فوائد وأقوال ومنوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

كلام الأئمة خبر لا اجتهاد

هل كلام الأئمة في بيان أحوال الرواة جرحاً وتعديلاً، وكلامهم في بيان مراتب الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً من باب الخبر المحض الذي يلزمنا قبوله مطلقاً؟ أو من باب الاجتهاد المحض؟ فلا يلزمنا قبوله إنما ننظر فيه ونستفيد منه. أو هو خبر مشوب في اجتهاد؟ قال ابن حجر في "نكته" (2|726): «وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه». قال الشيخ عبد الله السعد عن قول ابن حجر "إلى تقليدهم": «الذي يظهر أن الحافظ ابن حجر لا يقصد التقليد الأعمى، وإنما يقصد المتابعة لهم والسير على مناهجهم».

ولا ريب أن تضعيف الرجال وتوثيقهم أمرٌ اجتهادي، وكذلك تصحيح الأحاديث وتضعيفها. ولا يَخفى أن ظنّ المجتهد لا يكون حُجّةً على مجتهدٍ آخر. قال ‏الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1|585): «تعليل الأئمة للأحاديث مبنيٌّ على غلبة الظن. فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا، لم يتعيّن خطؤه في نفس الأمر. بل هو ‏راجح الاحتمال، فيُعتمَد. ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ –وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه– في حَدّ الصحيح».‏ قلت: ولا يَلزم من رجحان الاحتمال في جانبٍ عند واحد، رُجحانُهُ فيه عند غيره أيضاً. وكم من حديثٍ قد اختلف علماء السلف في تصحيحه وتضعيفه. وتجد ‏الحديث الواحد يقول عنه بعضهم صحيح، وبعضهم يقول عنه موضوع. وهل هذا إلا لاختلاف الظنون؟ بل إنهم اختلفوا في تجريح وتوثيق الرجال أنفسهم. فترى ‏الواحد يقول عنه بعض الأئمة ثقة ثبت، والبعض يقول عنه كذاب ضعيف. فلذلك قالوا لا يُقبل الجرح إلا مفسراً. وإذا كان هذا في جرح الرجال، فهو أولى في ‏جرح الأحاديث وتعليلها. فإن قيل إن هؤلاء أئمة علماء عارفين بأصول الحديث. قلنا وكذلك الأئمة الأربعة علماء عارفين بأصول الفقه. فإن صح تقليد النسائي ‏في تضعيف الحديث فيما لم يذكر له حجة، فمن الأولى تقليد أبي حنيفة في الفقه فيما لم يذكر له حجة. فإنك إن ألزمت الناس بالتقليد في الحديث دون السؤال ‏عن الحجة، يلزمك إلزامهم بالتقليد في الفقه دون السؤال عن الدليل. فظهر بطلان ذلك والله وليّ التوفيق.‏

وأظن من الواضح أن كلامنا في الحديث الذي لم نقف فيه إلا على كلام مجمل لأحد الأئمة في بيان درجته. فإن لم يأتنا في الحديث الواحد إلا قول واحد من أحد الأئمة المتقدمين، على شكل جرح مبهم. وبحثنا فلم نجد للحديث علة ولا وجدنا أحد من المتقدمين وافقه. فإن هذا الجرح مبهم غير ملزم. ولو أنه بلا شك يضعف من صحة الحديث.

فائدة: قال الإمام الذهبي –وهو من أهل الاستقراءِ التام في نقد الرجال (كما وصفه ابن حجر والسخاوي والسيوطي والسبكي)–: «لم يجتمع اثنانِ من علماءِ هذا الشأن على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة». أي لم يقع الاتفاق من العلماء على توثيق ضعيف. بل إذا وثقه بعضهم، ضعّفه آخرون. كما لم يقع الاتفاق من علماء الجرح والتعديل على تضعيف ثقة. فإذا ضعّفه بعضهم، وثَّقه آخرون. ولفظ "اثنان" هنا المرادُ به الجميعُ كقولهم: هذا أمرٌ لا يختلف فيه اثنان. أي يتفق عليه الجميعُ ولا يُنازعُ فيه أحد.

