القراءة خلف الإمام

اختلف العلماء في القراءة خلف الإمام. فيرى بعض الكوفيين (منهم أبو حنيفة) إلى استحباب سكوت المؤتم سواء في صلاة الجهر أو السر، لكنهم لا يبطلون الصلاة بالقراءة. وقد نقل الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: «أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرءون، إلا قوماً من الكوفيين». ويرى بعض العلماء مثل الشافعي في الجديد وابن حزم أن قراءة الفاتحة واجبة سواء في صلاة الجهر أو السر، وهو قول شاذ مخالف للإجماع لأن من كان قبلهم على هذا المذهب كالأوزاعي ومكحول يرون الاستحباب وليس الوجوب. ويرى جمهور العلماء أن ينصت المؤتم لقراءة الإمام في صلاة الجهر، وأن يقرأ الفاتحة في صلاة السر. وهو مذهب مالك وأحمد ومحمد بن الحسن والشافعي في القديم، وبذلك قال جمهور الصحابة والتابعين. قال الترمذي: «واختار أكثر أصحاب الحديث أن لا يقرأ الرجل إذا جهر الإمام بالقراءة».

وحجة الجمهور هو قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف. وقد نقل الإمام أحمد (في رواية أبي داود) إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة (ولا يمنع هذا أن تشمل كذلك خطبة الجمعة)، ولم يخصصها شيء. فيكون معناها: وإذا قرأ الإمام القرآن جهراً فاستمعوا له وأنصتوا. والشافعية والظاهرية استثنوا من هذا سورة الفاتحة، كما سيأتي تفصيله. والمسألة فيها خلاف طويل، وقد ألف الناس فيها كتباً كثيرة، مع أن الأمر هين كما ستراه، على أني سأقتصر على أهم الأدلة للتخفيف.

أهم الأحاديث المرفوعة:

هذا لا يحمل إلا على قراءة السر. فإن جهر الرجل كان ذريعة لعلمه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مورد سؤاله عليه الصلاة والسلام، ولم يكن سؤاله عليه الصلاة والسلام إلا عن القراءة. وشيء آخر أنه روي أن القائل هو أبو هريرة نفسه، وأن الزهري أعاد قوله لمن لم يسمعه، فهو لا يناقض مذهب أبي هريرة. فقول أبي هريرة (في رواية أخرى): "اقرأ بها في نفسك يا فارسي"، أي اقرأ بها في السرية. قال شيخ الإسلام: «وقوله: "اقرأ بها في نفسك". مجمل. فإن أراد ما أراد غيره من القراءة في حال المخافتة أو سكوت الإمام، لم يكن ذلك مخالفاً لقول أولئك. يؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" وروى قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وما زاد. وقال: "تجزئ فاتحة الكتاب، وإذا زاد فهو خير". ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الإمام، فإن هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيراً له، بل الاستماع والإنصات خيراً له. فلا يجزم حينئذ بأنه أمره أن يقرأ حال استماعه لقراءة الإمام بلفظ مجمل». والثابت عن أبي هريرة قوله: «اقرأ خلف الإمام فيما يخافت به». فدل على أن مذهبه موافق للجمهور والحمد لله رب العالمين.

قال شيخ الإسلام تعليقاً على قول الزهري: «إن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله r. وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي r، ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان. فجزم الزهري بهذا، من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعدما كانوا يفعلونه. وهذا يؤيد ما تقدم ذكره ويوافق قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" ولم يستثن فاتحة ولا غيرها».

 

