الإمام أبو حنيفة النعمان وانتشار المذهب الحنفي

 

 ولد الإمام النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة في الكوفة سنة (80هـ = 699م). ورأى في صغره أنس بن مالك t. وأخذ العلم عن حماد بن أبي سليمان، وكان فقيهاً كوفياً كثير الرأي. ومعلوم أن فقه أهل الكوفة يرجع إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود t الذي أرسله عمر t ليفقّه أهل الكوفة. وقد أخذ تلامذته من بعده عن علي بن أبي طالب t أيام خلافته. ثم نشأ بعد هؤلاء التلامذة، فقيهين أخذا عنهم، هما: عامر الشعبي وإبراهيم النخعي. وصار هذين الإمامين فقيهي الكوفة في زمانهما. والأول كان أميل للأثر، والثاني كان يميل إلى الرأي، شأنه شأن عامة أهل الكوفة. ثم أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي إمامان: منصور، وحماد. فأما منصور فقد أخذ الفقه عنه سفيان الثوري. وأما حماد فقد أخذ الفقه عنه أبو حنيفة. ومن تأمل فقه الإمامين أبي حنيفة والثوري، لوجده قريب، لكن الأول أكثر تفريعاً، والثاني أقرب لأهل الحديث. قال الذهبي في "التفسير والمفسرون" (1|89): «يمتاز أهل العراق بأنهم أهل رأي. وهذه ظاهرة نجدها بكثرة في وسائل الخلاف. ويقول العلماء: إن ابن مسعود هو الذي وضع الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال، ثم توارثها عنه علماء العراق»، وما قاله خاص بالكوفة ومن حولها كبغداد ولا يشمل البصرة.

 

وكان أبو حنيفة رجلاً ميسوراً يعمل بتجارة الحرير والثياب. وقد تخرج على يديه جمع من الفقهاء الكبار، من أمثال أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (183هـ = 799م) وهو الذي نشر المذهب الحنفي وأول من كتب فيه، ومحمد بن الحسن الشيباني (189هـ = 805م) وهو الذي دوّن المذهب، وزفر بن الهذيل وغيرهم. ومسألة توثيق أبي حنيفة في رواية الحديث أفردنا لها مقالاً خاصاً. 

 

قال شيخ الإسلام: «وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك. ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك. وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب». بل ذكر ابن عابدين الحنفي في "حاشيته" (1|67): «حصلت مخالفة الصاحبين لأبي حنيفة في نحو ثلث المذهب». مما يدلك على بعدهم عن التقليد الذي صار –فيما بعد– صفة مميزة لمذهب الحنفية، وإن كان موجوداً عند غيرهم كذلك. والذي أفسد المذهب الحنفي هم المعتزلة الذين انتسبوا له، ثم دمروه من الداخل. فيقول الكرخي: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ»! (الأصل للكرخي 152 ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي).

 

وهناك قصة مشهورة رواها ابن عبد البر في التمهيد (8|208) وفي جامع البيان (2|1209) فقال: وذكر عبد الرزاق قال: أنا معمر، عن أيوب قال: قال عروة... قال ابن عباس: «والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله. نحدثكم عن رسول الله (r)، وتُحَدِّثونا عن أبي بكرٍ وعمر؟!». وساق إسنادها ابن حزم في "حجة الوداع" (ص353) فقال: حدثنا حمام حدثنا الباجي حدثنا أحمد بن خال حدثنا الكشوري حدثنا الحذاقي حدثنا عبد الرزاق عن معمر... بنفس اللفظ. فيا لهف نفسي، ما يقول ابن عباس t لو سمع مقولة الكرخي؟ بل ماذا يقول لو قرأ للكوثري؟

انتشار المذهب الحنفي

 

كان أبا حنيفة معارضاً للدولة الأموية في آخرها، وقد حاول واليها إجباره على قبول منصب القضاء بالترغيب والترهيب. فأبى أبا حنيفة وتحمل ضرب السياط في سبيل ذلك. بل إنه قام بدعم ثورة زيد بن علي زين العابدين ضد الخليفة هشام بن عبد الملك. ثم جاء العباسيون إلى الكوفة، وكان خليفتهم السفاح اسماً على مسمى! فابتعد أبو حنيفة عن السلطة، ورفض أن يتولى القضاء للمنصور العباسي، رغم كل السبل التي اقتفاها لاحتوائه. فكلما ازدادوا إلحاحاً عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولي القضاء. بل قام بتشجيع الناس على عدم معارضة ثورة النفس الزكية، التي خرجت في المدينة ضد العباسيين. واستمر في معارضته حتى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه. وقيل: أنه مات مسموماً على أيدي العباسيين، والله أعلم.

 

مات أبو حنيفة دون أن يكون له مذهب يُعرف به وكان أتباعه يقتصرون على بعض الكوفيين. ثم إن السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي أكبر تلامذته، وهم: أبو يوسف القاضي (113-182هـ)، ومحمد بن الحسن الشيباني (131-189هـ)، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وإناطة القضاء والإفتاء بهم. وكان أبو يوسف قد انضم إلى السلطة العباسية أيام المهدي العباسي سنة 158، وظل على ولائه أيام الهادي والرشيد. وما زال يتقرب من الخليفة حتى ولاه منصب قاضي القضاة، حيث صار تعيين قضاة الدولة بأمره. فكان لا يولي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه. وهذا معناه تبني الدولة العباسية بأسرها لمذهب أبي يوسف الحنفي.

