أبو حنيفة –رحمه الله– إمامٌ فحلٌ صاحب مدرسة فقهية كبيرة لها وقعها الكبير قديماً و حديثاً. و قد اختار ابن تيمية كثيراً من أقواله، جمعها أحد الاخوة في جزء. وهو من أذكياء العالم، لا يستريب في هذا أحد! وأبو حنيفة هو إمام علم في الفقه والاستنباط، وإمام في الزهد والورع. ولا يعيبه أن تكون بضاعته في الحديث مُزجاة، أو أنه لم يُذكر في عداد أهل الصناعة والدراية. ومن قال ذا يعيبه؟ فهذا الشأن لكل من انصرف لفن دون آخر.
وأما كونه ضعيفاً في الحديث فلا يجرح في إمامته في الفقه والدين. فكم من فقيه جليل لا يعتد بروايته للحديث، كما أنه كم من محدث جليل لا يقيم الفقهاء لرأيه واستنباطه وزناً. وكل علم يسأل عنه أهله. وإذا كان الراوي أحياناً يكون ثقة في روايته عن شيخ، وضعيفاً في روايته عن شيخ آخر، أو يكون ثقة في روايته عن أهل بلد، وضعيفا في روايته عن أهل بلد آخر، فكذلك يكون الرجل ثقة في روايته لعلم، وضعيفاً في روايته لعلم آخر.
قال الذهبي في السير (5|260) في ترجمة عاصم: «وما زال في كل وقت يكون العالم: إماماً في فن، مقصراً في فنون. وكذلك كان صاحبه حفص بن سليمان ثبتاً في القراءة واهياً في الحديث. وكان الأعمش بخلافه: كان ثبتاً في الحديث، ليّناً في الحروف. فإن للأعمش قراءة منقولة في كتاب "المنهج" وغيره، لا ترتقي إلى رتبة القراءات السبع، ولا إلى قراءة يعقوب وأبي جعفر. والله أعلم».
والأحناف في كل كتاب حديث تقريبا يضيعون مساحة شاسعة منه للدفاع عن أبي حنيفة وإثبات أنه ثقة. بل ويغيرون كل علم الجرح والتعديل حتى يحصلون على تعديل إمامهم. وكل من جرح أبا حنيفة يصبح متعنت أو مجروح. والعكس بالعكس.
الثناء على أبي حنيفة:
قال الإمام أبو سعيد الزعفراني الأصبهاني: فيما سمعت من كتاب المناقب الذي جمعه عبد الرحمن بن أبي حاتم في فضائل الشافعي، أنبأنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: «الناس عيالٌ على أبي حنيفة في الفقه». (ذكره الضياء المقدسي في مسموعات مرو) وقد شرحنا معنى هذه العبارة في ترجمة محمد بن الحسن. وقال حرملة بن يحيى: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». قال: و سمعته -يعني الشافعي- يقول: «كان أبو حنيفة ممن وُفِّقَ له الفقه».
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|404): قال حفص بن غياث: «كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل». وقال الذهبي أيضاً: وروي عن الأعمش أنه سئل عن مسألة، فقال: «إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت، وأظنه بورك له في علمه». وقال جرير: قال لي مغيرة: «جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيا لجالسه». قلت –أي الذهبي–: «الإمامة في الفقه ودقائقه، مسلّمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه». انتهى. وقال الذهبي عنه: «برع في الرأي، وساد أهل زمانه في التفقه، وتفريع المسائل، وتصدر للاشتغال، وتخرج به الأصحاب». ثمَّ قال: «وكان معدوداً في الأجواد الأسخياء، والأولياء الأذكياء، مع الدين والعبادة والتهجد وكثرة التلاوة، وقيام الليل رضي الله عنه».
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (10|110): «الإمام أبو حنيفة... فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة، وهو أقدمهم وفاة». وقال ابن العماد في "شذرات الذهب" (1|228): «وكان من أذكياء بني آدم. جمع الفقه والعبادة، والورع والسخاء. وكان لا يقبل جوائز الدولة، بل ينفق ويؤثر من كسبه».
وقال محمَّد بن مُزاحِم: سمعت ابن المبارك يقول: «أفقَهُ الناس أبو حنيفة. ما رأيتُ في الفقه مثله». وقال ابن المبارك أيضاً: «لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان، كنت كسائر الناس».
