هل في النساء نبيات؟

بسم الله الرحمن الرحيم

للأسف فإن البعض ينقل دون أن يعي ما ينقل ولا ما يقال. ودون أن يطلع على ما قاله الخصم. وصدق الذهبي في قوله: الإنصاف عزيز! وأجد نفسي مضطراً -إذ ذاك- لأن أعود للمعجم لتعريف كلمة "النبي" لمن لا يعرفها!

تعريف النبوة

ورد تعريف النبي في "القاموس المحيط" للفيروز أبادي كما يلي: «النَّبيُّ: النَّبِيءُ، وهو صاحب النُّبوَّة المُخْبر عن اللّه عزّ وجلّ».

و جاء في "القاموس الوسيط": «النَّبِيءُ: المخبر عن الله عز وجل [وتبدل الهمزة ياءً وتدغم فيقال: النبيّ]. و النُبُوْءَة اسم من النبيءِ وهي الإخبار عن اللَّه. ويقال النبوَّة بالقلب والإدغام».

و جاء في "لسان العرب" : الـمُخْبِر عن اللّه، عز وجل، مَكِّيَّةٌ، لأَنه أَنْبَأَ عنه، وهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ. قال ابن بري: صوابه أَن يقول فَعِيل بمعنى مُفْعِل مثل نَذِير بمعنى مُنْذِر وأَلِيمٍ بمعنى مُؤْلِمٍ. وفي النهاية: فَعِيل بمعنى فاعِل للمبالغة من النَّبَإِ الخَبَر، لأَنه أَنْبَأَ عن اللّه أَي أَخْبَرَ. قال: ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه. يقال نَبَأَ ونَبَّأَ وأَنـْبَأَ. قال سيبويه: ليس أَحد من العرب إلاّ ويقول تَنَبَّأَ مُسَيْلِمة، بالهمز، غير أَنهم تركوا الهمز في النبيِّ كما تركوه في الذُرِّيَّةِ والبَرِيَّةِ والخابِيةِ، إلاّ أَهلَ مكة، فإنهم يهمزون هذه الأَحرف ولا يهمزون غيرها، ويُخالِفون العرب في ذلك. قال: والهمز في النَّبِيءِ لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها، لا لأَنَّ القياس يمنع من ذلك. أَلا ترى إلى قول سيِّدِنا رسولِ اللّه r: وقد قيل يا نَبِيءَ اللّه، فقال له: لا تَنْبِر باسْمي، فإنما أَنا نَبِيُّ اللّه. وفي رواية: فقال لستُ بِنَبِيءِ اللّه ولكنِّي نبيُّ اللّه (لم يصح الحديث). وذلك أَنه، عليه السلام، أَنكر الهمز في اسمه فرَدَّه على قائله لأَنه لم يدر بما سماه، فأَشْفَقَ أَن يُمْسِكَ على ذلك، وفيه شيءٌ يتعلق بالشَّرْع، فيكون بالإِمْساك عنه مُبِيحَ مَحْظُورٍ أَو حاظِرَ مُباحٍ. والجمع: أَنْبِئَاءُ ونُبَآءُ. قال العَبَّاسُ بن مِرْداسٍ‎:

يا خاتِمَ النُّبَآءِ، إنَّكَ مُرْسَلٌ * بالخَيْرِ،‎ ‎كلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُداكا
إنَّ الإلهَ ثَنَى عليك مَحَبَّةً * في خَلْقِه، ومُحَمَّداً سَمَّاكا

قال الجوهري: يُجْمع أَنْبِيَاء، لأَن الهمز لما أُبْدِل وأُلْزِم الإِبْدالَ جُمِعَ جَمْعَ ما أَصلُ لامه حرف العلة كَعِيد وأَعْياد، على ما نذكره في المعتل. قال الفرَّاءُ: النبيُّ: هو من أَنـْبَأَ عن اللّه، فَتُرِك هَمزه. قال: وإن أُخِذَ من النَّبْوةِ والنَّباوةِ، وهي الارتفاع عن الأَرض، أَي إِنه أَشْرَف على سائر الخَلْق، فأَصله غير الهمز. وقال الزجاج: القِرَاءَة المجمع عليها، في الـنَّبِيِّين والأَنـْبِياء، طرح الهمز، وقد همز جماعة من أَهل المدينة (نافع) جميع ما في القرآن من هذا. واشتقاقه من نَبَأَ وأَنْبَأَ أَي أَخبر. قال: والأَجود ترك الهمز؛ وسيأْتي في المعتل. ومن غير المهموز: حديث البَراءِ. قلت: ورَسُولِكَ الذي أَرْسَلْتَ، فردَّ عَليَّ وقال: ونَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ. قال ابن الأَثير: إنما ردَّ عليه ليَخْتَلِفَ اللَّفْظانِ، ويجمع له الثناءَ بين معنى النُّبُوَّة والرِّسالة، ويكون تعديداً للنعمة في الحالَيْن، وتعظيماً لِلمِنَّةِ على الوجهين. والرَّسولُ أَخصُّ من النبي، لأَنَّ كل رسول نَبِيٌّ وليس كلّ نبيّ رسولاً». انتهى.

