التفضيل بين أئمة رجال الحديث

رؤساء الناس

قال يحيى بن أكثم: «كان في الناس رؤساء: كان سفيان الثوري رأساً في الحديث، وأبو حنيفة رأساً في القياس، والكسائي رأساً في القُـرَّاء. فلم يبق اليوم رأس في فنٍّ من الفنون». قال الإمام الذهبي معلقاً: «كان بعد طبقة هؤلاء رؤوس: فكان عبد الرحمن بن مهدي رأساً في الحديث، وأبو عبيدة معمر رأساً في اللغة، والشافعي رأساً في الفقه، ويحيى اليزيدي رأساً في القراءات، ومعروف الكرخي رأساً في الزهد. ثم كان بعدهم ابن المديني رأساً في الحديث وعلله، وأحمد بن حنبل رأساً في الفقه والسنة، وأبو عمر الدوري رأساً في القراءات، وابن الأعرابي رأساً في اللغة، والسري السقطي رأساً في الزهد. ويمكن أن نذكر في كل طبقةٍ بعد ذلك أئمة على هذا النمط، إلى زماننا. فرأس المحدثين اليوم أبو الحجاج القضاعي المزي، ورأس الفقهاء القاضي شرف الدين البارزي، ورأس المقرئين جماعة، ورأس العربية أبو حيان الأندلسي، ورأس العباد الشيخ علي الواسطي. ففي الناس بقايا خير، ولله الحمد».

 

ربانيو الحديث

قال أبو عبيد القاسم ابن ســلام: «ربانيو الحديث أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل، وأحسنهم سـياقاً للحديث وأداءً: علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً لكتاب: أبو بكر بن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث من سقيمه: يحيى بن معين». وقال كذلك: «انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبى شيبة أسردهم له، و أحمد بن حنبل أفقههم فيه، و علي بن المديني أعلمهم به (أي بعلله)، و يحيى بن معين أكتبهم له».

قال عَمْر الناقد: «ما كان في أصحابناً أحفظ للأبواب من أحمد بن حنبل، و لا أسرد للحديث من الشاذكوني، و لا أعلم بالإسناد من يحيى. ما قَدِرَ أحدٌ يقلب عليه إسناداً قط». و قال أحمد: «كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين، و أحفظنا للأبواب سليمان الشاذكوني، و كان عليٌّ بن المديني أحفظنا للطوال».

قال أبو بكر الإسماعيلي: سُئِل عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني عن يحيى، و علي، و أحمد، و أبي خيثمة، فقال: «أما علي فأعلمهم بالحديث و العلل، و يحيى أعلمهم بالرجال، و أحمد أعلمهم بالفقه، و أبو خيثمة من النبلاء».

وقال أبو علي صالح بن محمد البغدادي: «أعلم من أدركت بعلل الحديث: ابن المديني. وأفقههم في الحديث: أحمد بن حنبل. وأحفظهم عند المذاكرة: أبو بكر بن أبي شيبة. وأعلمهم بالرجال والكنى وتصحيف المشايخ: يحيى بن معين. و أحفظهم عند المذاكرة أبو بكر ابن أبي شيبة. وأقهرهم بالحديث سليمان الشاذكوني».

وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: ذاكرت أبي ليلة الحفاظ، فقال: يا بني، قد كان الحفظ عندنا، ثم تحول إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة. قلت: من هم؟ قال: «أبو زرعة ذاك الرازي، ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي». قلت: يا أبه فمن أحفظ هؤلاء؟ قال: «أما أبو زرعة فأسردهم، وأما البخاري فأعرفهم (أي بالصحيح والضعيف)، وأما عبد الله يعني الدارمي فأتقنهم، وأما ابن شجاع فأجمعهم للأبواب».

 

النسائي

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14\133): «لم يكن أحد في رأس الثلاثمئة أحفظ من النسائي. هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم ومن أبي داود ومن أبي عيسى (الترمذي). وهو جارٍ في مِضمارِ البخاري وأبي زرعة. إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي كمعاوية وعَمْرو، والله يسامحه».