ورواه الحفاظ عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً. ورجح الدارقطني في العلل (9|65) هذه الرواية. وأخرجه أبو يعلى (5|87) من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس. وهذا ضعفه البخاري في التاريخ (1|207) وبين أبو حاتم في العلل (1|175) أنه وهم من عبيد. وكذلك ابن معين وأبو زرعة الدمشقي وابن عدي والدارقطني والبيهقي. أيوب وخالد ثقتان، لكن الثاني تغير حفظه بعدما قدم من الشام، والأول أحفظ منه، وهو الذي عهد إليه أبو قلابة بكتبه عندما مات. لكن روى أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2|418) والبخاري في التاريخ (1|207) عن إسماعيل بن علية قال: قال خالد لأبي قلابة: من حدثك هذا الحديث؟ قال: «محمد بن أبي عائشة مولى لبني أمية، كان خرج مع آل مروان حيث أخرجوا من المدينة». قلت: نستنتج من هذا أن أبا قلابة كان يحدث بهذا الحديث مرسلاً فقط. فلما سأله خالد عمّن حدثه بهذا الحديث، أخبره بأنه محمد بن أبي عائشة، ولم يخبره ممن سمع ذلك محمد. فقدّر ذلك أنه سمعه من صحابي فروى ذلك على تلك الهيئة، وأبهم الصحابي لأنه تقدير فحسب. ولو صحت تلك الرواية لأخرجها البخاري في صحيحه، أو على الأقل علقها بصيغة الجزم. وهو الحريص على نصرة مذهبه في القراءة خلف الإمام، والرد على الأحناف. كيف لا وقد كتب كتاباً كاملاً عن هذا الموضوع؟ على أنه يمكن القول أن البخاري علم أن الرواية ليس فيها دلالة على القراءة خلف الإمام (كما أوضح ابن عبد البر) فتركها. وقد اختلف فيه عن خالد أيضاً فرواه بعض الرواة عنه مرسلاً مثل أيوب (راجع رواية هشيم عند ابن أبي شيبة)، ورجح هذا الدارقطني في المجلد الرابع (37- أ) قال والمرسل أصح.

قال ابن عبد البر: «وأما حديث محمد بن عائشة، فإنما فيه إلا أن يقرأ أحدكم بأم القرآن في نفسه. ومعلوم أن القراءة في النفس ما لم يحرك بها اللسان، فليست بقراءة. وإنما هي حديث النفس بالذكر. وحديث النفس متجاوز عنه، لأنه ليس بعمل يؤاخذ عليه فيما نهى أن يعمله أو يؤدى عنه فرضا فيما أمر بعمله. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: إن كانت قراءة الإمام بغير أم القرآن قراءة لمن خلفه، فينبغي أن تكون أم القرآن كذلك. وإن كانت لا تكون قراءة لمن خلفه، فقد نقصَ من خلف الإمام عما سنّ من القراءة للمصلين، وحُرِمَ من ثواب القراءة بغير أم الكتاب، ما لا يعلم مبلغه إلا الله عز وجل». والاستثناء في قوله "لا تفعلوا إلا بأم القرآن" أقصى ما يفيد إباحة القراءة لا وجوبها لأنه استثناء من النهي لا أمرٌ بالفعل.

 

1- رواه محمد بن إسحاق (جيد) عن مكحول مرسلاً عن محمود بن الربيع (صحابي) عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. وهذا منقطع، ومراسيل مكحول ضعيفة.

2- ورواه الوليد بن مسلم (من أحفظ الشاميين) عن مكحول عن محمود بن الربيع عن أبي نعيم عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. وهذا غلط كما بين الدارقطني والبيهقي.

3- ورواه زيد بن واقد (من كبار أصحاب مكحول) عن مكحول وحرام بن حكيم عن نافع بن محمود بن الربيع (مجهول كما في التمهيد11|46) عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. نافع ليس له إلا هذا الحديث وقد أخطأ به، وقد بحثنا حاله بالتفصيل فراجعه.

4- ورواه محمد بن الوليد الزبيدي (ثبت) والنعمان بن المنذر عن مكحول مرسلاً عن عبادة بن الصامت مرفوعاً. وهذا ظاهر الانقطاع.

5- ورواه محمد بن راشد المكحولي عن مكحول به مقطوعاً عليه.

6- ورواه رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت به موقوفاً عليه.

7- وروى قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فقط: الزهريُّ عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً.