 

الفرق بين النبي والرسول

تبين مما سبق إجماع أهل اللغة أن كلمة النبي (أو النبيء) جاءت في لغة العرب من الإنباء، وهو الإعلام. فالنبي هو الـمُخْبِر عن الله عز وجل، ومعنى النبوة أن ينبئ الله عز وجل من يشاء من عباده بوحيٍ يُعلمه بما يكون قبل أن يكون أو يُنبئه بأمر ما. ومعنى الرسالة هو أن يرسل الله من يشاء من عباده بنبأ من عنده إلى من شاء من خلقه. فالرسول لا بد أن يكون نبياً لأنه بحمله لهذه الرسالة، يحتاج أن يُخبِر ويُنبئ عن الله عز وجل. وهذا كله لا خلاف فيه بين أهل اللغة. وأما أن الله أرسل الأنبياء أيضاً، فلا يخفى أن إطلاق الجزء وإرادة الكل هو من أساليب البلاغة العربية. ولذلك لا ينكر أحد كون بعض الأنبياء أرسلوا. وليس إثبات هذا، نفيٌ لوجود أنبياء لم يُرسلوا. وقد وجدنا أن ابن تيمية قد عرّف النبوة بما يوافق التعريف اللغوي، مع بعض التفصيل حول إلى من ستكون الرسالة.

قال ابن تيمية في "النبوات" (ص184): «فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو يُنبئ بما أنبأ الله به. فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه، فهو رسول. وأما إذا كان إنما يعمل بشريعة قبله و لم يُرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة، فهو نبي وليس برسول. قال تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}. وقوله: {من رسول ولا نبي} فذكر إرسالا يعم النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول. فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس، وقبلهما آدم كان نبيا مكلما. قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام". فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم. كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول. وكذلك أنبياء بني إسرائيل، يأمرون بشريعة التوراة، وقد يُوحى إلى أحدهم وحيٌ خاصٌ في قصة معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهّمه الله في قضية معنى يطابق القرآن».

فميزة الرسول على النبي، أنه أُرسِلَ إلى قومٍ غير مسلمين (سواء بشرعٍ قديمٍ أو جديد). ولهذا لم تأت كلمة التكذيب إلا في تكذيب الرسل، لأنهم يرسلون إِلَى قوم كافرين فيكذبونهم. فالنبي لا بُدّ أن يكون على شريعة رسولٍ قبله. وكل من أتى بشريعة جديدة فهو رسول، لكن هذا ليس شرطاً للرسالة، فقد يحكم الرسول بشريعة غيره، مثل يوسف عليه السلام، والمهم أنه أرسل إلى قوم كفار. قال ابن تيمية في "النبوات" (ص185): «فقوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} دليلٌ على أن النبي مرسلٌ، ولا يُسمى رسولاً عند الإطلاق لأنه لم يُرسل إلى قومٍ بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حقٌ كالعِلم. ولهذا قال النبي (r): "العلماء ورثة الأنبياء". وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة، فإن يوسف كان رسولاً، وكان على ملة إبراهيم».

ويمكن أن نقتصر في بيان الفرق بين الرسول والنبي بأن: الرسول من يرسل إلى قوم كفار مخالفين له، والنبي من يرسل إلى قوم مؤمنين موافقين له. والله تعالى أعلم. ويترتب على الفرق بين النبي والرسول فروقات مثل: أن النبي لا يُعصم من أيدي الناس (ومن ذلك قتل اليهود بعض أنبيائهم)، و الرسول يعصمه الله من الناس، فلا يُقتل حتى يبلّغ رسالته كاملة.

 

الأدلة الجلية على وجود النبوة في النساء

قال الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه "الملل والنحل" (5|119): ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً، إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم}. قال أبو محمد: وهذا أمر لا يُنازعون فيه. ولم يدَّع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة. وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة. فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل. فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنباء، وهو الإعلام. فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحي إليه مُنبئاً له بأمر ما، فهو نبي بلا شك.

وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى {وأوحى ربك إلى النحل}. ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون. ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب، وفيه يقول الله عز وجل {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}. وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله r. ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم. ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت.

بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به. ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدّث الله عز وجل لمن أوحى به إليه علماً ضرورياً بصحة ما أوحي به. كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه: إما بمجيء المَلَك به إليه، وإما بخطاب يخاطب به في نفسه. وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه، دون وساطة معلِّم. فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة، فليعرّفونا ما معناها. فإنهم لا يأتون بشيء أصلاً! فإذاً ذلك كذلك.

فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى نساءٍ، فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى. فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالى. قال عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}. فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب، ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله. ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملَك لغير نبي بوجه من الوجوه.

ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى –عليهما السلام– بخطابها. و قال لها {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا}. فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح، ورسالة من تعالى إليها. وكان زكريا –عليه السلام– يجد عندها من الله تعالى رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا.

ووجدنا أم موسى –عليهما الصلاة والسلام– قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم، وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبياً مرسلاً. فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل. يدري كل ذي تمييز صحيح: أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله –عز وجل– لها، لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها، في غاية الجنون والمرار الهائج. ولو فعل ذلك أحدنا، لكان غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقاً لمعاناة دماغه في البيمارستان (المستشفى)! لا يشك في هذا أحد. فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم، كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده. لكنه لو ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه، لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنوناً في غاية الجنون. هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس. فصحّت نبوتهن بيقين.

ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهعيص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز وجل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. وهذا هو عمومٌ لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم. وليس قوله عز وجل {وأمه صديقة} بمانع من أن تكون نبية. فقد قال تعالى {يوسف أيها الصديق}. وهو مع ذلك نبي رسول. وهذا ظاهر، وبالله تعالى التوفيق. (قلت: كل رسول نبي، وكل نبي صديق. لكن ليس كل صديق نبي، ولا كل نبي رسول).

ويلحق بهن –عليهن السلام– في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله r: «كَمِلَ من الرجال كثير. ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»، أو كما قال –عليه الصلاة والسلام–. والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين –عليهم الصلاة والسلام–، لأن من دونهم ناقصٌ عنهم بلا شك. وكان تخصيصه r مريم وامرأة فرعون تفضيلاً لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك. إذ من نَقُصَ عن منزلة آخَر ولو بدقيقة، فلم يكمل. فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالاً لم يلحقهما فيه امرأة غيرهما أصلاً، وإن كنّ بنصوص القرآن نبيات. وقد قال تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}. فالكامل في نوعه، هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه. فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل، ومنه نبينا وإبراهيم –عليهما الصلاة والسلام– بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلهما على غيرهما. وكَمِلَ من النساء من ذَكَرَ –عليه الصلاة والسلام–. انتهى كلام ابن حزم.

 

هل النبوة خاصة بالذكور؟

هذه مسألة لم يتكلم فيها أحد من السلف قط. وذكر ابن حزم (384-456هـ) في كتابه "الملل والنحل" أن هذه المسألة لم يحدث التنازع فيها إلا في عصره بقرطبة، وحكى عنهم أقوالاً، ثالثها الوقف. (وللدقة فإن أول من تكلم بها هو أبو الحسن الأشعري 206-324هـ). وقال بعض المتأخرين بأن النبوة خاصة بالذكور دون الإناث. واحتجوا بما يلي:

  1. قول الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء:7). قلت: ليتهم سألوا أهل الذكر عن الفرق بين النبوة والرسالة. فكيف يتكلمون في مسائل العقيدة وهم لا يعرفون الفرق؟ فإن الآية تتحدث عن الرسالة {وما أرسلنا}. فالرسالة محصورة في الرجال وليست النبوة، فانتبه.

  2. قالوا أن مقام النبوة يقتضي أن تشهر دعوة النبي بالحق، وأن يُناظَر أهل الباطل، وأن تكون الدعوة بارزة وشاهرة أمام الناس. وهذا المقام ليس من مقامات النساء بل من مقامات الرجال. قلت: عسر الفهم واضح. فإن ما ذكروه ينطبق على مقام الرسالة، لا على مقام النبوة. فإن النبي ليس معه رسالة يبلغها للناس. والعجب ممن تكلم في هذه المسألة دون أن يعرف الفرق بين النبي وبين الرسول!