 

يقول ابن حزم كما في "نفح الطيب" (2|6): «مذهبان انتشرا –في بدء أمرهما– بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف، كانت القُضاة من قِبَلِهِ من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية. فكان لا يولّي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه. (ومذهب مالك...) والناس سُرّاعٌ إلى الدنيا. فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به...». قال ابن عبد البرّ: «كان أبو يوسف قاضي القضاة، قضى لثلاثة من الخلفاء، ولي القضاء في بعض أيام المهدي ثم للهادي ثم للرشيد. وكان الرشيد يكرمه ويجلّه، وكان عنده حظياً مكيناً. لذلك كانت له اليد الطولى في نشر ذكر أبي حنيفة وإعلاء شأنه، لما أوتي من قوة السلطان، وسلطان القوة».

 

لقد انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، بالإضافة لمذهب مالك في الحجاز. فلما مات مالك، صار المذهب الحنفي المذهب الرسمي الوحيد. فانتشر في العراق وفي مشرقها من بلاد العجم: فارس وما وراء النهر (تركستان) وأفغانستان والهند. كما كان المذهب الرسمي لعدد من دول المشرق كدولة السلاجقة، والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية. وبسبب فتواه الذي أجاز الخلافة لغير قريش، استحسن الأتراك مذهبه خلال حكم الدولة العثمانية واعتبروا المذهب الحنفي مذهب الدولة. ثم أخذوا يحملون الناس على اعتناق مذهبه، حتى أصبح أكبر مذهب إسلامي له أتباع بين المسلمين، بسبب طول فترة حكم الدولة العثمانية الذي امتد حوالي سبعة قرون من الـزمن. بل بلغ بهم الأمر إلى فرض قراءة حفص عن عاصم، بدلاً من القراءات المنتشرة في العالم الإسلامي (وبخاصة قراءة الدوري)، لمجرد أن أبا حنيفة كان يقرأ بها! ونشر الأتراك مذهبه في شرق أوربا والعراق وشمال الشام، لكنهم فشلوا في فرضه في المناطق البعيدة عن نفوذهم كالجزيرة وإفريقيا.

 

المفاضلة بين أبي حنيفة ومالك

 

 هذه القصة الشهيرة قد وقع فيها اضطراب عظيم في ألفاظها، وأصحها ما أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1|12) عن ابن عبد الحكم بغير واسطة، ونقله الذهبي في السير، وقد اعتمدنا على لفظه، وهو الذي رجحه المعلمي. وأخرج القصة ابن عبد البر في الانتقاء (ص23) من نفس الطريق بغير هذا اللفظ. وأخرجها ابن الجوزي  في "مناقب أحمد" (ص498) من نفس الطريق بغير هذا اللفظ. وأخرجها الهروي في "ذم الكلام" من طريق الربيع عن الشافعي بغير هذا اللفظ. وأخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد" (2|177) من طريق الأبار عن يونس بن عبد الأعلى بلفظ مغاير جداً، وقال في آخره «أو كلاماً هذا معناه» أي أنه ينقل بالمعنى، ولا أراه أصاب المعنى أيضاً. ورواها ابن عبد البر في الانتقاء (ص24) عن محمد بن الربيع ومحمد بن سفيان عن يونس، بلفظ أقرب لرواية الربيع. وأما الحنفية فروايتهم مختلفة جداً. إذ روى القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد العامري في "مبسوطه" أن الشافعي سأل محمداً: «أيما أعلم مالك أو أبو حنيفة؟». فقال محمد: «بماذا؟». قال: «بكتاب الله». قال: «أبو حنيفة». فقال: «من أعلم بسنة رسول الله r؟». فقال: «أبو حنيفة أعلم بالمعاني، ومالك أهدى للألفاظ».

قال الذهبي: قال ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: «أيهما بالقرآن أعلم، صاحبنا أو صاحبكم؟» يعني أبا حنيفة ومالكاً. قلت: «على الإنصاف؟». قال: «نعم». قلت: «أنشدك بالله، من أعلم بالقرآن؟». قال: «صاحبكم». قلت: «نعم». قلت: «مَن أعْلَمَ بالسّنة؟». قال: «صاحبكم». قلت: «فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدّمين؟». قال: «صاحبكم». قلت: «فلم يبق إلا القياس. والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء. فمن لم يعرف الأصول، على أي شيء يقيس؟».

فقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8|112): معقباً على القصة: «وعلى الإنصاف، لو قال قائلٌ: بل هما سواء في عِلم الكتاب. والأول (أبو حنيفة) أعلم بالقياس. والثاني (مالك) أعلم بالسنة. وعنده عِلمٌ جَمٌّ من أقوال كثيرٍ من الصحابة. كما أن الأول أعلمُ بأقاويل علي وابن مسعود وطائفةٍ ممن كان بالكوفة من أصحاب رسول الله r. فرضي الله عن الإمامين، فقد صِرنا في وقتٍ لا يقدِرُ الشخص على النطق بالإنصاف. نسأل الله السلامة».