توثيق أبي حنيفة:
لم أجد من وثق أبا حنيفة من المحدثين إلا ابن معين وابن المديني، وسائر ما يذكر في ترجمته من الثناء عن غيرهما إنما هو في علمه وفضله ورأيه. وقد جاء عن ابن معين وابن المديني تضعيفها لأبي حنيفة، وهو ما يخفيه الأحناف! وإليكم كلامهما:
ففي تهذيب التهذيب (1|401): قال محمد بن سعد العَوْفي (ضعيف) سمعت ابنَ معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقةً لا يُحدِّث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يُحدِّث بما لا يحفظ». وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ (جزرة، ثقة): سمعت يحيى بن معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقة في الحديث». و قال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز، عن يحيى بن معين: «كان أبو حنيفة لا بأس به».
وقال ابن عبد البر في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" (ص127): قال عبد الله بن أحمد الدَّورقي (مجهول): سئل يحيى بن مَعين وأنا أسمع عن أبي حنيفة؟ فقال ابنُ مَعين: «هو ثقةٌ ما سمعتُ أحداً ضعَّفه (!!). هذا شعبةُ بن الحجاج يكتب إليه أن يُحدِّث، ويأمُرُه. وشعبةُ شعبة». وهذا الدورقي قد قال ابن حزم عنه في "حجة الوداع": «لا أعرفه». نقل هذا الذهبي في ميزان الاعتدال (8|132) مقراً له. وقال الحسيني في الإكمال (1|237): «فيه جهالة».
بالمقابل، قال ابن أبي مريم (ليس فيه توثيق) –كما في الكامل لابن عدي (8|236)–: سألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «لا يكتب حديثه». وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة (كذاب يضع الحديث) –كما في الضعفاء للعقيلي (4|285)–: سمعت يحيى بن معين وسئل عن أبي حنيفة، قال: «كان يضعف في الحديث». وقال محمد بن حماد المقرئ (ليس فيه توثيق) –كما في تاريخ بغداد (13|445)–: وسألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «وإيش كان عند أبي حنيفة من الحديث حتى تسأل عنه؟!». فالثابت عن ابن معين هو توثيق أبي حنيفة.
قال الإمام علي بن المديني: «أبو حنيفة روى عنه الثوري وابن المبارك، وهو ثقة لا بأس به». وقد جاء عنه التضعيف كذلك. إذ قال عبد الله بن علي بن عبد الله المديني –كما في تاريخ بغداد (13|450)–: وسألت –يعني أباه– عن أبي حنيفة صاحب الرأي، فضعفه جداً، وقال: «لو كان بين يَدَيّ ما سألته عن شيء». وروى خمسين حديثاً أخطأ فيها. انتهى.
تضعيف أبي حنيفة:
يجب من الأول أن نفهم سبب تشدد السلف على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. فإن من منهج أهل السنة والجماعة أن الرجل إذا زل في بعض المواضع فإننا نستر عليه ذلك فإذا اشتهر نحذر من تلك الأخطاء والزلات دون أن نهدر عدالته. لكن زاد الكثير من العلماء على هذا أن من كثرت زلاته وجب إسقاطه مهما بلغت مكانته العلمية لأن هذا أسهل من التحذير من هذه الأخطاء. وكثير من هذا الطعن في أبي حنيفة تجد مثله في غيره من العلماء بما فيهم مالك والشافعي. لكن الذي حمى مالك من أن يسقطه أهل الحديث كونه يحتاج إليه جداً في الكثير من الأحاديث. وهذا أوضحه ابن عبد البر ببحث طويل في "جامع بيان العلم وفضله" وكذلك في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" ليس هذا مكان ذكره.
نقل العلامة المعلمي اليماني في كتابه "التنكيل بما في مقالات الكوثري من الأباطيل" مواقف شديدة لبعض أئمة السلف من الإمام أبي حنيفة والتي كان يستدل بها الكوثري، وعلق عليها المعلمي اليماني أن من مذاهب السلف في إسقاط أخطاء الفقهاء: مذهب بإسقاط صاحب الأخطاء الكثيرة وتنفير الناس منه حتى لا يتبعوه، حتى لو كانوا يقرون بفضله على الأمة. وهذا ما نقمه الكوثري على بعض الأئمة المتقدمين لكون بعضهم عمل على إسقاط الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
ومذهب آخر بالترحم على أهل الفضل من العلماء الذين يقعون في أخطاء علمية، مع تعقب أخطائهم فقط حتى لا يقع فيها الناس. إلا أن هذا المذهب قد يشتد في الإنكار لعظم الخطأ في بعض المسائل، مع إبقاء أصل الاحترام مع نقل ذلك. فالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم من أئمة التابعين وغيرهم من السلف، لم ينقطع بينهم الولاء والقتال في صف واحد. ومع ذلك كانوا لا يتساهلوا فيما يمكن أن يحرف دين الأمة.