وقال حمزة السهمي: «سُئِلَ الدراقطني إذا حدّثَ أبو عبد الرحمان النسائي وابن خزيمة بحديث، أيهما تقدمه؟». فقال: «أبو عبد الرحمان، فإنه لم يكن مثله، ولا أُقَدِّمُ عليه أحداً. ولم يكن في الورع مثله». وقال الدراقطني عنه كذلك: «كان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعلمهم بالحديث والرجال». وقال الدارقطني: «أبو عبد الرحمان مُقَدّمٌ على كل من يُذكَر بهذا العلم من أهل عصره».

 

أحمد بن حنبل

قال إسحاق بن راهويه: «كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا. فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة. فيقول يحيى بن معين من بينهم: "وطريق كذا". فأقول: "أليس قد صَحّ هذا بإجماعٍ مِنا؟". فيقولون: "نعم". فأقول: "ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فِقهه؟". فيبقون كلهم (أي صامتين) إلا أحمد بن حنبل».

قال سعيد بن عمرو البردعي يوماً لأبي زُرعة: «يا أبا زرعة، أنت أحفظ أم أحمد بن حنبل؟». قال: «بل أحمد بن حنبل». قال: «وكيف عَلِمتَ ذاك؟». قال: «وجَدتُ كُتُبَ أحمد بن حنبل، ليس في أوائل الأجزاء ترجمة أسماء المحدثين الذين سَمِعَ منهم. فكان يحفظ كل جزءٍ ممّن سمِع. وأما أنا فلا أقدر على هذا».

وسُئِلَ الحافظ محمد بن مسلم بن وارة عن علي بن المديني ويحيى بن معين أيهما كان أحفظ؟ فقال: «كان علي أسرد وأتقن. وكان يحيى بن معين أفهم بصحيح الحديث وسقيمه. وأجمعهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كان صاحب فقه وصاحب حفظ وصاحب معرفة».

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني: أيهما كان أحفظ؟». قال: «كانا في الحفظ متقاربين. وكان أحمد أفقه، وكان علي أفهم بالحديث».

قال هارون بن إسحاق الهمداني: «الكلام في صحة الحديث وسقيمه لأحمد بن حنبل وعلي بن المديني».

 

علي بن المديني

قال البخاري: «ما استصغرت نفسي عند أحدٍ إلا عِند علي بن المديني. ما سمعتُ الحديث من فيّ إنسانٍ أشهى عندي أن أسمعه من فيّ علي».

وقال عباس العنبري: «الشاذكوني أعلم بصغير الحديث. وعلي بن المديني أعلم بجليله». وقال عمرو الناقد: قَدِمَ الشاذكوني بغداد، فقال لي أحمد بن حنبل: «اذهب بنا إليه نتعلم منه نقد الرجال».

قال عبد الرحمن بن مهدي: «علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله r، و خاصة بحديث ابن عيينة».

 وقال الآجري: قيل لأبي داود: «علي أعلم أم أحمد؟». قال: «عليٌّ أعلم باختلاف الحديث من أحمد».

وقال أبو حاتم الرازي: «كان علي بن المديني علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل».

وقال ابن حجر في التقريب: «أعلم أهل عصره بالحديث وعلله».

وقال الذهبي في الميزان: «إليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي».

وقال ابن الأثير في اللباب: «وكان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول الله r».

 

يحيى بن معين

قال عبد الله بن الرومي: كنت عند أحمد، فجاء رجل فقال: «يا أبا عبد الله، انظر في هذه الأحاديث فإن فيها خطأ». قال: «عليك بأبي زكريا فإنه يعرف الخطأ». وكنت أنا وأحمد نختلف إلى يعقوب بن إبراهيم في "المغازي"، فقال أحمد: «ليت أن يحيى هنا». قلت: «وما تصنع به». قال: «يعرف الخطأ». وقال ابن الرومي: «ما رأيت أحداً قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى، و غيره كان يتحامل بالقول».