أقول: إن كان السؤال عن فهم كليهما للأحكام التي في كتاب الله، فهما سواء كما ذكر الذهبي. والظاهر أن السؤال عن لغة القرآن، فمالك أعلم بالعربية من أبي حنيفة، وإن كان يلحن. وما وصل أبو حنيفة ولا مالك لمرتبة محمد بن الحسن والشافعي في الفصاحة وإتقان اللغة العربية. ولا يعني تقصير أبي حنيفة في لغة العرب تفضيل غيره في المذاهب، إذ المذهب الحنفي هو مجموع آراء فقهاءه الثلاثة (أبو حنيفة وصاحبيه). ومحمد بن الحسن كان غاية في الفصاحة. قال عنه الشافعي: «ما رأيت أفصح منه. كنت إذا رأيته يقرأ، كأن القرآن نزل بلُغَتِه».

أما في السنة، فلا خلاف بين الطرفين أن مالك أحفظ من أبي حنيفة وأتقن للألفاظ وأضبط للمتون. والحديث الصحيح الذي وقع لمالك أكثر مما وقع لأبي حنيفة أيضاً. وشيوخ مالك أكثر وأوثق من شيوخ أبي حنيفة. بل غالب رواية أبي حنيفة هي عن شيخه حماد بن أبي سليمان، وهو فقيه غلبت عليه الرواية بالمعنى. ثم إن أكثرها مراسيل إبراهيم النخعي. وقد كان من منهج مالك قبول المراسيل إذا اشتهرت في المدينة، وكذلك كان أبو حنيفة يقبل المرسل المشهور في الكوفة. فمن هنا دخلت الكثير من الأحاديث الضعيفة على الإمامين، ولكن الأحاديث الضعيفة في الكوفة أكثر.

وكان أبو حنيفة أعلم من مالك بفقه علي وابن مسعود رضي الله عنهما. ومالك كان له موقف من علي t، وعلى الرغم من أن علياً t قد أمضى أكثر حياته في المدينة وبها أولاده، فرواية مالك عنه نادرة، بعكس رواية أبي حنيفة والكوفيين. لكن مالك كان أعلم بالصحابة المدنيين من أمثال ابن عمر وزيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. وبذلك يتبين لنا صحة ما قاله محمد بن الحسن على التفصيل الذي ذكرناه. وأما في القياس وفي الغوص في دقائق الأمور، فلا شك أن أبا حنيفة أعلم من مالك بالقياس، وهو شيء لم يختلف فيه ابن الحسن والشافعي. قال الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». وقال الإمام الذهبي: «الإمامة في الفقه ودقائقه، مسلّمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه». وقال كذلك: «فرضي الله عن الإمامين، فقد صِرنا في وقتٍ لا يقدِرُ الشخص على النطق بالإنصاف. نسأل الله السلامة». أقول: آمين.

أهم كتب المذهب الحنفي

أول من كتب في الفقه الحنفي هو أبو يوسف القاضي، لكنها كتيبات صغيرة في مواضيع محددة، لم يصلنا منها (فيما أعلم) إلا "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" و"الخراج" و"الآثار" و"الرد على سير الأوزاعي".

وإنما أخذ العلماء مذهب أبي حنيفة عن محمد بن الحسن. فإن الحنفية ليس في أيديهم إلا كتبه. وهي على قسمين: كتب رويت عنه واشتهرت حتى اطمأنت إليها نفوسهم تعرف بكتب "ظاهر الرواية" وهي: كتاب "المبسوط" ويعرف عند الحنفية بـ"الأصل"، وهو أطول كتاب وأهمه. وكتاب "الجامع الصغير" وهو  من أهم كتبهم على صغره. وقد رواه محمد بن الحسن عن أبي يوسف، وسمعه منه ابن معين. وكتاب "الجامع الكبير"، وهو أطول من الصغير. وهذه الكتب هي أساس مذهب الحنفية رغم خلوها من الأدلة والجدل، وهي التي اشتغل بها علماؤهم وعليها عولوا شرحاً وتعليقاً. وكلها مطبوعة، أما كتاب "الزيادات" فمخطوط. يقول ابن عابدين (1|52): «و كل تأليف لمحمد وصف بالصغير فهو من روايته عن أبي يوسف عن الإمام، و ما وصف بالكبير فروايته عن الإمام بلا واسطة».

وله كتاب "السير الكبير" (لم يطبع وإنما طُبِعَ شرحه للسّرخسي). يقول ابن عابدين (1|72): «و ذكر الإمام شمس الأئمة السرخسي في أول شرحه على السير الكبير: أن السير الكبير هو آخر تصنيف صنفه محمد في الفقه». وله كتاب "السير الصغير" وتشتمل على أحكام الجهاد وشريعة الحرب. ثم كتب أخرى مثل: كتاب "الحجة على أهل المدينة"، وهو كتاب كبير في الرد على مالك بن أنس فقط وليس كل أهل المدينة. وله كتاب "الآثار" الذي يحتج به الحنفية، وهو في الأصل لأبي يوسف. والقسم الثالث من كتبه لم تشتهر عنه، وهي الكتب التي تعرف عند الحنفية بالنوادر، وهي في درجة ثانية من الاعتماد عندهم. ومن كتبه المطبوعة كذلك: "الأَمالي" و"المخارج في الحيل" و"الأَصل" و"الكسب"، و"الموطأ" حيث روى موطأ مالك (بعد وفاة مالك) وعلق على رأي مالك إما موافقة أو مخالفة.

