميزان (1\11).
ولم يجد ابن حجر مثالاً على غلو الجوزجاني في جرح الشيعة إلا مقولته في الأعمش
الكوفي (ثقة فيه تشيع لكنه يدلس عن كذابين). فقد قال الجوزجاني في "أحوال الرجال"
(ص192 - طبعة مؤسسة الرسالة 1405): «حدثني أحمد بن فضالة وإبراهيم بن خالد، عن
مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن زيد، قال: قال الأعمش حين حضرته الوفاة: أستغفر الله
وأتوب إليه من أحاديث وضعناها في عثمان». وهذا إسنادٌ رجاله ثِقات، ولكن حمّاد
بصْري أرسل الخبر ولم يحضر احتضار الاعمش. فيكون حمّاد قد سمع الخبر من رجُلٍ لم
يُسمّه. فلا يصلح هذا جرحاً في الأعمش، ولا يُطعَنُ به في الجُوزجاني. أم بالقوة
يريدون أن يكون الجوزجاني كذاباً لأجل أنه يُظَنّ أنه اتخذ موقفاً سياسياً من
الشيعة؟! ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء إثبات تهمة النصب للجوزجاني، فأين ما يدّعونه؟
وإنما اعتمد ابن حجر على قصة باطلة ذكرها السلمي عن الدارقطني –بعد أن ذكر توثيق
الجوزجاني–: «لكن فيه انحرافٌ عن علي: اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية
له فروجة (أي دجاجة) لتذبحها، فلم تجد من يذبحها. فقال: سبحان الله! فروجة لا
يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوةٍ نيّفاً وعشرين ألف مسلم؟!»، يقصد قتل عليٍّ
لمسلمي الشام في صفّين. أقول: وهذا يُسمى انحرافٌ عن علي، ولا يعني مناصبته
العداء، ولا يعني شتمه أو سبه والعياذ بالله. إنما كان الحافظ الجوزجاني على مذهب
أهل دمشق فى الميل على علي. وبين هذا وبين النصب فرقٌ كبير. وبذلك نفهم قول ابن
حبان في "الثقات" عنه: «كان حريزي المذهب، و لم يكن بداعية». يقصد أنه يشبه حريز
بن عثمان، وهذا الأخير كان ثقةً ثبتاً يترحم على عليٍّ وينكر على من شتمه، إلا
أنه كان يقول: «لا أحبه. قتلت آبائي». ومقولة الحافظ الجوزجاني تصب في نفس
المعنى.
قال العلامة المعلمي في "التنكيل"
في رده على الكوثري: «وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف. وثّقه تلميذه
النسائي جامع "خصائص علي" وقائل تلك الكلمات في
معاوية. ووثقه آخرون. فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في
"الثقات": "كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية. وكان صلبا في السنة... إلا أنه
من صلابته ربما كان يتعدى طوره". وقال ابن عدي: "شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق
في النيل على علي".
وليس في هذا ما يُبيّن درجته في الميل. فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في
"تهذيب التهذيب": "قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف
عن علي. اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة...". فالسلمي هو
محمد بن الحسين النيسابوري، ترجمته في "لسان الميزان" (5|140): تكلموا فيه حتى
رموه بوضع الحديث! والدارقطني إنما وُلِدَ بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين
سنة. وإنما سمع الحكاية –على ما في معجم البلدان "جوزجانان"– من عبد الله بن
أحمد بن عدبس. ولابن عدبس ترجمة في "تاريخ بغداد" (9|384) و "تهذيب تاريخ ابن
عساكر" (7|288) ليس فيها ما يبيّن حاله. فهو مجهول الحال، فلا تقوم بخبره حجة.
وفوق ذلك، فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض. فقد يقولها من يرى أن فعل علي
–عليه السلام– خلاف الأولى، أو أنه اجتهد فأخطأ. وفي "تهذيب التهذيب" (10| 391)
عن ميمون بن مهران قال: "كنت أفضّل علياً على عثمان. فقال عمر بن عبد العزيز
(الخليفة الراشد): أيهما أحب إليك، رجل أسرع في المال، أو رجل أسرع في كذا
–يعني الدماء–. قال: فرجعت وقلت: لا أعود". وهذا بَيِّنٌ في أن عمر بن عبد
العزيز وميمون بن مهران، كانا يريان فعل علي خلاف الأَولى أو خطأ في الاجتهاد.
ولا يعد مثل هذا نصباً، إذ لا يستلزم البغض، بل لا ينافي الحب. وقد كره كثير من
أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين، ورأوا أنه
أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه.
فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة، فخاصٌّ بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون
ممن يظن به ذلك. وليس أبو حنيفة كذلك. ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم
القواعد، النظر في حط الجوزجاني على الشيعة، واتضح أنه لا يجاوز الحد،
وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غض
منهم أو فيهم. وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد. والله
الموفق».
قال الذهبي كما في السير (7\79): «الحافظ العالم المتقن، أبو عثمان الرحبي المشرقي الحمصي. محدث حمص، من بقايا التابعين الصغار». وقال عنه الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل (3\289): «ليس بالشام أثبت من حريز إلا أن يكون بحير». قيل: «صفوان بن عمرو؟». قال: «حريز فوقه. حريز ثقة ثقة». وقال أحمد كما في سير أعلام النبلاء (7\80): «حريز ثقة ثقة ثقة، لم يكن يرى القدر». ولا أعلم الإمام أحمد قد وصف رجلاً بالتوثيق ثلاث مرات إلا حريز. وقال الأمام أحمد أيضاً كما في الكامل (2\451): «صحيح الحديث إلا أنه يحمل على علي».