و قال علي: «كنت إذا قدمت إلى بغداد منذ أربعين سنة، كان الذي يذاكرني أحمد بن حنبل. فربما اختلفنا في الشيء، فنسأل أبا زكريا يحيى بن معين، فيقوم فيخرجه. ما كان أعرفه بموضع حديثه!».

قال العجلي: «ما خلق الله تعالى أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى بن معين. ولقد كان يجتمع مع أحمد و ابن المديني و نظرائهم، فكان هو الذي ينتخب لهم الأحاديث لا يتقدّمه منهم أحد. و لقد كان يُؤتى بالأحاديث قد خُلِطَتْ و تَلَبَّسَتْ فيقول: هذا الحديث كذا، و هذا كذا، فيكون كما قال».

وسئل ابن وارة عن: ابن معين وابن المديني أيهما أحفظ؟ فقال: «كان علي أسرد وأتقن، وكان يحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه».

وقال الآجري: قلت لأبي داود: «أيما أعلم بالرجال: علي أو يحيى؟» قال: «يحيى عالمٌ بالرجال. وليس عند عليٍّ من خَبَرِ أهل الشام شيء».

 

البخاري

قال مهيار: «رأيت قتيبة مع يحيى بن معين، وهما جميعان يختلفان إلى محمد بن إسماعيل. فرأيتُ يحيى مُنقاداً له في المعرفة». وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: «ما أخرجت خُراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري».

قال أحمد بن أبي بكر المديني: «محمد بن إسماعيل أفقه عندنا و أبصر من ابن حنبل». فقال رجل من جلسائه: «جاوزتَ الحد». فقال أبو مصعب: «لو أدركتَ مالِكاً و نظرتَ إلى وجهه و وجه محمد بن إسماعيل، لقُلت كِلاهما واحدٌ في الفِقهِ و الحديث». قلت: وبهذا وكثير مثله نرد على الغزالي الجاهل الذي زعم أن أحاديث صحيح البخاري تحتاج لنقد متون لأن البخاري لم يكن فقيهاً.

قال حاشد بن عبد الله: «كنا عند إسحاق وعمرو وهو يستملي على البخاري، وأصحاب الحديث يكتبون عنه، وإسحاق يقول: "هو أبصر مني". وكان البخاري يومئذ شاباً». وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر: «لما مات أحمد بن حرب النيسابوري، ركب محمد وإسحاق يشيعان جنازته. فكنت أسمع أهل المعرفة بنيسابور ينظرون ويقولون: "محمد أفقه من إسحاق"».

و قال أبو عمرو الخفاف: «حدثنا التقيّ النقيّ العالِم الذي لم أر مثله محمد بن إسماعيل. و هو أعلم بالحديث من إسحاق و أحمد و غيرهما بعشرين درجة. و من قال فيه شيئاً، فعليه مِنّي ألف لعنة». قلت: ليس بعشرين درجة.

قال علي بن حجر: «أخرجت خراسان ثلاثة: أبو زرعة، ومحمد بن إسماعيل، وعبد الله بن عبد الرحمن الله الدارمي. ومحمد عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم». وقال الدارمي: « محمد بن إسماعيل أبصر مني». وسُئِلَ الفضل بن العباس الرازي: أيهما أحفظ أبو زرعة أو محمد بن إسماعيل؟ فقال: «محمد بن إسماعيل جَهِدتُ الجَهد على أن أجيءَ بحديثٍ لا يعرفه، فما أمكنني. و أنا أُغْرِبُ على أبي زُرعة عدد شعره!». وذكر الترمذي في "علله" الدارمي وأبا زرعة ثم قال: «ولم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد، أعلم من محمد بن إسماعيل». و قال الحسين بن محمد بن حاتم المعروف بعبيد العجل: «ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل. و مسلمٌ لم يكن يبلغه. و رأيت أبا زرعة و أبا حاتم يستمعان قوله».