 

جناية بعض المتأخرين على المتقدمين

قال ربيع المدخلي في كتابه "بين الإمامين مسلم والدارقطني" (ص58): «ولو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة –حتى البخاري– دراسةً وافية، لما تجاوزا –في نظري– النتائج التي وصلتُ إليها. لأنني –بحمد الله– طبّقتُ قواعد المحدثين بكلِّ دقّة، ولم آل في ذلك جهداً»، وهذا غاية في الكبر والغرور. ومن تأمل هذه المسألة وخطورتها المنهجية تبين لنا تساهل المتأخرين وعبثهم بالتصحيح. ومن تلك المضحكات المبكيات ما وقعت عليه لبعضهم بعد أن أورد حديثاً وذكر أن الأمام أحمد قال:«لا يثبت فيه شيء». قال هذا المُتَعَالِم: «بل ثبت فيه»! وقول الآخر عن حديث ضَعَّفَه الرّازِيّان: «وإن ضعفاه، فقد صَحّحَه الألباني (!!)».

 

أخطاء يقع بها بعض الطلبة حول منهج المتقدمين
هذه أخطاء يقع بها بعض طلبة العلم في علم الحديث النبوي بسبب خطأ في فهم منهج الأئمة المتقدمين.

1- رد زيادة الثقة دوماً. حيث أن المتأخرين يقبلون زيادة الثقة دوماً، فيتوهم بعض الطلبة أن منهج المتقدمين هو رد تلك الثقة مطلقاً، وليس الأمر كذلك. فالأئمة المتقدمون لم يقبلوا زيادة الثقة بإطلاقها، بل كانوا يبحثون بعناية في كل حالة. وهذا من أهم الفروق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين (أي بعد عصر النسائي). والأصل أنها مقبولة إذا كان المتفرد بها ثقة ثبتاً ولم تكن منافية لأصل الحديث. وعلى هذا نص علماء الشان. قال الدرقطني في علله (2|74) و (2|182) و (3|97) و (9|280): «وزيادة الثقة مقبولة». وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان في العلل (1|465): «زيادة الثقة مقبولة». وقال أبو زرعة في العلل (1|317): «إذا زاد حافظ على حافظ قُبِل». وقال البخاري: «الزيادة من الثقة مقبولة». وهذا طبعاً فيه تفصيل طويل ليس هذا موضعه، والمقصود بيان خطأ الرد دوماً.

2- تضعيف الحديث بأي تفرد. وهذا خطأ مشابه للأول، فليس كل تفرد هو مظنة ضعف للحديث، بل هذا يختلف حسب قوة حفظ المتفرد، وكذلك طبقته. فالتفرد في الطبقات العليا مثل كبار التابعين أكثر قبولاً من التفرد في الرواة المتأخرين بعد عصر تدوين الحديث.

3- إغلاق باب الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف. هذا خطأ فكثير من الأحاديث لم يحكم عليها أحد من المتقدمين بالصحة أو الضعف، فكيف نتركها بغير حكم؟ كما أن هناك أحاديث لم يتكلم بها إلا قلائل، وقد يكون المتكلم متشدداً مثل أبي حاتم، أو متساهلاً في التصحيح مثل الترمذي وابن خزيمة. فنحن نحترم علمهم الغزير ونستفيد من أقوالهم دون الجمود عليها. أما لو كان حديثاً مشهوراً تكلم عليه جماعة منهم، واتفقوا على رأي فيه، فلا يجوز أن نخالف إجماعهم لقول أحد من المتأخرين.

4- إهمال كل ما كتبه العلماء المتأخرون. وهذا خطأ فليس كل ما يقرره المتأخرون مردود. وإنما يكون كلام المتأخرين مردوداً إن خالف إجماعاً متيقناً من المتقدمين، وأما سوى ذلك فلا. وبالتالي فلم لا نستفيد من التخريج الذي صنعه المتأخرون دون الجمود عليه؟