  3. واحتجوا بقصة الملك مع الأقرع والأبرص والأعمى، بأنه ليس كل من خاطبته الملائكة فهو نبي. وهذا حق، لكنه ليس محل الخلاف. فإننا قيدنا خطاب المَلَك بكونه أمراً أو نهياً أو إخبار يقيني من الله تعالى للعبد ما سيكون قبل أن يكون، وهو نوع من أنواع الوحي. على أن الاستشهاد بالقصة غير صحيح. فإن الملَك ما خاطب الثلاثة على أنه رسول من الله تعالى إليهم. بل خاطبهم في صورة إنسان، وهم لم يعلموا أنه ملَك. وخطابه إليهم ليس خطابا غريبا. فإن كل إنسان يمكن أن يخاطب غيره ذلك. وقد أخبر الملَكُ الرجلَ الأخير –فقط– أن الله قد رضي عنه وسخط على صاحبيه. وكل أحد يجوز له أن يقول لمن يشرب الخمر قد سخط الله عليك. وليس هذا يشبه الجزم بعذابه، فإن الله قد يسخط على أحد، ثم يغفر له رحمة منه. ولسنا نتحدث بهذا.

  4. قالوا بأن قد جاء في القرآن أن مريم صديقة، ولم يأت أنها نبية. والجواب: أنها داخلة في قوله تعالى {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين} وهذا هو عمومٌ لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم. وليس قوله عز وجل {وأمه صديقة} بمانع من أن تكون نبية. فقد قال تعالى {يوسف أيها الصديق}. وهو مع ذلك نبي رسول. وكل نبي هو صديق. فقالوا: إن مريم وُصِفت بالصديقة في مقام المدح، ولو كانت نبية لكان الأولى أن توصف بالنبوة لا بأقل منها، بخلاف يوسف، فالذي وصفه بذلك صاحبه. والجواب: أن هذا منقوضٌ بكون بعض الأنبياء وصفوا بأوصاف في مقام المدح بغير النبوة، ولم يلزم من ذلك نفي النبوة عنهم. فقد قال النبي r في يوسف وأبيه وجده وهم أنبياء –في مقام المدح– من حديث أبي هريرة : «إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». وقال الله تعالى في يحيى: {يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ, وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. فلم يصفه بالنبوة في هذه الآية مع أنه مقام مدح.

  5. واحتجوا بأن النبي (r) توقف في نبوة ذي القرنين مع أن الله تعالى قال: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} الآية. لكن هذا (لو صح الحديث أصلاً) فهو استنتاج مردود. إذ ليس في الآية دليل صريح على أن الخطاب كان وحياً كفاحا أو عن طريق ملك. بل اختلف العلماء في قوله تعالى السابق. فقال قوم: هذا وحي نبوة، وقال آخرون: إن خطاب الله له كان بواسطة نبي. فانظر تفاسير القرطبي وابن حيان والألوسي. وقال غيرهم: بل هذا وحي إلهام. وهذا باطل لأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة. فسواء خاطبه بواسطة ملك أو كفاحا أو كان إلهاما فهي نبوة فإن الإلهام لغير الأنبياء لا يكون في مثل هذه الأمور، إلا أن يكون عن طريق نبي!

  6. واحتجوا بأنه ثبت في الصحيحين أن فاطمة «سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» (الشك من راوي الحديث)، وهي غير نبية. والجواب أن هذا اللفظ شك فيه راو الحديث، فإذا كانت سيدة نساء هذه الأمة فقط، فلا يلزم أنها سيدة باقي النبيات كذلك. هذا شيء، والشيء الآخر أن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث. وإنما ذكر –عليه السلام– في هذا الحديث السادة ولم يذكر الفضل. والسادة غير الفضل. ولا شك أن فاطمة (رضي الله عنها) سيدة نساء العالمين بولادة النبي (r). لها فالسادة من باب الشرف، لا من باب الفضل. وقد قال ابن عمر (رضي الله عنهما) –وهو حُجّةٌ في اللغة العربية–: "كان أبو بكر خيراً وأفضل من معاوية. وكان معاوية أسود من أبي بكر". ففَرَّقَ ابن عمر بين السادة والفضل والخير. وقد قال رسول الله r: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». ومع ذلك لا خلاف بين أحد من الناس في أن علياً أفضل من ولديه الحسن والحسين. لا يخالف في ذلك أحد من السنة أو من الشيعة. وهذا صحيح، لأن السيادة غير الفضل. فالحسن والحسين أشرف نسباً من علي، لأن أمهما هي بنت محمد r. وهذا شرفٌ لا يدانيه شرف. لكن فرقٌ بين الشرف والفضل. وأبوهما خيرٌ منهما وأفضل بلا خلاف. والأنبياء خير من الحسن والحسين بغير شك. ففاطمة سيدة نساء العالمين، وإن كانت غيرها أفضل منها كأمها خديجة. وعلى فرض كون السيادة مرادفة للفضل يقال أيضا: إنها سيدة نساء العالمين إلا النبيات! فيكون عاما مخصوصا. وليس هذا غريبا، ففي الحديث: «سيد الشهداء حمزة». فهل يلزم من هذا أنه سيد شهداء الأنبياء؟ وهل يلزم أنه أحسن منهم؟ ولهذا قال المناوي في "فيض القدير" (4|121): «وهذا عامٌ مخصوصٌ بغير من استشهد من الأنبياء». بل قال: «المراد سيد شهداء هذه الأمة، أي شهيد المعركة، كما قاله الزين العراقي، ليخرج عمر وعثمان وعلي». فالمقصود من الحديث أن فاطمة هي أكثر نساء أهل الجنة شرفاً وعظمةً ومجداً (لأنها بنت نبينا r) لكنها ليست أفضل نساء الجنة. وكذلك الحسن والحسين أكثر شباب أهل الجنة (وكل أهل الجنة شباب) شرفاً وعظمةً ومجداً (لأنهم أحفاد نبينا r) لكنهما ليسا أفضل شباب أهل الجنة. يكفينا في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:42) فثبت أن مريم أفضل من جميع النساء في كل عصر. قال القرطبي: «الصحيح أن مريم نبية، لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة المَلَك». ونقله في ‏"التمهيد‏"‏ عن أكثر الفقهاء‏.