فالواضح أن مكحول قد اضطرب كثيراً في هذا الحديث ولم يحفظه، وليس هو ممن يقبل تعدد الأسانيد. وقد خالفه رجاء (وهو أحفظ منه باعترافه، وممن يروي باللفظ لا بالمعنى) فرواه موقوفاً على عبادة. كما خالفه جبل الحفظ الزهري فلم يذكر تلك القصة. واقتصر البخاري ومسلم على رواية الزهري، وليس فيها ذكرٌ لكون ذلك خلف الإمام. وبهذه العلل ضعفه عدد من المتقدمين مثل أحمد بن حنبل (في رواية الأثرم) والترمذي (في سننه) وابن معين (كما في إعلاء السنن 4|112) والطحاوي (كما في أحكام القرآن 1|251). قال الترمذي عقب إخراجه الحديث: «وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي r قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا أصح». قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23|286): «وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة. وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبين أن الحديث الصحيح قول النبي r: "لا صلاة إلا بأم القرآن"، فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة. وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين (يقصد مكحولاً)، وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا، فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة».

 

آثار الصحابة الصحيحة المؤيدة لمذهب الجمهور:

أخرج مسلم في صحيحه (#903) عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: «لا قراءة مع الإمام في شيء». قال شيخ الإسلام: «ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة. فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة، لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء».

أخرج مالك في موطأه –ومن طريقه الترمذي، وصححه– عن وهب بن كيسان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول: «من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا أن يكون وراء الإمام». قال ابن تيمية: «وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة».

أخرج عبد الرزاق (2|138) وابن أبي شيبة (1|376) عن منصور عن أبي وائل (شقيق بن سلمة) قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، أقرأ خلف الإمام؟ قال: «أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلاً، ويكفيك ذاك الإمام». قال ابن تيمية: «فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام، لأجل الإنصات والاشتغال به، لم ينهه إذا لم يكن مستمعاً كما في صلاة السر وحال السكتات. فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء. وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين».

أخرج ابن أبي شيبة (1|373) عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن أبي رافع أن: «علياً كان يقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في كل ركعة بأم القرآن وسورة». قلت: ذكر صلاتي السر ولم يذكر باقي الصلوات مما يدل على أنه لم يكن يقرأ فيهن.

أخرج ابن أبي شيبة (1|373) عن أبي بشر (جعفر بن إياس اليشكري، وسماعه من مجاهد صحيفة) عن مجاهد قال: «سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم».

أخرج ابن أبي شيبة (1|373) عن وكيع عن سفيان عن ابن ذكوان (سهيل، جيد) عن أبي صالح (ذكوان، أبو سهيل) عن أبي هريرة وعائشة قالا: «اقرأ خلف الإمام فيما يخافت به».

أخرج عبد الرزاق (2|139) عن ابن جريج ثنا ابن شهاب عن سالم أن ابن عمر كان يقول: «ينصت للإمام فيما يجهر به في الصلاة، ولا يقرأ معه». وأخرج عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر أقرأ مع الإمام؟ فقال: «إنك لضخم البطن، تكفيك قراءة الإمام».

وأخرج مالك في موطأه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ قال: «إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ». قال ابن تيمية: «وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها. ولو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان هذا من العلم العام الذي بيَّنه النبي r بياناً عاماً. ولو بين ذلك لهم، لكانوا يعملون به عملاً عاماً، ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر حتى يتركه مع كونه واجبا عام الوجوب على عامة المصلين قد بين بياناً عاماً، بخلاف ما يكون مستحباً فإن هذا قد يخفى».

روى ابن وهب وابن مهدي وحماد بن خالد عن معاوية بن صالح قال: حدثني أبو الزاهرية قال: حدثني كثير بن مرة الحضرمي، عن أبي الدرداء (فقيه الشام) سمعه يقول: سئل رسول الله (r): أفي كل صلاة قراءة؟ قال: «نعم». قال رجل من الأنصار: «وَجَبَتْ هذه». قال كثير: فالتفت إلي أبو الدرداء وقال: «ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم». وهذا إسناد جيد. وفي الباب قول علي: «من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة»، وفي تصحيحه خلاف.

 

آثار الصحابة الصحيحة التي احتجوا بها على مذهب الجمهور:

أخرج ابن أبي شيبة (1|375) عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن العَيْزار بن حُرَيث العبدي (كوفي) عن ابن عباس قال: «اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب». قلت: قد يكون هذا في صلاة السر.