ومثال ذلك و الأمثلة كثيرة: ما جاء في صحيح مسلم من قول ابن الزبير لابن عباس –وهو من هو– حبر الامة، وفضله على الأمة جاري حتى الآن، وعلم ابن الزبير لا يقارن بعلم ابن عباس. قال له بخصوص مسألة زواج المتعة: «أفعل بنفسك (يقصد زواج المتعة) ولأرجمنك بأحجارك». رضي الله عنهم أجمعين. و قد كان يحدث بينهم ذلك لان الأمر كان عندهم دين يجب صيانته من التحريف. لكن لا يأتي أحد ويقيم ابن عباس من قول ابن الزبير عنه. فهذا غلط.
وبهذا نفهم سبب حدة بعض العلماء القدامى على الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ثم استقر الأمر على إمامته في الفقه. لذلك لا تجد الفقهاء السلفيين كالذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والمزي وابن عبد الهادي وابن عبد الوهاب إلا ويذكرونه بالخير.
قال ابن عبد البر في التمهيد (14|13) عن حديث "المتبايعان بالخيار": «وقد روي عن أبي حنيفة أنه كان يرد هذا الخبر، باعتباره إياه على أصوله، كسائر فعله في أخبار الآحاد: كان يعرضها على الأصول المجتمع عليها عنده، ويجتهد في قبولها أو ردها. فهذا أصله في أخبار الآحاد. وروي عنه أنه كان يقول في رد هذا الحديث: "أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن أو قيد؟ كيف يفترقان؟ إذن فلا يصح بين هؤلاء بيع أبداً"! وهذا مما عيب به أبو حنيفة. وهو أكبر عيوبه وأشد ذنوبه عند أهل الحديث الناقلين لمثالبه، باعتراضه الآثار الصحاح، ورده لها برأيه. وأما الإرجاء المنسوب إليه، فقد كان غيره فيه أدخل وبه أقوَل، لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه ورواية سقطاته مثل ما اشتغلوا به من مثالب أبي حنيفة. والعلة في ذلك ما ذكرت لك. وذلك ما وجدوا له من ترك السنن وردها برأيه، أعني السنن المنقولة بأخبار العدول الآحاد الثقات، والله المستعان».
وهذا الحديث قد أنكره مالك مثل أبي حنيفة. ولكن مالك شفع له عندهم أنه كان ثبتاً في الحديث، وما استطاعوا الاستغناء عن حديثه. قال ابن يحيى: قلت لأحمد بن حنبل: ما الذي تَنْقِمُ على هذا الرجل؟ قال الرأي، قيل: فهذا مالكٌ ألم يتكلم بالرأي؟ قال: بلى، ولكن رأي أبو حنيفة خُلِّدَ في الكتب. قلت: فقد خلد رأي مالك في الكتب، قال: أبو حنيفة أكثرُ رأيا منه، قلت: فهلا تكلمتم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فَسَكَتَ. انظر مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي (ص41).
ونفس الشيء تكرر مع عدد من أئمة أهل الرأي مثل سفيان الثوري (ذكره الترمذي في أهل الرأي) وغيره من علماء الكوفة. الثوري يوافق أبا حنيفة (أبو حنيفة أكبر سنا)، حيث أنه أخذ عن منصور عن إبراهيم النخعي وأخذ أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم. حتى قال أبو يوسف القاضي وهو من خواص تلاميذ أبي حنيفة: سفيان الثوري أكثرُ متابعةً لأبي حنيفة مني؛ ذكره ابن عبد البر في الانتقاء ص128 وابن أبي العوام في فضائل أبي حنيفة ص105. ونقل أبو الشيخ في طبقات المحدثين (2|218) عن أبي سفيان صالح بن مهران الحكيم (ثقة فقيه) قوله: «"جامع سفيان" الذي تقاتل الناس عليه، ما خالف أبا حنيفة إلا في خمس عشرة مسألة»، وجامع سفيان من تأليف الثوري نفسه. قال الحسين بن حمّاد: «يزعمون أَن سُفْيَان كَانَ يَأْخُذ الْفِقْه من عَليّ بن مسْهر من قَول أبي حنيفَة، وَأَنه اسْتَعَانَ بِهِ وبمذاكرته على كِتَابه هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ الْجَامِع». وقال أبو مسلم ليزيد بن هارون مَا تَقول يَا أَبَا خَالِد فِي أبي حنيفَة وَالنَّظَر فِي كتبه؟ فَقَالَ «انظروا فِيهَا إِن كُنْتُم تُرِيدُونَ أَن تفقهوا فَإِنِّي مَا رَأَيْت أحدا من الْفُقَهَاء يكره النّظر فِي قَوْله. وَلَقَد احتال الثَّوْريّ فِي كتاب الرَّهْن حَتَّى نسخه».