وقال معاذ بن معاذ كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117): «لا أعلم أني رأيت
أحداً من أهل الشام أفضّله عليه». ووثقه ابن معين كما في سؤالات ابن الجنيد
(#399). وقال علي بن المديني كما في تهذيب التهذيب (1\376): «لم يزل من أدركناه
من أصحابنا يوثّقونه». فقد نقل ابن المديني الإجماع على توثيق حريز والاحتجاج به.
و وثقه كل من ابن شاهين ودُحيم (وهو أعلم الناس بالشاميين) والمفضل بن غسان وقال:
«ثبت».
واتهمه ابن حبان بسب علي سبعين مرة في الصباح
وسبعين مرة في المساء. قال الذهبي في السير (7\81) معلقاً على كلام من اتهمه بسب
علي: «هذا الشيخ أورع من ذلك». وقد استنكر الدكتور بشار عواد (في تحقيقه لتهذيب
الكمال) كلامَ ابن حبان. وذكَر أن السمعاني تبعه في ذلك (أي في أن حريزَ يسب
علياً). وقال الدكتور: «إن هذا الكلام ليس له سند، فلا يُعتبر ولا يعتدّ به».
وقد نفى بنفسه (وهو الثقة الثبت) تهمة سب علي
t.
وجاء في السير (7\80): «ورُوِيَ عن علي بن عياش (وهو من تلاميذ حريز) عن حريز أنه
قال: «أأنا أشتم علياً؟! والله ما شتمته». وصدق رحمه الله. وفي تاريخ ابن معين
رواية الدوري (4\475): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: سمعت علي بن عياش يقول سمعت:
حريز بن عثمان الرحبي يقول لرجل: «ويحك، أما تتقي الله؟ تزعم أني شتمت علياً؟ لا
والله ما شتمت علياً قط». وهذا إسنادٌ صحيحٌ كالشمس. وفي السير (7\80): قال شبابة
سمعت رجلاً قال لحريز بن عثمان: «بلغني أنك لا تترحم على علي؟». قال: «اسكت. رحمه
الله مئة مرة».
وممن نفى عنه هذه التهمة أبو حاتم الرازي، فقال في الجرح والتعديل (3\289): «حريز
بن عثمان حسن الحديث. ولم يصحّ عندي ما يُقال في رأيه. ولا أعلم بالشام أثبت منه.
هو أثبت من صفوان بن عمرو وأبي بكر بن أبي مريم. وهو ثقةٌ مُتقِن». وقوله لم يصح،
أي أنها ضعيفة لم تثبت.
أما القصة التي في تاريخ بغداد (8\278) و تهذيب الكمال (5\578) من طريق عبد
الوهاب بن الضحاك قال حدثنا إسماعيل بن عياش قال سمعت حريز بن عثمان قال: «هذا
الذي يرويه الناس عن النبي
r
قال لعلي "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" حق. ولكن أخطأ السامع. قلت: فما هو؟
فقال: إنما هو "أنت مني مكان قارون من موسى". قلت: عن من ترويه؟ قال: سمعت الوليد
بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر». قال الحافظ أبو بكر الخطيب –ونقلها عنه
المزي في التهذيب–: «عبد الوهاب بن الضحاك كان معروفاً بالكذب في الرواية، فلا
يصح الاحتجاج بقوله».
واتهمه الفلاس بعدم محبة علي. وجاء عن حريز في ذلك أنه قال: «لا أحبه. قتلت
آبائي». وقال كذلك: «لنا إمامُنا، ولكم إماكم». وهذا قد رجع عنه كما سنرى. وقال
العجلي في "معرفة الثقات" (1\291): «ثقةٌ يتحامل على علي». ويقصد بالتحامل
الأقوال السابقة، وهي غير الشتم. قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8\258):
«وحًكِيَ عنه من سوء المذهب وفساد الاعتقاد، ما لم يثبت عليه». فأسانيد ما ذُكِرَ
عنه من انتقاصه ِلعَلي
t
ضعيفة كما قال الخطيب.
وقال ابن ماكولا في الإكمال (2\86): «وجاء عنه بغضه لعلي
t،
وفي ذلك خلافٌ عنه». وتابعه على ذلك الدارقطني كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر
(13\240) فقال: «وفي ذلك اختلافٌ عنه». وسبب الاختلاف أنه رجع عن أقواله التي
فيها تحامل. قال ابن حزم في "الإحكام" (8\506): «حريز بن عثمان ثقة. وقد رُوينا
عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي
t».
وقال أبو اليمان (وهو من تلاميذه) كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117) والكبير
(3\104): «كان حريز يتناول من رجل ثم تركه». ويقصد علياً
t.
قال ابن حجر في "مقدمة الفتح" (1\415): «وهذا أعدل الأقوال فيه».
وإن قيل كيف يقول أبو اليمان أنه كان يتناول رجلاً ثم تركه، وقد نفى ذلك عن نفسه؟
فيقال أن ما يقصده أبو اليمان مثل قوله: "لنا أمامنا ولكم أمامكم" و "قتل آبائي"
وغيرها. وحتى هذه تركها، ورجع عنها. أما السب فلا. والله أعلم. وقد أخرج البخاري
لحريز حديثين وأصحاب السنن أخرجوا له. وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه بما لا يوجب
الرد (#84). وهو ثقةٌ ثبتٌ حجة باتفاقهم.