وقد قام الحاكم الشهيد محمد بن أحمد المروزي (ت334هـ) باختصار كتاب "المبسوط" (مع باقي كتب ظاهر الرواية) و أسماه بـ "الكافي" (وليس مطبوعاً). ثم شرحه السُّرَخْسي (ت490هـ) في "المبسوط في الفقه" وهو 14 مجلداً. وقد استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل، وعبارة واضحة، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهبين الشافعي والمالكي. والمبسوط من أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي، والفقه المقارن. وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه.

وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الامة السرخسي

 ومن الكتب المهمة لمعرفة فقه الأحناف المتقدمين هو كتاب شرح معاني الآثار، للطحاوي. وهو للدفاع عن حجج الأحناف وإظهار أدلتهم النقلية والعقلية. وأما كتب المتأخرين فلعل أشهرها حاشية ابن عابدين الدمشقي. وعليه الاعتماد في الفتوى في الكثير من بلاد الحنفية، وله أهمية في تبيين المعتمد في المذهب عند المتأخرين. ومن الممكن الاستفادة من كتاب "إعلاء السنن"، للعثماني. وهذا الكتاب يجمع كل أدلة الأحناف مع تخريجها وفق منهجهم الخاص. وهو عبارة عن مجموعة ضخمة للغاية من الآثار والأحاديث (18 مجلد).

وأنا أنصح بتجنب ترجيحات المتأخرين لضعف التحقيق عند المتأخرين. فهي وإن اشتهرت بين المتأخرين والمعاصرين، فأكثرها مخالف لما كان عليه الأئمة الأوائل. وهذا ليس في الفقه الحنفي وحده بل عند سائر الذاهب. وأحذر بشكل خاصة في المذهب الشافعي من ترجيحات الهيتمي والرملي (رغم شهرتهما) لأنها على ضعفها كثيرا ما تخلو من دليل (وبخاصة فتاوى الرملي). والصواب هو العودة لكتب الشافعي نفسه، فنسبتها أقوى للإمام! ومن أراد مذهب أبا حنيفة فعليه بكتب المتقدمين من أصحابه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن، بل حتى من جاء بعدهم كالطحاوي أو المتوسطين كالسرخسي. لكن بشكل عام (مع بعض الاستثناءات) كلما تأخر الزمن كلما ضعف التحقيق. طبعاً هناك استثناءات لكن هذا الغالب. خصوصا عند الأحناف بسبب تأثرهم بالمعتزلة (الذين غالبهم حنفية). ومن تأمل تحقيقات المتأخرين يجد فيها العجائب. فتجد الواحد منهم ينكر أن يكون أبا حنيفة قد قال كذا، بينما يكون قد نقل عنه هذا القول محمد بن الحسن في السير! وهكذا، وهو نتيجة عدم اطلاعهم على كتب أئمتهم الأوائل.

قال الشيخ الأديب علي الطنطاوي: «كنت قبل أن ألي القضاء وبعد أن أنهيت عهد الطلب وأيام الدراسة، كنت عاكفاً على كتب الأدب والتاريخ. قلما أنظر في كتاب فقه أو أصول إلا إن احتجت إلى مراجعة مسألة أو تحقيقها. ولكني كنت على ذلك أقرأ في اليوم عشرين أو ثلاثين صفحة من مثل كتاب الخراج لأبي يوسف أو كتاب الأم للشافعي أو المبسوط للسرخسي، لا لاستيعاب ما فيه، ولكن إعجاباً بأسلوبه واستئناساً ببلاغة عبارته وسلامة لغته. كذلك كانت كتبنا الأولى، ثم فسد الأسلوب وغلبت عليه العجمة».
وقال في موضع آخر: «ولقد ظهر في هذه القرون الثلاثة علماء لا يحصيهم العد، ألفوا مؤلفات لا يحيط بها الحصر. ولم يكن هؤلاء جميعاً -على أغلب الظن- من هو أوثق في الفقه وأنفذ فيه فكراً من ابن عابدين، الذي كتب الله لمؤلفاته أن تكون أكثر الكتب ذيوعاً وأعهما نفعاً، وأن تكون حاشيته المشهورة عمدة المفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، لا يضارعها في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها كتاب من كتب الفقهاء المتأخرين في المذهب الحنفي، على بعض العجمة في أسلوبها وبعده عن الأسلوب العربي النير الذي تجدون مثاله في المبسوط للسرخسي الحنفي أو في كتاب الأم للشافعي».
وقال في موضع آخر: «كانت أكثر الكتب التي يعكفون عليها، بعيدة عن البيان بعد الأرض عن السماء معقدة العبارة أعجمية السبك، وإن كانت عربية الكلمات. فيأتي من يوضح غامض المتن، فيدخل جملة من عنده بين كل جملتين منه، كما يرقعون اليوم الجلد المحروق من الإنسان بقطعة من جلده السليم، فينجح الرتق أو يظهر الفتق. وهذا هو "الشرح". ويأتي من يضع لهذا الشرح حواشي وذيولا يطوله فيها، فيجمله أو يقبحه ويعطله، وهذه هي "الحاشية". ويبدو ضعف الإنشاء في القرون المتأخرة، حتى في مثل حاشية ابن عابدين، التي هي اليوم عمدة المفتين على المذهب الحنفي. ثم يجيء من يعلق على هذه الحاشية تعليقات، وتسمى "التقريرات". فلا الأسلوب عربي فصيح، ولا المنهج قويم العبارة. وانظروا "المبسوط"للسرخسي أو "البدائع" للكاساني، ثم انظروا "الحاشية". أو انظروا في مذهب الشافعية "الأم"، ثم "مغني المحتاج". إن ما بينهما كالذي بين "أسرار البلاغة" و"شروح التلخيص". في كتب الأولين البلاغة والبيان والأسلوب العربي النير، وفي حواشي الآخرين فيها ما تعرفون».