أخرج ابن أبي شيبة (1|375) عن وكيع عن ابن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع قال: صليت صلاة وإلى جنبي عبادة بن الصامت، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت له: «يا أبا الوليد، ألم أسمعك تقرأ بفاتحة الكتاب؟». قال: «أجل، إنه لا صلاة إلا بها». قلت: وهذا الأثر ليس فيه ذكر صلاة الجهر.

أما الأثر عن عمر فلا يصح لأن جواب التيمي ضعيف تكلم فيه إمام الكوفة ابن نمير. ولو صح لما قال ابن عمر لمن يقرأ خلف الإمام: إنك لضخم البطن! وأما الأثر عن أُبي فهو محمول كذلك على قراءة السر لو صح، ولا يصح: أبو جعفر الرازي ضعيف.
 

نقاش الجمهور للمخالفين

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18|20) بعد ذكر الخلاف بين البخاري ومسلم: «وقد يكون الصواب مع مسلم. وهذا أكثر مثل قوله في حديث أبي موسى: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" فإن هذه الزيادة صححها مسلم وقبله أحمد بن حنبل وغيره وضعفها البخاري. وهذه الزيادة مطابقة للقرآن فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن فإن في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة، وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص (وقد سبقه أحمد بنقل هذا الإجماع). ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها. وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد. وهذا قول جمهور السلف والخلف. وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي. واختاره طائفة من محققي أصحابه. وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة. وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر، فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد. وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور، لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام. وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه، خير من أن يقرأ معه. فعُلِمَ أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام. وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها. وهذا خلاف إذا لم يسمع، فإن كونه تالياً لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيراً من كونه ساكتاً بلا فائدة، بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه. فقراءة يثاب عليها خيراً من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر».

أي احتج ابن تيمية على أبي حنيفة بعدم وجود مسوغ للإنصات في السرية، فالآية ليست حجة لهم. وأن يقرأ في صلاة السر خير له من أن يبقى صامتاً. أما مذهب ابن حزم وبعض الشافعية في إبطال صلاة من لا يقرأ الفاتحة خلف الإمام في صلاة الجهر، فيرد عليهم بأن هذا قول محدث خلاف الإجماع الذي حكاه إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء. قال أحمد بن حنبل (وهو من هو في سعة اطلاعه وتشدده في الإجماع): «ما سمعنا أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ». وقال: «هذا النبي r وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا لرجل صلى خلف الإمام وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر».

وأول من خالف هذا الإ جماع هو ابن المديني (وهو ليس من الفقهاء) ثم لحقه البخاري وبعض الظاهرية مثل ابن خزيمة وابن حزم وبعض غلاة الشافعية المتأخرين. قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري، ما مختصره: «من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة، وإن فاته معه القيام وقراءة الفاتحة. وهذا قول جمهور العلماء، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعاً من العلماء. وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام. هذا مع كثرة اطلاعه وشدة ورعه في العلم وتحريه... وذهبت طائفة إلى أنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام، لأنه فاته مع الإمام القيام وقراءة الفاتحة. وإلى هذا المذهب ذهب البخاري في "كتاب القراءة خلف الإمام"، وذكر فيه عن شيخه علي بن المديني... وقد وافقه على قوله هذا، وأن من أدرك الركوع لا يدرك به الركعة، قليل من المتأخرين من أهل الحديث، منهم: ابن خزيمة وغيره من الظاهرية وغيرهم... وهذا شذوذٌ عن أهل العلم ومخالفةٌ لجماعتهم... فتبين أن قول هؤلاء مُحدَثٌ لا سلف لهم به... فقول القائل: "لم يصرحوا بالاعتداد بتلك الركعة" هو من التعنت والتشكيك في الواضحات، ومثل هذا إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والانفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم». إلى أن قال بعد بحث طويل: «وكان الحامل للبخاري على ما فعله: شدة إنكاره على فقهاء الكوفيين أن سورة الفاتحة تصح الصلاة بدونها في حق كل أحدٍ. فبالغ في الرد عليهم ومخالفتهم، حتى التزم ما التزمه مما شذ فيه عن العلماء، واتبع فيه شيخه ابن المديني. ولم يكن ابن المديني من فقهاء أهل الحديث، وإنما كان بارعا في العلل والأسانيد».