  7. قالوا: بأن أبا المعالي الجويني (المدعو بإمام الحرمين) قد نقل الإجماع على أن النبوة خاصة بالذكور. أقول: الجويني هذا قال عنه الحافظ ابن حجر (1|256) أنه: «قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها». فما قيمة إجماع يزعمه، مع قلة اطلاعه على أقوال العلماء في عصره، فضلاً عن السلف. هذا مع جهله بأن إمامه الأشعري نفسه قد صرح بنبوة ستة نساء، حيث أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهى أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي. وممن زعموا أنه نقل الإجماع الكاذب كذلك الباقلاني، المتكلم الذي يدعي أنه جائزٌ أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله r من حين بعث إلى أن مات. وهو القول الذي قال عنه ابن حزم: «كفرٌ مجردٌ لا تردد فيه». فمن كان هذا حاله من الانتقاص لمرتبة النبوة، فكيف يتكلم بها وينقل الإجماع؟ ثم العجب ممن جاء بعدهما من المتأخرين كيف يسرد الخلاف في المسألة ثم يعلن الإجماع على أن المرأة لا تكون نبية، بعد أين يكون قبل بضعة أسطر قد سرد أقول المخالفين له. وقد قال الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب». وكيف يمكن للإجماع أن ينعقد ولا توجد أي نقول عن الصحابة والتابعين؟ وإنما فعلوا ذلك لأنه دليلهم الوحيد على خصومهم. وقد ظهر بطلانه، ولله الحمد.

ولنا أن نجيبهم بأن قولهم بحصر النبوة على الرجال، قول شاذ مخترع، لم يقل به أحد من السلف قط. فما قولهم وهو يعلمون أن هذا صحيح؟

 

نتائج وتنبيهات مهمة

1) الخضر عليه السلام قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي. فالله قد أمره بقتل الغلام. وهذا لا يكون إلا عن طريق وحي. فإما يكون الوحي له، فيكون نبياً، وإما يكون الوحي لنبي غيره ثم أخبره بهذا الأمر. والاحتمال الأول أقرب بكثير من الثاني، والله أعلم.

2) فاطمة t غير نبية، بالإجماع. وادعى الشيعة أن جبريل كان ينزل إليها بالوحي بعد موت النبي r، وقد كتبته في كتاب أسموه "مصحف فاطمة". قالوا بأنه ثلاثة أضعاف القرآن، وليس فيهما حرف مشترك. وهذا كفر صريح، لأن ادعاء الوحي لأحد هو ادعاء النبوة، ولا فرق.

3) رشاد خليفة –الذي ادعى أنه رسول الله وليس نبي الله– كافر. لأن الرسالة داخلة في النبوة شاء أم أبى. فكون سيدنا محمد r هو خاتم النبيين، يستلزم بالضرورة أنه خاتم المرسلين كذلك. فكل من ادعى الوحي من الله كفر. وكل من ادعى الرسالة (وإن نفى عن نفسه النبوة) فقد كفر.

فهذا ما لا ينبغ لمسلم جهله.