أما عن قضية الإرجاء فلا دخل لها في عدم تحديثهم عنه. وقد احتج البخاري بعمران بن حطان ـوهو من دعاة الخوارج- واحتج الشيخان بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء، وانظر لحال طلق بن حبيب، و أبو معاوية الضرير، و عمر بن ذَر الْهَمدَانِي فجميعهم دعاة للإرجاء. بينما أبو حنيفة لم يكن داعية للإرجاء. روى ابن عدي في الكامل أن حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قالَ: قُلتُ لأبي حنيفة أن جابرا روى عنك وإنك تقول "إيماني كإيمان جبريل وميكائيل". قَال: «مَا قلت هذا، ومَنْ قَالَ هذا فهو مبتدع». قَالَ فذكرت ذلك لمحمد بْن الحسن صاحب الرأي قول حَمَّاد بْن زيد فَقَالَ: «صدق حَمَّاد، إن أَبَا حنيفة كَانَ يكره أن يَقُول ذلك». وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (13|41): وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة قال: «وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل: "إيماني كإيمان جبريل وميكائيل" - قال محمد: لأنهم أفضل يقينا - أو إيماني كإيمان جبريل أو إيماني كإيمان أبي بكر أو كإيمان هذا ولكن يقول "آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر"».
هناك عدة كتب في مناقب أبي حنيفة وأصحابه وفيها ضعيف كثير كسائر كتب المناقب. بالمقابل ما قيل في جرحه فيه كذب أيضا. أهم الكتب التي ذكرت جرح أبي حنيفاً مسنداً هي:
1- تاريخ بغداد للخطيب.
2- المجروحون لابن حبان.
3- الكامل لابن عدي.
4- السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل.
وقد استوعبت الجرح كله، وبخاصة الأول. أكثر تلك الأقوال لا تصح نسبتها أصلا، وقد تجدها من راية كذابين أو روايات منقطعة، وأصحاب هذه الكتب يعلمون هذا لأنهم محدّثون. وقد علمت أن الجرح لا يُقبل إلا مفسرا، فنظرنا إلى هذا الجرح فوجدناه لا يخرج عن الآتي:
1– فقوم طعنوا في روايته وقلة حفظه وضبطه، وأن أبا حنيفة لا يميز بين صحيح
الحديث وضعيفه.
وهذا أمر صحيح أجمع عليه علماء الحديث قاطبة، وذكروا أدلته. وسبب ذلك أنه كان اهتمامه منصباً على الفقه والاجتهاد والعبادة. وإذا روى الحديث رواه بالمعنى على إسلوب شيخه حماد. وقد اعترف الإمام به بنفسه. إذ أخرج الإمام ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8|449): عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن أبي عبد الرحمان المقرئ، قال: كان أبو حنيفة يُحدثنا، فإذا فرغ من الحديث، قال: «هذا الذي سمعتم كله ريحٌ وباطلٌ». وقال الترمذي: سمعت محمود بن غيلان، يقول: سمعت المقرئ، يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: «عامة ما أحدثكم خطأ». وهذا سند صحيح كالشمس. وهو موافقٌ لكلام النقاد، واعترافٌ من الإمام بأنه ليس ضابطاً لحديثه. وهذا حمله عليه ورعه ومعرفته بقدر نفسه في الحديث، لأنه ليس من فرسان الأسانيد والعلل.