 

إبطال أسطورة أخذ أبي حنيفة من جعفر الصادق

يزعم بعض الروافض المعاصرين كذباً أن أبا حنيفة قد أخذ العلم من جعفر الصادق، وأن مالكاً قد أخذ من أبي حنيفة، وأن الشافعي قد أخذ علمه من مالك، وأنا أحمد قد أخذ عمله من الشافعي. وعمدتهم في ذلك كتاب "التحفة الإثني عشرية" فقد جاء في مختصره للآلوسي (ص8): «وهذا أبو حنيفة رضي الله عنه -وهو هو بين أهل السنة- كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: "لو السنتان لهلك النعمان". يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه». وهذا الكلام الذي ذكره ليس له أصل ولا أساس ولا يعرف لا في كتب السنة ولا في كتب الشيعة. ولذلك لم تشتهر هذه المقولة إلا عند الرافضة المعاصرين، ولم يذكرها سلفهم الفاسد. وهذه الفرية التي يذكرونها من أن أصل علم الأئمة الأربعة مأخوذ عن جعفر الصادق، قد فندها ووضحها الإمام الهمّام أحمد بن تيمية رضي الله عنه في منهاج السنة النبوية (3|140)، قال: «هذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب. فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد. وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به. وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة. ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه، مع شهرته بالعلم. فكيف يتعلم من موسى بن جعفر؟!».

 

وفي المنهاج (7|529): «قال الرافضي: "و في الفقه الفقهاء يرجعون إليه". و الجواب: أن هذا كذب بيِّن. فليس في الأئمة الأربعة و لا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه في فقهه. أما مالك فإن علمه عن أهل المدينة. و أهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل اخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة، عن زيد و عمر و ابن عمر و نحوهم. أما الشافعي فإنه تفقه أولاً على المكيين أصحاب ابن جريج كسعيد بن سالم القداح و مسلم بن خالد الزنجي. و ابن جريج أخذ ذلك عن أصحاب ابن عباس كعطاء و غيره. و ابن عباس كان مجتهداً مستقلاً، و كان إذا أفتى بقول الصحابة أفتى بقول أبي بكر و عمر، لا بقول علي، و كان ينكر على علي أشياء. ثم أن الشافعي أخذ عن مالك، ثم كَتَب كُتُب أهل العراق و أخذ مذاهب أهل الحديث، و اختار لنفسه. و أما أبو حنيفة، فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان، و حماد عن إبراهيم، و إبراهيم عن علقمة، و علقمة عن ابن مسعود. و قد اخذ أبو حنيفة عن عطاء و غيره. و أما الإمام أحمد، فكان على مذهب أهل الحديث. أخذ عن ابن عيينة، و ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس و ابن عمر. و أخذ عن هشام بن بشير، و هشام عن أصحاب الحسن و إبراهيم النخعي. و أخذ عن عبد الرحمن بن مهدي و وكيع بن الجراح و أمثالهما. و جالس الشافعي، و أخذ عن أبي يوسف، و اختار لنفسه قولاً. و كذلك إسحاق بن راهويه وأبو عبيد ونحوهم. و الأوزاعي و الليث أكثر فقههما عن أهل المدينة و أمثالهم، لا عن الكوفيين.

فصل. قال الرافضي: "أما المالكية فاخذوا علمهم عنه و عن أولاده". و الجواب: أن هنا كذب ظاهر. فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه و لا عن أحد أولاده إلا قليل جداً. و جمهور ما فيه عن غيرهم فيه عن جعفر تسعة أحاديث. و لم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر. و كذلك الأحاديث التي في الصحاح و السنن و المساند، منها قليل عن ولده. و جمهور ما فيها عن غيرهم.

فصل. قال الرافضي: "و أما أبو حنيفة فقرأ على الصادق". و الجواب: أن هذا من الكذب الذي يعرفه من له أدنى علم. فإن أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق. توفي الصادق سنة ثمان و أربعين (148هـ)، و توفي أبو حنيفة سنة خمسين و مائة (150هـ). و كان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق. و ما يعرف أن أبا حنيفة اخذ عن جعفر الصادق و لا عن أبيه مسألة واحدة. بل أخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح و شيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان. و جعفر بن محمد كان بالمدينة.