واحتج الجمهور بأن جمهور العلماء متفقون على أن الإمام إذا لم يقرأ وقرأ من خلفه، لم ينفعهم قراءتهم. فدل على أن قراءة الإمام هي التي تراعى، وأن قراءته: قراءة لمن خلفه. قال ابن عبد البر في الاستذكار (4|243): «وجمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ، وقرأ مَن خلفه لم تنفعهم قراءتهم». واحتجوا كثيراً باتفاق العلماء على أن المؤتم إذا أدرك الصلاة والإمام راكع، أن صلاته صحيحة وأنه أدرك الركعة، مع أنه لم يقرأ بها. فدل على أن قراءة الإمام تكون قراءة له. وفي الاستذكار (5|67): «وأجمعوا أن إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام». وقال الطحاوي (1|218): «رأيناهم جميعا لا يختلفون في الرَّجُلِ، يأتي الإمامَ، وهو راكعٌ أنه يُكَبِّرُ ويركع معه، ويَعتدُّ تلك الركعة، وإن لم يقرأ فيها شيئاً».

واحتج الجمهور بأن الإمام يجهر ليُسمع المأمومين –ولذلك يؤمنون على قراءته–، فإذا انشغل المأمومون بالفاتحة فما الفائدة من جهر الإمام؟ فيكون الإمام كأنه مأمور بأن يقرأ على قوم لا يستمعون إليه. ثم لو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم لَلَزِمَ أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، أو أنه يجب على الإمام السكوت حتى يقرأ المأموم الفاتحة. والأول منهي عنه بنص القرآن، والثاني لم يقل به أحد، وحديث "السكتتين" في الصلاة لا يصح. فإن قيل: أن وجوب القراءة قد استفيد بحديث "لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب" فيخصص الآية، قيل عمومه مخصوص بمن أدرك الإمام راكعا لحديث أبي بكرة، و الآية عامة في وجوب الإنصات في الصلاة و عمومها محفوظ. ولا شك أن العموم المحفوظ مقدم على العام الذي دخله التخصيص، كما هو مقرر في أصول الفقه. قال الألباني في ضعيفته (2|419): «وليس هناك حديث صريح صحيح لم يدخله التخصيص يوجب القراءة في الجهرية».

قال شيخ الإسلام: «وهذا قول الجمهور: كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار. وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث». فقد أثبت أن هذا قول جمهور الفقهاء من أتباع التابعين من طبقة مالك فما بعده، وأنه قول أكثر الصحابة. وكل ذلك لا يعارض قول البخاري «وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أحصى من التابعين وأهل العلم: "إنه يقرأ خلف الإمام وإن جهر". حدثنا صدقة، قال: أخبرنا عبد الله بن رجاء، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، قال: قلت لسعيد بن جبير: أقرأ خلف الإمام؟ قال: نعم، وإن سمعت قراءته. إنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه. إن السلف كان إذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت حتى يظن أن من خلفه قد قرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ وأنصتوا» فإن غاية ما يقال من هذا أن عددا كبيراً من التابعين قد قال بهذا المذهب، وليس فيه أنه قول جمهورهم. لكن كلام تلميذه الترمذي كان صريحاً جداً: «واختار أكثر أصحاب الحديث أن لا يقرأ الرجل إذا جهر الإمام بالقراءة». وفي مصنف ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: سألته عن القراءة خلف الإمام قال: «ليس خلف الإمام قراءة». وهذا يعارض ما تقدم عن سعيد. مع أن هؤلاء الذين ينقل عنهم البخاري من التابعين لا يقولون بإبطال صلاة من لم يقرأ خلف الإمام في صلاة الجهر.

فالخلاصة أن الذي يقتضيه القرآن والحديث والأثر والقياس والنظر أن المؤتم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن في صلاة السر، ولا يقرأ إذا جهر الإمام لا الفاتحة ولا غيرها. وهو قول جماهير السلف والخلف.