وقد اعترف الإمام الزيلعي (وهو من أكبر الحفاظ الحنفية) بضعف أبي حنيفة في حديث "نهى عن بيع وشرط". وهناك رسالة بعنوان "الإمام أبو حنيفة بين الجرح والتعديل" نوقشت في جامعة أم القرى. وانتهى -كما قيل لنا- إلى أن أبا حنيفة من حيث الحفظ في مرتبة الصدوق.
2– وقوم طعنوا فيه لما يرجع إلى العقائد و الكلام في الأصول.
وهذا باطل. فعقيدته نقلها أصحابه في كتبهم، ونقلها الطحاوي في العقيدة التي يدرسها السلفيون. والقاعدة التي يجب العودة إليها أن "قول الرجل إنما يُعرف من حكاية أصحابه عنه أو بكتبه"، وليس من أقوال خصومه. والسبب حسب ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (6|303): «وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس -من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يُعرف مرادُهم- قد يتعسّر على بعض الناس». ولم يخالف أبو حنيفة السلف الصالح إلا في مسألة الإرجاء، إذا وافق شيخه حماد في ما يسمى بمذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان. وقد أوضح شيخ الإسلام أن هذا كان في ذلك الوقت خلافاً لفظياً فحسب. ثم تطور لاحقاً على يد الماتريدية والأشاعرة فصار حقيقياً. و والله تجد اليوم أقوام غالوا في الإرجاء الحقيقي مع الحكام الطواغيت، بل فاقوا الجهمية أنفسهم، ومع ذلك يلمزون الإمام أبا حنيفة. ولا نقول إلا: رمتني بدائها وانسلت. بل الحنفية أكثر تشددا في التكفير من غيرهم من المذاهب، فمثلا قال أبو حفص النسفي الحنفي عن أعياد المشركين: «من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى».
يقول شيخ الإسلام في كتاب الإيمان (ص337): «إنه لم يُكَفِّرْ أحدٌ من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بِدَع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد». وقال الذهبي الشافعي في سير أعلام النبلاء: «إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: "الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب". والنزاع على هذا لفظي». وبه قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (ص362): «الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنَّة صوري. فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد».
لكن القوم
أصروا على أن يفتروا عليه أقوال ومسائل بهدف التشنيع، وظاهرها الكفر والضلال. قال
الإمام ابن تيمية في المنهاج (2|619): «كما أن أبا حنيفة –وإن كان الناس خالفوه في
أشياء وأنكروها عليه– فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه
وعلمه. وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً».
ومن ذلك اتهامه –والعياذ بالله– بالقول بخلق القرآن. واتهامه بأنه استتيب من الكفر مرتين! مع أنه قد قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر (ص301): «والقرآن غير مخلوق». روى عبد الله في "السنة" (ص192) قال: «سمعت أبي –رحمه الله– يقول (عن أبي حنيفة): أظن أنه استتيب في هذه الآية {سبحان ربك رب العزة عما يصفون}. قال أبو حنيفة: "هذا مخلوق". فقالوا له: "هذا كفر". فاستتابوه». قال الشيخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني معلقاً: «لا يقام حكم بظن». ثم إن الإمام أحمد، قد ظهر له خطأ ظنه، وثبت عنده أن أبا حنيفة ما قال بخلق القرآن قط. روى محمد النخعي (ثقة فقيه) عن أبو بكر المروزي (كما في تاريخ بغداد 13|378): سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: «لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق». وإسناده صحيح. وهذا يكذب كل الروايات التي تتهم الإمام أبا حنيفة بالكفر، والعياذ بالله. بل إن الإمام أحمد حصل له نوع من التعاطف والتقدير لموقف أبي حنيفة المشرف من السلاطين الظلمة. فقال إسماعيل بن سالم البغدادي (كما في تاريخ بغداد 13|327): «ضرب أبو حنيفة على الدخول في القضاء، فلم يقبل القضاء». قال: «وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى، وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرِبَ أحمد».
وبالنسبة
لمسألة استتابته من الكفر فقد رد الأئمة الأحناف على هذه الفرية. قال الفقيه
المحقق علي بن محمد القاري في مناقب الإمام: قال أبو الفضل الكرماني:
لما دخل الخوارج الكوفة مع الضحاك –ورأيهم تكفير كل من أذنب وتكفير كل من لم يكفَّر
مرتكب الذنب– قيل لهم: هذا شيخ هؤلاء. فأخذوا الإمام أبا حنيفة وقالوا له: تب من
الكفر. فقال: أنا تائب من كل كفر. فقيل لهم: إنه تائب من كفركم، فأخذوه فقال لهم: أبعلم قلتم أم بظن؟ قالوا: بظن، قال إن بعض الظن إثم، والإثم
ذنب فتوبوا من الكفر. قالوا: تب أنت أيضاً من الكفر، فقال أنا تائب من كل كفر.