فصل. قال الرافضي: "و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن". و الجواب: أن هذا ليس كذلك. بل جالسه و علاف عرف طريقته و ناظره. و أول من أظهر الخلاف لمحمد بن الحسن و الرد عليه، هو الشافعي. فإن محمد بن الحسن أظهر الرد على مالك و أهل المدينة، و هو أول من عُرِفَ منه رد على مخالفيه (أقول بل الأوزاعي رد على أبي حنيفة ورد عليه أبو يوسف). فنظر الشافعي في كلامه و انتصر لِمَا تبيّن له أنه الحق من قول أهل المدينة. و كان انتصاره في الغالب لمذهب أهل الحجاز و أهل الحديث. ثم أن عيسى بن إبان صنف كتابا تعرض فيه بالرد على الشافعي، فصنف ابن سريج كتاباً في الرد على عيسى بن إبان. و كذلك أحمد بن حنبل لم يقرأ على الشافعي، لكن جالسه كما جالس الشافعي محمد بن الحسن و استفاد كل منهما من صاحبه. و كان الشافعي و أحمد يتفقان في أصولهما أكثر من اتفاق الشافعي و محمد بن الحسن. و كان الشافعي أسن من أحمد ببضع عشرة سنة. و كان الشافعي قدم بغداد أولاً سنة بضع و ثمانين في حياة محمد بن الحسن بعد موت أبي يوسف، ثم قدمها ثانية سنة بضع و تسعين. و في هذه القدمة اجتمع به أحمد. و بالجملة فهؤلاء الأئمة الأربعة، ليس فيهم من أخذ عن جعفر شيئاً من قواعد الفقه. لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره. و أحاديث غيره أضعاف أحاديثه. و ليس بين حديث الزهري و حديثه نسبة لا في القوة و لا في الكثرة. و قد استراب البخاري في بعض حديثه لما بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام فلم يخرج له. و لم يُكذَب على أحد ما كُذِب على جعفر الصادق، مع براءته مما كُذِب عليه. فنُسِبَ إليه علم البطاقة و الهفت و الجدول و اختلاج الأعضاء و منافع القران و الكلام على الحوادث و أنواع من الإشارات في تفسير القران وتفسير قراءة السورة في المنام. وكل ذلك كذب عليه. وأيضاً جعفر الصادق أخذ عن أبيه وعن غيره، كما قدمنا. وكذلك أبوه أخذ عن علي بن الحسين وغيره. وكذلك علي بن الحسين أخذ العلم عن غير الحسين أكثر مما أخذ عن الحسين. فان الحسين قتل سنة إحدى وستين، وعلي صغير. فلما رجع إلى المدينة، أخذ عن علماء أهل المدينة. فإن علي بن الحسين أخذ عن أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وصفية وأخذ عن ابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي رافع مولى النبي (r) ومروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وغيرهم. وكذلك الحسن كان يأخذ عن أبيه وغيره حتى أخذ عن التابعين. وهذا من علمه ودينه رضي الله عنه. و أما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة. وقال الزهري: "لم أدرك بالمدينة أفضل من علي بن الحسين". وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: "هو أفضل هاشمي رأيته بالمدينة". وقال حماد بن زيد: سمعت عن علي بن الحسين، -وكان أفضل هاشمي أدركته- يقول: "أيها الناس، أحبونا حب الإسلام. فما برح بنا حبكم، حتى صار علينا عاراً". ذكره محمد بن سعد في "الطبقات": أنبأنا عارم بن الفضل أنبأنا حماد. ثم قال ابن سعد: "قالوا: وكان علي بن الحسين ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً". وروى عن شيبة بن نعامة قال: "كان علي بن الحسين يبخل. فلما مات وجدوه يقوت أهل مئة بيت بالمدينة في السر".

فصل. قال الرافضي: "ومالك قرأ على ربيعة، وربيعة على عكرمة، وعكرمة على ابن عباس، وابن عباس تلميذ علي". والجواب: أن هذا من الكذب. فإن ربيعة لم يأخذ عن عكرمة شيئاً. بل ولا ذكر مالك عن عكرمة في كتبه إلا أثراً أو أثرين. ولا ذكر اسم عكرمة في كتبه أصلاً، لأنه بلغه عن ابن عمر وابن المسيب أنهما تكلما فيه، فتركه لذلك. وكذلك لم يخرج له مسلم. ولكن ربيعة أخذ عن سعيد بن المسيب و أمثاله من فقهاء أهل المدينة. وسعيد كان يرجع علمه إلى عمر. وكان قد أخذ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة، وتتبع قضايا عمر من أصحابه، وكان ابن عمر يسأله عنها. ولهذا يقال أن موطأ مالك أخذت أصوله عن ربيعة عن سعيد بن المسيب عن عمر. وقال الرشيد لمالك: "قد أكثرت في موطئك عن ابن عمر، وأقللت عن ابن عباس: فقال: "كان أورع الرجلين يا أمير المؤمنين". فهذا موطأ مالك يبيّن أن ما ذكره عن مالك من أظهر الكذب. وقول "ابن عباس تلميذ علي" كلام باطل. فإن رواية ابن عباس عن علي قليلة. وغالب (علمه) أخذه عن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة. وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر. ونازع علياً في مسائل، مثل ما أخرج البخاري في صحيحه قال: أتى علي بقوم زنادقة فحرقهم. فبلغ ذلك بن عباس فقال: أما لو كنت لم أحرقهم لنهي رسول الله (r) أن يعذب بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله (r): من بدل دينه فاقتلوه. فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن عباس ما أسقطه على الهنات». انتهى.