قال ابن خزيمة: «ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله r و لا أحفظ له من البخاري». وقال أبو عبد الله الحاكم: «محمد بن إسماعيل البخاري إمام أهل الحديث». وقال الأخرم: «رأيت مسلم بن الحجاج بين يديّ البخاري، و هو يسأله سؤال الصبيّ المتعلِّم». وقال له مسلم: «أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك». وقال مسلم بن الحجاج للبخاري: «دعني أُقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيّد المحدّثين، وطبيب الحديث في علله».

وسُئِلَ ابن الأخرم عن حديثٍ، فقال: «إن البخاري لم يخرجه». فقال له السائل: «قد خَرَّجهُ مسلم». فقال ابن الأخرم: «إن البخاري كان أعلم من مسلم و مِنكَ و مِنّي». و ذٌكِرَ له قصة محمد بن يحيى الذهلي معه فقال: «ما لمحمد بن يحيى و لمحمد بن إسماعيل؟ كان محمد أمة من الأمم، و أعلم من محمد بن يحيى بكذا و كذا. كان دَيِّناً فاضلاً، يُحسِنُ كل شيء».

 

أبو حاتم الرازي

قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: «ما رأيت أحفظ من والدك». قال عبد الرحمن: «و قد رأى أحمد بن حنبل و يحيى بن معين، و يحيى الحماني، و أبا بكر بن أبى شيبة، و ابن نمير، و غيرهم». فقلت له: «فرأيت أبا زرعة؟». قال: «لا».

 

الذهلي

محمد بن يحيى الذّهلي: كان أعلم الأئمة بحديث الزهري، وكان فيه تساهل خفيف في التوثيق. قال عنه أحمد بن حنبل: «ما رأيت أحداً أعلم بحديث الزّهري منه، و لا أصحّ كتاباً منه». وقال سعيد بن منصور ليحيى بن معين: «لِمَ لا تجمع حديث الزهري؟». فقال: «كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري». و قال الذهلي: قال لي علي ابن المديني: «أنت وارِثُ الزّهري». و قال إبراهيم بن موسى الرازي: «من أراد الزهري لم يستغنِ عن محمد بن يحيى». و قال الدارقطني: «من أحب أن يعرف قصور عِلمهِ عن عِلمِ السلف، فلينظُر في "علل حديث الزهري" لمحمد بن يحيى». قيل لأحمد بن حنبل: «من أعرف الناس بأحاديث ابن شهاب؟». قال: «أحمد بن صالح المصري، و محمد بن يحيى النيسابوري». وقال له ابن المديني: «أنت وراث الزهري».

 وجاء في المراسيل لابن أبي حاتم (1|191): «محمد بن يحيى كان بابه السلامة» يشير إلى تساهله.

 

الدارقطني

قال طاهر المقدسي: سُئِلَ الحافظ سعد بن علي عن الدارقطني وابن مندة والحاكم وعبد الغني، فقال: «أما الدارقطني (ببغداد) فأعلمهم بالعلل. وأما ابن مندة (بأصبهان) فأكثرهم حديثاً، مع المعرفة التامة. وأما الحاكم (بنيسابور) فأحسنهم تصنيفاً. وأما عبد الغني (بمصر) فأعرفهم بالأنساب».

 

المتأخرون

قال الذهبي عن حفاظ عصره: «أعلمهم بعلل الحديث والاستنباط ابن دقيق العيد. وأعلمهم بالأنساب الدّمياطي. وأحفظهم للمتون ابن تيمية. وأعلمهم بالرجال المِزِّي».

وقال السيوطي: «أربعةٌ تعاصروا: السراج البلقيني والسراج بن الملقن والزين العراقي والنور الهيثمي. أعلمهم بالفقه ومداركه: البلقيني. وأعلمهم بالحديث ومتونه: العراقي. وأكثرهم تصنيفاً: ابن الملقن. وأحفظهم للمتون: الهيثمي».