فهذا الذي قاله أهل الضلال من إن الإمام استتيب من الكفر مرتين، ولبّسوا على
العامة من الناس. ا.هـ
وأما نزاعه مع جهم فهو معروف عند أصحابه. وفي فضائل أبي حنيفة وأخباره لابن أبي العوام (ص: 124): قال أبو حنيفة: «كان جهم ومقاتل فاسقين، أفرط هذا في التشبيه، وهذا في النفي». وفي الأسماء والصفات للبيهقي (1|611): عن محمد بن سابق، يقول: سألت أبا يوسف، فقلت: أكان أبو حنيفة يقول القرآن مخلوق؟، قال: «معاذ الله، ولا أنا أقوله»، فقلت: أكان يرى رأي جهم؟ فقال: «معاذ الله ولا أنا أقوله». قال البيهقي: رواته ثقات. ثم ذكر أن أبا يوسف القاضي، يقول: «كلمت أبا حنيفة سنة جرداء في أن القرآن مخلوق أم لا؟ فاتفق رأيه ورأيي على أن من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر». قال البيهقي: رواة هذا كلهم ثقات.
3– وقوم طعنوا لقوله الرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح حسب فهمهم. وهذا نزاع فقهي بحت. قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2|1084): «الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس».
4– وقوم طعنوا فيه بأمور باطلة أو أنها ليست جرحاً. مثل قول يزيد بن زريع: «كان أبو حنيفة نبطياً»، وهذه جاهلية عنصرية فما شأننا بنسب الرجل؟
5- وقوم ما ذكروا طعناً، لكنهم أفحشوا في السب واللعن والاستهزاء (مثل تسميته بأبي جيفة). وليس المؤمن بلعان ولا فاحش ولا بذيء. إنما صفة المنافق أنه إذا خاصم فجَر.
وأما عن تحامل الكثيرين عليه فهذا لا ريب فيه. قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2|149): قال يحيى بن معين: «أصحابنا (أي أهل الحديث) يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه». وبعض الذين انتقدوا أبي حنيفة هم فعلاً أصحاب تعصب مذهبي. فالخطيب البغدادي كان شافعياً متعصباً على الأحناف والحنابلة، كما ذكر ابن عبد الهادي. وقد رد عليه ابن الجوزي الذي لم يكن أقل منه تعصباً وحدّة (لمذهب الحنابلة). وكثير من الأقوال التي نقلها الخطيب في ذم أبي حنيفة لا تصح.
قلة حديث أبي حنيفة:
ولا بد من التنبيه أن ما قيل من قلة أحاديث أبي حنيفة ليس على إطلاقه. نعم، لم يصله الكثير جداً من الأحاديث الصحيحة. وليس معنى ذلك أنه ليس عنده حديث. قال العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة": «لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث. ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه. وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدى للرواية. وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها. بل إذا كان عارفاً بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل. وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل. والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه. وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء. ولم يدع هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد. وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله. وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله. فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة، فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم. بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة. بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعاً لحديث ضعيف (وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره). ومن ثُمّ، ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف –بله الصحيح– على القياس».
أصول أبي حنيفة في تلقي السنة
قال ابن تيمية مجموع الفتاوى (20|304): «ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى». وقال ابن حزم في "إبطال القياس" (ص 67): «جميع الحنفية مُجْمِعُونَ على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيفَ الحديث أولى عنده من القياس والرأي». وروى نوح الجامع أنه سمع أبا حنيفة يقول: « مَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتَرْنَا، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَال». وذكر الذهبي في مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 34) عن يحيى بن الضريس، يقول: شهدت الثوري وأتاه رجل، فقال: ما تنقم على أبي حنيفة: قال: وماله؟ قال: سمعته يقول: «آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات عن الثقات، فإن لم أجد، فبقول أصحابه آخذ بقول من شئت، وأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وعطاء، فأجتهد كما اجتهدوا».