 

ثم لو سلمنا جدلا أن المذاهب الأربعة مأخوذة عن جعفر الصادق، فهذا في الحقيقة حجة على الرافضة لا لهم. لأن ما رواه الأئمة الأربعة حينئذ من فقه جعفر الصادق مُباينٌ لما ينسبه الرافضة إليه. والأئمة الأربعة عند أهل السنة بلا شك أوثق وأجل من الرافضة الذين يروون عن جعفر. وعليه فلو أراد السني أن يكون جعفري الفقه، فما عليه إلا أن يتبع أحد المذاهب السنية الأربعة لأنها مأخوذة عن جعفر الصادق! وهذا عكس ما يريده الرافضي الخبيث.
 

 

المؤاخذات على المذهب الحنفي

يُنكر على أبي حنيفة توسعه في الأخذ بالرأي، ولجوءه إلى الحيل لاستنباط الحكم. وقد ألف خصوم الحنفية الكثير من الكتب في الرد عليهم. فنرى الجويني (الذي يلقبه الأشاعرة بإمام الحرمين) يطعن في المذهب الحنفي ويكتب كتابًا اسمه "مغيث الخلق" يوجب فيه على الناس اتباع مذهب الشافعي ونبذ ما سواه من المذاهب. ومما قاله فيه: «من انغمس في مستنقع نبيذ، ولبس جلد كلب غير مدبوغ وأحرم بالصلاة مبدلاً بصيغة التكبير تركياً أو هندياً، ويقتصر في القرآن على ترجمة (مدهامتان) ثم يترك الركوع وينقر نقرتين لا قعود بينهما، ولا يقرأ التشهد، ثم يُحدث (يضرط) عمدًا في آخر صلاته بدل التسليم، أو انقلت منه (الضراط) فيعيد الوضوء في أثناء صلاته...» قال الجويني: «والذي ينبغي أن يقطع به كل ذي دين أن مثل هذه الصلاة لا يبعث الله بها نبياً...» وقد زعم (أي أبو حنيفة) «أن هذا القدر أقل الواجب، فهي الصلاة التي بعث الله النبي r وما عداها أدابٌ وسنن».

فانبرى له الكوثري ينافح عن المذهب الحنفي وكتب رسالة أسماها: "إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق" رد فيها على الجويني. وهذا من نتائج التعصب المذهبي المقيت، من الطرفين. قال الكوثري: «فإمام الحرمين والغزالي والرازي لا يتعمدون الكذب فيما يكتبون –فيما أرى– لكن من جهل أدلة الأحكام في المسائل الخلافية، وبعد عن معرفة الحديث والتاريخ، وما إلى ذلك من العلوم التي لا بد من معرفتها لمن يريد السباق في هذا الميدان. إذا خاض في مثل هذا المطلب تعويلاً على يده في النظر فقط، هاج وماج ظناً بالأخبار الكاذبة أنها صادقة، وفضح نفسه بسوقه الأكاذيب والتقاطه الساقطات، فيهوي في هوة الجهل والخذلان! فيصدق فيه المثل "على نفسها جنت براقش"». وقال الكوثري في الحاشية: «بيد أن صلاته ليست كما وصفها الباهت الأثيم». ثم قال: «بل أكتفي بدفع الشناعة وتكذيب الكاذب وإعادة الحق إلى نصابه».

وكأمثلة على تلك الحيل التي انتقدت على الحنفية، انظر المحلى (11|250):

قال أبو محمد حدثنا البغوي نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزان نا ابن جريج ني محمد بن الحرث بن سفيان عن أبي سلمة ابن سفيان أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت يا أمير المؤمنين أقبلت أسوق غنما لي فلقيني رجل فحفن لي حفنة من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر ثم أصابني فقال عمر ما قلت فأعادت فقال عمر بن الخطاب ويشير بيده مهد ثم تركها وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الوليد بن عبد الله وهو ابن جميع عن أبي الطفيل أن امرأة أصابها الجوع فأتت راعيا فينبغي الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها قالت فحثى لي ثلاث حثيات من تمر وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع فأخبرت عمر فكبر وقال مهر مهر مهر ودرأ عنها الحد قال أبو محمد رحمه الله قد ذهب إلى هذا أبو حنيفة ولم ير الزنى إلا ما كان مطارفة وأما ما كان فيه عطاء أو استئجار فليس زنى ولا حد فيه وقال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأصحابنا وسائر الناس هو زنى كله وفيه الحد وأما المالكيون والشافعيون فعهدنا بهم يشنعون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف إذا وافق تقليدهم وهم قد خالفوا عمر رضي الله عنه ولا يعرف له مخالف عن الصحابة رضي الله عنهم بل هم يعدون مثل هذا إجماعا ويستدلون على ذلك بسكوت من بالحضرة من الصحابة عن النكير لذلك فإن قالوا إن أبا الطفيل ذكر في خبره أنها قد كان جهدها الجوع قلنا لهم وهذا أيضا أنتم لا تقولون به ولا ترونه عذرا مسقطا للحد فلا راحة لكم في رواية أبي الطفيل مع أن خبر أبي الطفيل ليس فيه أن عمر عذرها بالضرورة بل فيه أنه درأ الحد من أجل التمر الذي أعطاها وجعله عمر مهرا وأما الحنفيون المقلدون لأبي حنيفة في هذا فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد يوجد لها نظير أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا بأن ثلاث حثيات من تمر مهر وقد خالفوا هذه القضية بعينها فلم يجيزوا في النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرا بل منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك

 فهذا هو الاستخفاف حقا والأخذ بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا وترك ما اشتهوا تركه من قول الصاحب إذا اشتهوا فما هذا دينا وأف لهذا عملا المهر في الحلال لا يكون إلا عشرة دراهم لا أقل ويرون الدرهم فأقل مهلا في الحرام ألا إن هذا هو التطريق إلى الزنى وإباحة الفروج المحرمة وعون لإبليس على تسهيل الكبائر وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا وهما في أمن من الحد بأن يعطيها درهما يستأجرها به للزنى فقد علموا الفساق حيلة في قطع الطريق بأن يحضروا مع أنفسهم امرأة سوء زانية وصبيا بغاء ثم يقتلوا المسلمين كيف شاؤوا ولا قتل عليهم من أجل المرأة الزانية والصبي البغاء فكلما استوقروا من الفسق خفت أوزارهم وسقط الخزى والعذاب عنهم ثم علموهم وجه الحيلة في الزنى وذلك أن يستأجرها بتمرتين وكسرة خبز ليزني بها ثم يزنيان في أمن وذمام من العذاب بالحد الذي افترضه الله تعالى ثم علموهم الحيلة في وطء الأمهات والبنات بأن يعقدوا معهن نكاحا ثم يطؤنهن علانية آمنين من الحدود ثم علموهم الحيلة في السرقة أن ينقب أحدهم نقبا في الحائط ويقف الواحد داخل الدار والآخر خارج الدار ثم يأخذ كل ما في الدار فيضعه في النقب ثم يأخذه الآخر من النقب ويخرجان آمنين من القطع ثم علموهم الحيلة في قتل النفس المحرمة بأن يأخذ عودا صحيحا فيكسر به رأس من أحب حتى يسيل دماغه ويموت ويمضي آمنا من القود ومن غرم الدية من ماله ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الأقوال الملعونة وما قال أئمة المحدثين ما قالوا باطلا ونسأل الله السلامة ولو أنهم تعلقوا في كل ما ذكرنا بقرآن أو سنة لأصابوا بل خالفوا القرآن والسنة وما تعلقوا بشيء إلا بتقليد مهلك ورأي فاسد وإتباع الهوى المضل

ومن أمثلة هذه الحيل ما ذكره المعلمي في كتابه التنكيل. وهناك كتاب "الحيل"، ألفه أحد الزنادقة، ونسبه إلى أبي حنيفة ترويجاً له. وكان من أسباب تحريض العلماء عليه. ولا شك أن مؤلف هذا الكتاب كافر، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك. لكن يستحيل أن تصح نسبته لأبي حنيفة أو لأحد من كبار أصحابه. فكثير مما فيه ينكرونه ولا يقبلون فيه. لكن الذي شجع الزنديق على نسبته لأبي حنيفة، كثرة الحيل جداً عنده وعند أصحابه. وهذا مما يجب أن يُحذر في المذهب.

قال الإمام الذهبي في "زغل العلم": «الفقهاء الحنفية: أولو التدقيق والرأي والذكاء. والخير من مثلهم، إن سلموا من التحيل والحيل على الربا وإبطال الزكاة ونقر الصلاة والعمل بالمسائل التي يسمعون النصوص النبوية بخلافها. فيا رجل دع ما يريبك إلى مالا يريبك، واحتط لدينك، ولا يكن همك الحكم بمذهبك. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. فإذا عملت بمذهبك في المياه والطهارة والوتر والأضحية، فأنت أنت! وإن كانت همتك في طلب الفقه: الجدال والمراء والانتصار لمذهبك على كل حال وتحصيل المدارس والعلو، فما ذا فقها أخروياً، بل ذا فقه الدنيا. فما ظنك تقول غداً بين يدي الله تعالى: "تعلمت العلم لوجهك وعلّمته فيك"؟ فاحذر أن تغلط وتقولها، فيقول لك: "كذبت. إنما تعلمت ليقال: عالم، وقد قيل". ثم يؤمر بك مسحوباً إلى النار، كما رواه مسلم في الصحيح. فلا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب وأحبها إلى الله تعالى، فإنك لا دليل لك على ذلك ولا لمخالفك أيضاً. بل الأئمة رضي الله عنهم على خير كثير، ولهم في صوابهم أجران على كل مسألة، وفي خطئهم أجر على كل مسألة».